شارع عبد المقصود خوجة
جدة - الروضة

00966-12-6982222 - تحويلة 250
00966-12-6984444 - فاكس
                  البحث   

مكتبة الاثنينية

 
في روابي قباء (1)
كلما حاولت الاقتراب من الكتابة حول هذا الحي في المدينة، يستجد في حياتي ما يصرفني عن مثل هذه الكتابة وما أكثر الشواغل في دنيانا هذه وما أعجب النفس في التعلق بها!.. واليوم وجدت النفس غارقة في ذكريات تتصل بهذا الحي وأهله. فلقد تفتحت عيناي في هذا الوجود، أو قل إنني أبصرت نور الحياة بين موقعين متقاربين هما ((حوش عميرة)) و ((زقاق السيد أحمد)) الذي كانت دارنا تقع في أوله، وكنت كثير التردد على حوش عميرة لوجود دور بعض الأقارب فيه، وكان مما يجذبني إليه وجود بعض أندادي في السن بين منعطفاته المتعددة، فكان ذلك كافياً بإغرائي لمشاركتهم فيما كانت تتطلع إليه النفس، في مرحلة الطفولة، ومن ضروب اللعب والتسلية، التي اختفت في عصرنا الحاضر تماماً ولم يعد لها وجود البتة.
وكنت أشعر في تلك المرحلة المبكرة من حياتي بأن أهل ذلك الحي يعيشون حياتهم كأسرة واحدة، كباراً أو صغاراً، رجالاً ونساء، دورهم يا صديقي متشابهة، ونفوسهم متآلفة، ومائدتهم واحدة يعيش في هذا الحي الغني إلى جانب الفقير، ولا تشعر الأرملة فيه بغربة لأن طبيعة الحياة فيه تجعلها تشعر أن جميع أبناء الحي هم أبناؤها، وأن رجاله هم سندها وعضدها بعد أن غاب عنها الراعي واختفى من حياتها الأنيس.
أسلك الطريق من تحت السقيفة التي كانت تعتبر مدخلاً لهذا الحوش، وكانت هذه السقيفة أيضاً تشكل جزءاً من دار الشيخ الكريم أمين شيخ أمد الله في عمره وكان العم أمين يجلس أمام الدار بعد صلاة العصر، ولقد كان مما يلفت نظري ويشد انتباهي ذلك الرجل الأنيق في ملبسه، الرقيق في عبارته، لا يخلع عباءته السوداء حتى عندما كان يأخذ مجلسه أمام دار الشيخ أمين، ولم يكن ذلك الرجل صاحب الهيئة المتميزة سوى شقيق صاحب الدار وهو الشيخ أحمد شيخ - رحمه الله، كثير من رجال تلك الحقبة كانوا يهتمون بما يلبسون ويولون جانباً كبيراً لهيآتهم عندما ينصرفون من دورهم ويبرزون أمام أعين الناس.
في دارنا كنت أرى سيد الدار يقضي وقتاً كبيراً في لف عمامته الصفراء التي كانت تسمى بـ ((الغباني)) وهو لا يضعها فوق رأسه إلا بعد أن تكون سيدة الدار قد عالجتها ((بالنشا)) معالجة دقيقة وهيأتها بـ ((المكوى)) كأحسن ما تكون التهيئة، ووضعتها في المكان المخصص لها بحيث لا تخطئها عيناه عندما يعزم على الخروج من الدار في الصباح الباكر أو عندما تدنو الشمس من المغيب، ويبدأ الناس في الخروج إلى المسجد لأداء صلاة الجماعة مع أهل الحي في أحد المسجدين المعروفين ((مسجدي سيدنا عمر وبلال، رضي الله عنهما)) وما إن يتأكد من ذلك الوضع الأنيق الذي أضحت عليه عمامته، حتى ألحظه يمد يده لتلك الجبة البيضاء الطويلة نسبياً فيرتديها، والجبة هي ما كُنّا نطلق عليه في المدينة اسم ((الكوت)) ثم يتلفت حوله فيرى العباءة المطرزة جوانبها ((بالزيق)) وهو خيط ذو لون ذهبي ناصع، ثم يتناول العباءة من اليد التي تحملها له، يلبسها ولكنه يتعمد رفع أحد طرفيها على كتفه، فتبدو للناظر تلك الصنعة المتقنة في ذلك اللباس، والتي كانت الأيدي الماهرة تحيكه في الجزء الأخير من سوق ((القفاصة)) المعروف بحي سيدنا مالك - نسبة إلى مالك بن سنان والد الصحابي الجليل بي سعيد الخدري - رضي الله عنهما - والذي جرح في معركة ((أُحد)) وقضى في داره التي أصبحت مدفناً له، وكان يقيم فيها الحقبة الماضية كُتّاب الشيخ محمد علي الحلبي - رحمه الله - ولعلّ الزميل الدكتور بندر حمزة حجار الذي درس معي في هذا الكُتّاب يتذكر جيداً هذا الموقع، الذي أصبح أثراً من آثار الماضي.
