شارع عبد المقصود خوجة
جدة - الروضة

00966-12-6982222 - تحويلة 250
00966-12-6984444 - فاكس
                  البحث   

مكتبة الاثنينية

 
في روابي قباء (2)
كان القوم في المجلس ينشدون والصبي منصت لهم، إلا أنه ما يلبث أن يغادر المجلس الذي أحب، وهو إذ يفارق مجلس القوم، فإنما يفارقه كرهاً لا طواعية، فإن الدنيا لتضيق به ولا يعلم لماذا ضاقت به و ضاق بها، وإنه لزاهد فيها لكنه - في الوقت نفسه - يطمع أن يمتد به هذا العمر وتطول به هذه الحياة فيراه أبواه وقد حقق شيئاً من أمانيه، وكان أكثر ما يؤلمه أن يرى والدته وهي تجلس إلى جانب رأسه تسأله عن حاله، ولكن الصبي يلوذ بالصمت ويفضل السكوت، فهو في سن لا تؤهله لتفسير ما يرد على نفسه من ضيق وما يعتريها من تبرم، وهو لا يملك إزاء سؤالها إلا أن يدني رأسه من الأرض ثم يبكي، تبتل الأرض بدموعه ودموع أخوته الصغار الذين يشاركونه البكاء وإن كانوا لا يعلمون لماذا تغشى أخاهم مثل هذه الحالة؟
لماذا اختار لنفسه هذه العزلة فلا يشارك أنداده لهوهم الطفولي وعبثهم البريء؟
تنتابه رغبة ملحة في الخروج من الدار، فتراه يسلك الطريق الذي يفصل بين الزقاق والمسجد، يقصد شجرة (النبق) القائمة في فناء المسجد، إنه لا يعلم لماذا نفسه متعلقة بهذه الشجرة الخضراء التي لا يعلم الناس عمرها الحقيقي، فجميع أهل الحي نشأوا وهم يرون هذه الشجرة قائمة في هذا المكان، وأن أغصانها لتتمايل بين الحين والآخر حتى تكاد تغطي نوافذ تلك الدور التي تطل واجهاتها على مجرى السيل.
يجلس الصبي في الفسحة الواقعة أمام الباب الخلفي للمسجد، يقلب بصره في تلك السماء الصافية ويحس بتلك النسمات الندية القادمة من حي قباء الذي كانت في الماضي تنتشر البساتين على جانبيه، فوقتها لم تُبن بعد البيوت! ولم تُعَبّد بعد الطرق، ولم تقتلع بعد الأشجار! ولكنه وهو على حالته تلك التي تتراوح بين رفع بصره إلى السماء المشعة بالنجوم وبين استمتاعه بتلك النسمات، ويرى ذلك الرجل القادم من الشرق وقرص الشمس يوشك أن يحتضنه ذلك الأفق البعيد.
الرجل لا يتحدث إلى أحد ولكنه ينطق بكلمة واحدة إن هو اضطر إلى الحديث. ورفع الصبي رأسه فنظر إلى ذلك الوجه المنير، ابتسم ((سِرُّ)) الحي وقال له الكلمة التي طالما حاول الناس انتزاعها من فم الرجل، ((مقضيّة)) قال الرجل عبارته الثمينة ثم تابع سيره إلى الحوش الكبير حيث كان يقيم، ولقد شعر الصبي بعد سماع كلمة ((السر)) بشيء من الرضا، وترك هو الآخر موقعه وسار إلى الدار وأمسك ((بحبله)) المتدلي، فجره برفق، لينفتح الباب ويصعد الطفل درجات المنزل ليجد والدته تنتظره في ((الصفة)).. تأخذه بين أحضانها وتشير بيدها إلى الغرفة الصغيرة التي ينام فيها أخوته الصغار الذين ينتظرون قدومه، يتفحص الصغار وجه أخيهم فيلحظون أن الدمع قد اختفى والحزن قد فارق ذلك المحيا البريء ثم يعبرون عن فرحهم بهذا كله بطرق شتى لا يزال صبي الأمس يتذكرها. وإنه ليبكي اليوم بكاءً يفوق بكاء تلك الأيام التي تصرمت من عمره، ويسأل تلك النفس المؤرقة سؤالاً لا يجد له جواباً: أترانا نبكي أنفسنا أم نبكي زمناً قضت علينا الأقدار فيه أن نرى أقواماً يبتسمون في الوجوه ويطوون النفوس منهم على نزعات الحقد والكراهية، ويتصنعون الخلق الرفيع وهم غارقون في النقائص وكأنهم لم يقرأوا قول زهير:
ومهما تكن عند امرئ من خليقة
وإن خالها تخفى على الناس تُعلمِ
فالطبع كما يقولون يغلب التطبع، ويقول أهل المعرفة: ((نحت الجبال بالأظافر أيسر من زوال العادة إذا تمكنت في النفس)).
أيها السر الذي اختفى من حياتنا واختفت معه إشراقات النفوس، أتراك تعود ومعك ((البشارة)) في كلمة الحب، تسمعها في نشيد الوجدان الذي يسري نغمه شجياً في أجواء الليل ليبعث في النفس أشواقها إلى عالم تحسه ولا تراه، إلى آفاق يشع منها النور، ويشيع فيها الأمان الأبدي.
أيها السر لطالما ارتفع الصوت منك متأوهاً وتعالى نداؤك في حلقة القوم حلواً ندياً:
شعر:
غيري على السلوان قادر
وسواي في العشاق غادر
يا ليل مالك آخر
يرجى ولا للشوق آخر
يا ليل طل، يا شوق دم
إني على الحالين صابر
طرفي وطرف النجم فيك
كلاهما ساه وساهر
يهنيك بدرك حاضر
يا ليت بدري كان حاضر
حتى يبين لناظري
من منهما زاه وزاهر
بدري أرقُّ محاسناً
والفرق مثل الصبح ظاهر
 
طباعة

تعليق

 القراءات :636  التعليقات :0
 

الصفحة الأولى الصفحة السابقة
صفحة 82 من 482
الصفحة التالية الصفحة الأخيرة

من اصدارات الاثنينية

ترجمة حياة محمد حسن فقي

[السنوات الأولى: 1995]

الاثنينية - إصدار خاص بمناسبة مرور 25 عاماً على تأسيسها

[الجزء العاشر - شهادات الضيوف والمحبين: 2007]

الاستبيان


هل تؤيد إضافة التسجيلات الصوتية والمرئية إلى الموقع

 
تسجيلات كاملة
مقتطفات لتسجيلات مختارة
لا أؤيد
 
النتائج