شارع عبد المقصود خوجة
جدة - الروضة

00966-12-6982222 - تحويلة 250
00966-12-6984444 - فاكس
                  البحث   

مكتبة الاثنينية

 
ذكرياتٌ مِنْ الحَصْوة (3)
كانت المدينة وحرمها الشريف وأحياؤها القريبة من مثوى رسول الله صلى الله عليه وسلم تمتلئ بالزائرين طوال العام وخاصة من جيران بيت الله الحرام، وكان المكي - بدءاً من العالمِ ومروراً بطالب العلم وانتهاءً بابن الحارة - يلتزم بكل سلوكيات الأدب إذا دخل بلد رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهذه ليست مجاملة مني للإخوة المكيين فالأخ أبو علاء الأستاذ الأديب ((محمد عمر عامودي)) وأستاذي معالي الدكتور ((عبد الوهاب أبو سليمان)) يعلمان أني قضيت ردحاً من الزمن بين ((الشامية)) و ((المسفلة)) و ((الشعب)) و ((النّقا))، وعرفت من أخلاق القوم في مكة وشهامتهم ونبلهم شيئاً كثيراً، وهذا ليس غريباً على من تفتحت عيناه على مشهد تنزل عليه الرحمات في كل لحظة من لحظات الزمن، ليس بغريب على من يفتح عينيه ويغمضهما على رؤية بيت الله أن يتجسد الأدب في أخلاقه وسلوكياته إذا ما جاء لمسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم ولمقامه الشريف زائراً.
كان حرم المدينة موئلاً لسادتنا من علماء مكة من أمثال الشيخ العلامة ((حسين المشاط))، والمشايخ والسادة، ((علوي عباس المالكي))، و ((محمد أمين كتبي))، و ((محمد نور سيف))، وقد درس هذا الأخير في حرم المدينة بالقرب من خوخة أبي بكر الصديق رضي الله عنه وقرأت عليه في بداية التسعينات الهجرية أبواباً من كتاب (رياض الصالحين).
وكان مؤذنو ((مكة)) يطيب لهم أن يرفعوا الأذان من فوق منائر المسجد النبوي الزَّاهر، لقد سمعت في المدينة في زمن ماضٍ أذان ((أحمد شحات)) و ((صالح فيدة)) و ((حمزة بصنوي)) و ((عبد الله بصنوي))، رحمهم الله جميعاً. وكان الشيخ البصنوي يتهيب صعود المقام في المدينة ليقيم الصلاة ورعاً منه، رحمه الله، وتقوى، ولقد رأيت الشيخ ((عبد الرحمن خاشقجي)) يأتي به من المكان الذي اعتاد أن يصلي فيه بالقرب من ((دكة الأغوات)) ويطلب منه الصعود إلى ((المكبرية))، ولقد حدثني الشيخ البصنوي، رحمه الله، قائلاً: إذا كبَّرْتُ وراء الإِمام تكبيرة الإحرام تجسد أمام عيني تاريخ هذا المقام الطاهر فأحس بقصور ذاتي أمام عظمة وروحانية هذه الأماكن التي شرفها الله بحبيبه صلى الله عليه وسلم وصحابته وآل بيته والتابعين - رضوان الله عليهم أجمعين -
ورُوي عن الشيخ البصنوي أنّ الريّس عبد الستار كان يؤذن في الحرم المكي أحياناً أثناء إقامته بمكة، أما السيد الفاضل ((عباس المالكي)) - الذي يعتبر اليوم مرجعاً في الأناشيد الدينية - فقد أكد لي تأثر السيد ((سعيد أبو خشبة)) بقاعدة الأستاذ عبد الستار. ومما يؤسف له أننا لا نحتفظ اليوم بشيء من تراث الاثنين،وحتى قصيدة ((ربّاه)) التي أبدعها الشاعر الرومانسي ((طاهر زمخشري)) وأنشدها السيد ((سعيد)) لا تكاد تسمع إلا نادراً، مع أن هذا تراث أصيل يتوجب على إعلامنا الاحتفاء به ونقله للأجيال التي تكاد تفقد ذاكرتها... فنحن نعرف عن شوقي وحافظ وخليل مطران وعبد الرحمن شكري والشابي أكثر مما نعرف عن شحاته والعوّاد وقنديل والسيد الفقي والسيد عبيد مدني ومحمد العامر الرّميح ومحمد علي السنوسي، والأمر ينطبق على فنون القول الأخرى.
