ذكرياتٌ مِنْ الحَصْوة (5) |
أتيت ((مكة)) في أواخر الثمانينات الهجرية - ولي فيها من القوم صديق أثير هو الشيخ ((عبد الوهاب خياط)) - والد الصديق الأديب الأستاذ فوزي خياط - والصهر للأساتذة الكرام عبد الرحمن وعبد الله ومحمد عمر خياط. |
كان الشيخ عبد الوهاب واحداً من الرجال القلائل الذين تجتمع في شخصياتهم مواهب عدة، فهو متحدث سريع الحاضرة، وإذا تحدث فحديثه أقرب إلى الهمس، يعرف عن الأدب وفنونه ما يجعلك تنصتُ إليه في إعجاب وإكبار ومع هذ فهو لا يدعي أنه أديب، وهو حين يُحدّثك عن الموسيقى تسمع منه ما يجعلك تعتقد أن الرجل قد تعمق في هذا العلم فلا يضاهيه فيه أحد. |
كنت أسمع بالدكتور هاشم ونديده سعيد شاولي. وذات يوم صعدت ((طَلْعةَ)) الشامية وطرقت باب الدار، فأطل الشيخ عبد الوهاب وحَيَّاني مبْتسماً، وقضيتُ سحابةَ ذلك اليوم في داره.. وفجأة سألني: هل تريد أن تسمع ((الدكتور))؟ وقبل أن أجيب، لاحظ أن الوقت لم يكن فيه متسع وذلك لقرب حلول صلاة المغرب، فتوجهت إلى بيت الله الحرام، وحين وصلت، وجدت في نفسي الرغبة والجرأة على طرْق باب المقام (المكان المُخصص للأذان)، ووجدت الشيخ صالح فيْدَة رحمه الله، وكُنْتُ على معرفة به، ووجدته متهيئاً للأذان، وبعد قليل دخل علينا رَجُلٌ في مُقْتبلِ العُمْر تبدو عليه علامات الذكاء والفطْنة، فهمَسَ الشيخ الفَيْدَة في أذني قائلاً: هذا الشيخ ((خَطّاب شاكر))، وعَرفْتُ فيما بعد أنّ والده الشيخ يعقوب شاكر كان شيْخاً لمؤذني ((مكّة))، وكان لكلّ مؤذّن قاعدة ولكل صوْت ما يميزه عن غيره. |
وأدركتُ في البلد الحرام كبار المؤذنين وعرفتُ الكثرة منهم، وجلَستُ إلى رِجَال تخرجوا في مدرسة الحياة. عرفْتُ عبد الله وحمزة بصْنوي وأحمد شحّات وعبد الرحمنُ مؤذّن، وعبد الحفيظ خوجه وأحمد توفيق، وعبد اللطيف مُلاّ وغيرهم من أهل البلد الحرام، ولكن مَعرِفتي كانت الأوثق بصاحب الوجه الحيّي والنّفس الكبيرة - عبد الله بَصْنوي. |
رحمك الله يَا أبا محمد، تُرَاني ماذا أنا قائلُ عَنْك بعد عمرٍ قَضَيْته في طاعَة الله، وجَبْر النفوس الكَبيرة؟.. صَدَى كلماتِِك لا يزال يرن في مسمعي في كل لحظة، تقولُ لي: والابتسامة الوقورة على محياك: ليتنا تعارفنا قبل هذا الوقت. لقد بكيتُك في الحجون ونحن نوسدك الثرى، وأبكيكَ في كل يوم أرى فيه جحود بعض من كنت أعرف، فإذا هم قد نسوك.. أخذتهم عنكَ ضجة هذه الحياة، وعندما تسلطت عليهم نفوسهم الضعيفة واحتواهم الغرور وأخذهم زهو المكان الذي ارتقوا إليه، خالوا أنفسهم أنهم في موضع لا يحتاجون معه إلى صداقة أو إخاء. |
كان من أقرب الناس إلى نفسي رجل عرفته في ((سُوق الليل)) يرتدي عمامَتهُ في أناقة أبناء الحارة، ويحييك فلا تشعر أنه يتصنع المودة. كان يجلس معنا في درس العلامة الشيخ ((حسن مشاط)) رحمه الله، وكان رجلاً شديد التواضع والأدب، فقد كان ((سيد القوم وخادمهم)) وكان مؤذناً مميزاً، فإذا صعد المقام وأذَّنَ، أخذك جلال صوته، ذلك الرجل هو ((إدريس عبد الله كُنو)). وكما كان الشيخ ((عبد الله نعمان)) - في بلد المصطفى صلى الله عليه وسلم يستحث النفوس الغارقةَ في لذة النوم بنداء ((الصلاة خيرٌ من النوْم)) فتترك مضجعك لتتوجه إلى الرّوضة المشرّفة، كان صوت إدريس كنُو في البلد الحرام يترك مثل هذا الشعور في نفوس يحملها الصوتُ الندي لتتدافع في سيْرها لتحظى بركَعَاتٍ بين الحجْر والمقام. |
