شارع عبد المقصود خوجة
جدة - الروضة

00966-12-6982222 - تحويلة 250
00966-12-6984444 - فاكس
                  البحث   

مكتبة الاثنينية

 
ذكرياتٌ مِنْ الحَصْوة (4)
لا أعرف صوتاً من خارج دائرة ((المؤذنين)) كانت لديه القدرة على جذب الأسماع وإثارة الشجن في النفوس كصوت السيد ((حسين بن إدريس هاشم)). كانت مجالس الإنشاد عامرة بالرجال وهي مجالس تقوى وطهر يرعى فيها الكبار صغار السن من أبناء البلدة الطاهرة ويوجهونهم من خلالها توجيهاً حميداً، وكانت في مقدمة هذه الدور، دار الشيخ الفاضل ((محمد شقرون)) التي كانت تقع بـ ((الجديِّدة)) بحيّ التاجوري. وهناك سمعت السيد حسين ينشد الروائع من شعر المديح النبوي، وهو شعر يتغنى بمواطن المدينة المنورة، تلك المواطن التي مشى فوق ثراها سيد الخلق صلى الله عليه وسلم فهي تنطق بالتاريخ المجيد لهذه البقعة الطاهرة، وهذا التاريخ هو الذي كان وما زال يستحث المبدعين من الشعراء ليتغنوا بها حباً وهياماً.
وكانت دواوين المديح النبوي تنتشر بين أبناء البلد الطيب، وكانت لدى السيد حسين نظرة فاحصة فيما يتصل باختيار الروائع من هذا الشعر الجميل، كما هو الشأن في قصيدة الشاعر المعروف الأستاذ ((حسن مصطفى الصيرفي)) التي يقول مطلعها:
أنا دار الإيمان والمُثل العليا
ورمز الخلود في كل مجد
أنا إن بدد الزمان شعاعي
لن ترى النور هذه الأرض بعدي
أنا خير البقاع كرمني اللَّه
بخير الأنام في خير لحد
ولقد تشرفت بأن أكون أحد المشاركين في حفل تكريم الأستاذ الصيرفي في اثنينية الصديق الأديب الأستاذ ((عبد المقصود خوجه))، وقرأ الشاعر الصيرفي مقاطع من قصيدته وذكر أنه بدأ في نظم أبياتها وهو على سفح جبل (الرُّماة) في منطقة سيد الشهداء حمزة بن عبد المطلب رضي الله عنه وأن تلك المواقع أثارت فيه الشجن وكان برفقته - على جبل الرماة - الشاعر السيد محمد هاشم رشيد، أحد مؤسسي (أسرة الوادي المبارك) والتي كانت النواة الحقيقية لانطلاقة (نادي المدينة الأدبي) في فترة لاحقة.
ومن يقرأ قصيدة الشاعر الكبير حافظ إبراهيم في مصر، يجد أن الصيرفي قد عارضها في قصيدته عن المدينة، ولا شك أن الأستاذ الصيرفي قد أبدع في رائعته التي تعتبر من الشعر الخالد، ولقد شاهدت دموعاً تهمي، ونفوساً تطربُ، وآذاناً تصيخ عندما كان السيد حسين هاشم يشدو بهذه القصيدة، ومع أن المرحوم حسين هاشم ينتمي لأسرة عرفت بالعلم والفضل وكان والده منشداً وأخوه الأكبر السيد ((ياسين)) صاحب صوت ندي، إلا أن السيد حسين قد أفاد ممن سبقه من المنشدين في المدينة كالسادة ((آل الرفاعي))، والشيخ ((محمد علي النجار)) الذي كان يطلق عليه ((بلبل المدينة المغرد)).
وفاجأ السيد حسين هاشم - ذات يوم - الأستاذ ((عبد الستار)) بمحاكاته له في الإنشاد، وكان ((حسن بخاري)) - ابن الأستاذ عبد الستار - معجباً بصوت السيد حسين هاشم وملازماً له، ولم يكن هناك شبه بين صوت الأستاذ عبد الستار وابنه حسن.
وكان السيدان الكريمان علي وعثمان حافظ - رحمهما الله - وهما من رواد الأدب والثقافة والتعليم في البلدة الطاهرة - يطيب لهما سماع صوت السيد حسين، ورأيت السيد مصطفى عطار - قبل ربع قرن من الزمن - يطلب من أبي ((طلال)) أن يترنم في حضرة وجهاء البلد الكريم. وتعود بي الذاكرة إلى سنين تصرمت وأيام ولت، فلقد رأيت السيد حسين وأخاه ياسين وبصحبتهما مصطفى الحموي - رحمه الله - والشيخ فضل الرحمن - أطال الله عمره - يسيرون في إحدى الليالي بزقاق الطوال، كان السيد يبتسم قائلاً: لم يتفوق عليّ أحد إلا ((فلان)) في مقام الحجاز، ولربما كان يقصد الشيخ المؤذن ((حسن لبني)) - رحمه الله - أحد الأصوات المعروفة في البلد الحرام.