ولقد أحسّ المرحوم عبد الستار بخاري - بعد أن تقدم به العمر - بشيء من النكران والجحود الذي لم يعد - للأسف الشديد - غريباً على بيئتنا التي يفترض فيها أن تكون رائدة في قيم الوفاء التي تمثل الوجه الحضاري لأمة قدمت لأمم الأرض جميعاً خير شريعة وأكرم تراث، وما زالت مقصداً لمن يحرصون على معرفة المنطلقات الحضرية والفكرية والأدبية لتراث الأمتين الإسلامية والعربية، مما دعا الأستاذ المرحوم ((محمد حسين الزيدان)) أن يطلب من الناشئة - قبل حوالي ربع قرن من الزمن - أن يجلسوا إليه ويفيدوا من معارفه الواسعة.
وتجسد هذا الشعور عند المرحوم عبد الستار بخاري في موقف له مع معالي الشيخ ((محمد عمر توفيق)) رحمه الله، وكان الشيخ محمد عمر قد طلب العلم في المدينة على رجل من خيرة علماء البلدة الطاهرة وهو الشيخ ((أمين الطرابلسي)) رحمه الله، الذي جمع بين علوم الشريعة بكل أبعادها ومقاصدها وبين علوم الرياضيات والفيزياء والفلك، وكان مرجعاً في هذا الحقل الأخير من العلوم العقلية، ولكنه كان زاهداً في الشهرة وعازفاً عن الظهور. أعود إلى الموقف ذاته، فلقد ذهبنا لمقبرة المدينة ((البقيع)) لنودع جسد الشيخ ((سالم أبو عوف)) إلى مثواه الأخير، وكان الشيخ سالم صهراً للشيخ محمد عمر توفيق، وبعد أن سوّى القبر وذرف الأقارب والأباعد الدمع على المتوفى مدّ الشيخ محمد عمر توفيق - وكان وقتها وزيراً للحج والأوقاف بالنيابة - يده بأدب ليصافح الرّيس عبد الستار الذي كان بارزاً بين الناس لطول قامته، وحين سأله الشيخ عن حاله أجابه الرّيس ((أنت تعرف أنني الأفضل بينهم ثقافة ومعرفة باللغة وبالموسيقى أيضاً..)) ويقصد بـ ((بينهم)) المؤذنين، وبـ((الموسيقى)) إتقانه لمقامات الصوت، حتى إنّ بعض أشهر الحفظة لكتاب الله اليوم هم من طلبة الريس عبد الستار، فابتسم معالي الشيخ محمد عمر، مع أن الموقف كان موقف حزن، وردّ بكلمات تنم عن معرفته لمقام الرّيس.
ومضت الأيام وسار قطار الزمن سريعاً ووصلني نعي الرّيس، وأنا أتنقل بين ((لانكستر)) و((مانشستر)) للدراسة، فكتبت في صحيفة المدينة أرثيه، لقد كان القلم يرثي علماً وتاريخاً وأدباً، ولقد كانت الكلمات تجسد شيئاً من حب تلك الأرض التي احتضنت بين ذرات ترابها أكرم ذات وأطهر جسد وروح - عليه صلوات الله وسلامه.
 
طباعة

تعليق

 القراءات :879  التعليقات :0
 

الصفحة الأولى الصفحة السابقة
صفحة 77 من 482
الصفحة التالية الصفحة الأخيرة

من اصدارات الاثنينية

ديوان الشامي

[الأعمال الكاملة: 1992]

الاستبيان


هل تؤيد إضافة التسجيلات الصوتية والمرئية إلى الموقع

 
تسجيلات كاملة
مقتطفات لتسجيلات مختارة
لا أؤيد
 
النتائج