وجئِْتُ مرة الحرم في مكة زائراً - وكنت بصحبة الصديق الأستاذ محمد نور عبد المقصود، وسَمِعْتُ صوت ((إدريس)) يَرْتفِعُ مِنْ المقامِ، وبعد انتهاء الصلاة جاء ((إدريس)) يتوكأ عَلَى عَصاهُ، وعندما رآني ابتسم، فسألته عن حاله، وأجابني وفي صَوْته شيءٌ مِنْ الحزن: ((ماشين في هذه الدُّنيا))، وحينها شعرْت بأنني أودع واحداً من الرجال المهذبين.. ولم تطل المدة حتّى جَاءني الصّوْتُ عَبْرَ أسلاك الهاتف ((يُعْطيك عُمْرُهُ)) مات إدريس. وحكى لي الصدّيق الأستاذ هاشم فلاته قائلاً: طلب مني إدريس أن أصحبه لزيارة ((الحجُون)) قبل وفاته بأسبوع واحد، ويوم وَقَفَ بالقُرْب من ((الربوة الطاهرة)) سمعه رفيقه يقول بصوت ملؤُه الشجن والشوق: متى أيّتُها التّربة الزكيّة تحضنينني؟ لقد كان صَديقي يَرْثي نَفْسه، وبكيْتُ إدريس، ذلك الرجل الذي جَمَعَ في شخصيته بين شهامة ابْن الحارَة، ووداعة طالب العِلْم. |
كُنْتَ لا تملُّ حَديثه، ولا تريد أنْ تفارقه، أما وقد خُلقنا للموت، فالأمَاني هنا ضرب من الوهْم والمستحيل. |
وكان إدريس يقطن حي ((المسفلة)) الذي إذا دخلته ظَنَنْتَ أن الحزن لم يعرف طريقه إلى قلوب أولئك القوْم الذين يَفْرحون بالحياة ويَصْدحُون بأصواتهم منشدين. هناك كان يجلس ((التّيِجاني)) شَيْخ الرّكْب، وتلك الدور العامرة لآل ((الفارسي))، و((الفيلالي))، و((أبو رزيزة))، و((العطّاس)). |
وذات يوم، سألني الأخ جميل فارسي إذا كنت أعرف العم ((سلمان فوال)). كنت أعرفه جيداً، فقد كان من رجال الشيخ محمد علي فارسي وكان يعتز بصداقتِه لآل الفارسي، وقد أكرموه بالحب حياً وميتاً، وكان من أنداده ((اليابا)) رجَبَ، و((أمين أبو ظلام))، و((عثمان سَادَة))، و((خضر ولد الشيخ)). |
ولن أنسى مناسبة حضرتها في ((جُدّة)) قبل حوالي عقدين من الزمن كان سلمان فوال حاضراً فيها، وكان يرتدي لباسه البلدي، ممسكاً بعصاه متمنطقاً بحزامه، ويُغطِّي رَأْسَه ذلك الغَبَاني والأصْفَر، كان معالي الأستاذ محمد سعيد فارسي حاضراً تلك المناسبة، وحين رأى سلمان، ترك مَجْلِسَه واتجه إليه مسلماً وأخذه بيده ليجلسهُ بجانبه. |
هذا الموقف طالما كان ذكرني بمواقف مماثلة لمعالي السيد أحمد زكي يماني، الذي كان إذا رأى الشيخ عبد الله بصنوي رحمه الله، يسرع إليه محيياً إياه في أدب وإجلال كبيرين، وكان يناديه وكأنه يتفاخر به ((عمي عبد الله))، وطالما سمعت هذه العبارة من أبي فيصل - ذلك الصديق الصدوق - وهو يَجْلس على كرسي الوزارة.. ورأيته يحتفي به ويقول له: ((كم رعيتني صغيراً في الحارة))، وقد كان الشيخ عبد الله شيخ ((الشامية))، وهي الحارة التي نشأ فيها الشيخ زكي يماني. |
آخرُ الكلام: |
إلى من طلب مني - وهو عزيز على نفسي - أنْ استمر في الكتابةِ، وأقول: القليل من هذا يكفي، لقد حَملني الوفاء أن أقول شيئاً، فقد فرقتنا دروب الحياة وجمعنا حب الكلمة فلنحَلّق في آفاقها ولعلّ الأرواح تلتقي في عالم الطهْر والجلال والجمال. |
|