تمتد يد الطفل الصغير ((لدفة)) الروشان، فيرفعها برفق ليشاهد والده على تلك الهيئة وهو ينقل خطاه برفق وتؤدة بين ((السيح)) و((المناخة)).
ما أروعه يا صديقي من منظر! وما أجمله من وقت يوم كان الأنس يملأ الحياة بجميع جوانبها، الصوت الشجي يرتفع من فوق منارة المسجد، والماء يسيل في وادي ((بطحان)) والأطفال يحملون بين أيديهم ((نُبيلاتهم))، جمع نُبيلة يصيدون بها العصافير التي كانت تحط فوق أغصان شجرة ((النبق)) في فناء المسجد، وأهل الحي يطرقون أبواب بعضهم يحملون ما صنعته سيدات البيوت من طعام، وكأنني أسمع صوت سيدة الدار، كيف تأكل وأهل الحوش لم يذوقوا شيئاً من هذا الطبق الذي صنعناه اليوم؟ أطرق باب دار العم ناجي، أو حسين البكري، أو محمد بن مسلم - رحمهم الله جميعاً - وأفاجأ بأن أطباقاً من هذه البيوت يحملها أبناء الحي ممن أحسبهم أنداداً لي، ولعلّهم قصدوا بها دارنا والدور الأخرى في زقاق ((السيد أحمد)) الذي لا تتجاوز منازله عدد أصابع اليدين.
يا صديقي.. جارنا الذي كان يسكن بالأمس بالقرب منا، لا أعلم في أي مكان بعد رحلة العمر ألقى رحله. لقد شغلتني الحياة فلم أعد أسأل عنه، وهل ذلك يشفع لي، أم هو عذر أستر به تقصيري في حقه، وابن الحي الذي ألهو معه، في مرحلة الطفولة بالقرب من المسيل، لا أكاد أتبين ملامحه أو أعرف سماته عندما تجمعنا الصدف، والعناية - كما يقول نشيد القوم - صُدَفْ.
رجال الحي الذين كانوا يتجمعون أمام الحي ويلعبون ((الكبوش)) ضمهم الثرى بين جنباته، واختفى معهم ذلك الأنس الذي تحياه بكل ((معانيه)) نفوسهم الطاهرة وقلوبهم النقية التي لا تعرف غشاً وخداعاً، وشجرة ((النبق)) امتدت إليها يد إنسان هذا العصر فاجتثتها من كل موقع كانت تحس بالأمان والطمأنينة فيه، هذا الإنسان الذي أضحى يفضل رؤية الزهور والأشجار القادمة من عواصم الغرب، لم يعد في حاجة لأن يمتع ناظريه بمرأى المياه وهي تنحدر في ذلك المجرى الذي يمتد بين ((قربان)) وبستان ((أم هانئ)) أقام في منزله - عوضاً عن ذلك - حوضاً للمياه تعيش فيه أسماك الزينة، وهل يعيش السمك حياته الحقيقية إلا في المكان الذي خصصه الله له بين بحر يتماوج ونهر يتدفق.. لقد سجن إنسان هذا العصر نفسه بين هذه الحوائط الإسمنتية التي صنعتها يداه، وهو يتطلع لأن يسجن معه حتى تلك الطيور التي لا تستعذب الغناء إلا فوق أغصان الأشجار التي تنتقل بينها في حرية وهبها الله لها، وتحزن عندما يحاول هذا الإنسان اغتصاب ما وهبه الله إياها، وهل تملك من وسيلة أخرى سوى الحزن؟ ولكم داوى الحزن نفوساً عندما عجزت الحياة عن أن تشيع فيها أجواء المسرة والهناء.
 
طباعة

تعليق

 القراءات :675  التعليقات :0
 

الصفحة الأولى الصفحة السابقة
صفحة 81 من 482
الصفحة التالية الصفحة الأخيرة

من ألبوم الصور

من أمسيات هذا الموسم

الأستاذ الدكتور عبد الله بن أحمد الفيفي

الشاعر والأديب والناقد, عضو مجلس الشورى، الأستاذ بجامعة الملك سعود، له أكثر من 14 مؤلفاً في الشعر والنقد والأدب.