في نهاية التسعينيات الهجرية كنت أقطع المسافة بين ((الشامية)) و ((المسفلة)) سيراً على الأقدام، وبالقرب من السوق الصغير الذي كان يقوم على مقربة من بيت الله الحرام، استوقفني الأخ ((محمد أمان)) وقال لي: هل سمعت الخبر؟ فقلت: أي خبر تعني؟ فرد علي وشيء من الحزن في كلماته: لقد توفي صباح هذا اليوم ((السيد حسين)) في دار صهره الشيخ أمين قطان، لقد أحيا ليلة في منزل ((سعيد قطب)) بالعزيزية وكانت آخر قصيدة ينشدها في تلك الليلة التي يفرح فيها المؤمنون بمولد الرسالة النبوية، من شعر الأستاذ السيد علي حافظ - رحمه الله - والتي يتشوق فيها إلى مدينة الهدى والنور قائلاً:
سقاك اللَّه يا تلك المغاني
بطيبتنا فما أحلى رباها
ومن أبيات القصيدة التي كان يطيب للمتعلقين بالأرض المباركة سماعها:
فيا طيب المدينة كل شبر
يضيء بها ويرفل في سناها
ويا طيب المدينة كل نفس
تود لو أنها نالت رضاها
ويا طيب المدينة كل قلب
يطير لها ويخفق في لقاها
ويا طيب المدينة زملوني
بتربتها لأنعم في حشاها
دعوني ألثم الترب احتراماً
لما في الترب من طهر تناهى
ونام منشدنا الفريد ليلته في البلد الذي كثيراً ما رددت جنبات دوره صدى صوته الشجي، وعندما استيقظ من هجعته - صباحاً - أسند رأسه إلى الحجر الرؤوم وأسلم الروح إلى عالم الملكوت.
ويؤكد صديق عمره ورفيق دربه الشيخ فضل الرحمن أنه لم يكن هناك من يجاري ((حسين هاشم)) في موهبته الصوتية إلا المرحوم المؤذن حسن لبني، ولكنني كنت ألحظه - رحمه الله - يصغي بإعجاب إلى الشيخ الكريم ((زيني بويان)) والسيد الفاضل ((عباس المالكي)) وهما رائدان في فن الإنشاد الديني.
كان حسين هاشم الأخير في سلسلة الحداة والمنشدين المتنوعة المواهب من أمثال: محمد علي نعمان، البناني، إبراهيم سمان، أحمد سمان، إبراهيم صباغ، عيد صباغ، عبد الستار بخاري، حسين بخاري، ياسين هاشم، عقيل توفيق، إبراهيم نجدي، هاشم نجدي، حمزة نجدي، محمد سعيد حبش. وقد أدركت قليلاً من هؤلاء، والآخرون عرفت عنهم من والدي - أسكنه الله فسيح جناته - والشيخ جعفر فقيه، والأستاذ عبد الستار بخاري، والشيخ حليت بن مسلم - رحمهم الله، والأستاذ الأديب عبد الرحمن رفه، وشيخ المؤذنين حالياً الصديق عبد الرحمن عبد الإله خاشقجي.
واختفت - بمرور الأيام - كثير من الأصوات الندية في بلد الإيمان، والعلم والثقافة والأدب - بمختلف فنونه - وبقي القليل الذي يشعرنا بومضات من الماضي الزاهر لفن راق بينه وبين فن الشعر وشيجة قوية، خصوصاً ذلك الشعر الذي ترنم بالعقيق، والرانوناء، والساحة، والمناخة، وقربان، وقباء.
 
طباعة

تعليق

 القراءات :1786  التعليقات :0
 

الصفحة الأولى الصفحة السابقة
صفحة 78 من 482
الصفحة التالية الصفحة الأخيرة

من ألبوم الصور

من أمسيات هذا الموسم

الدكتور سعيد عبد الله حارب

الذي رفد المكتبة العربية بستة عشر مؤلفاً في الفكر، والثقافة، والتربية، قادماً خصيصاً للاثنينية من دولة الإمارات العربية المتحدة.