شارع عبد المقصود خوجة
جدة - الروضة

00966-12-6982222 - تحويلة 250
00966-12-6984444 - فاكس
                  البحث   

مكتبة الاثنينية

 
أشجان الشامية (13)
أثار موت الأخ عادل طيِّب - رحمه الله - شقيق الأستاذ الكريم محمد سعيد طيب - في نفسي كثيراً من الشجون حول الشامية وأهلها، ولم أعرف حارة - بعد حارتي في المدينة: العنبرية - كمعرفتي بالشامية، أدركت فيها الشيوخ والكهول والشباب تتوزع دورهم ومجالسهم في أنحاء الحي الذي يقصده الناس في البلد الطاهر.
فمجلس الشيخ عبد الله بصنوي - رحمه الله - كان مقصداً لجميع ذوي الحاجات، وكان المرحوم البصنوي - يُؤدي صلاة الفجر مع الجمعة، حتى إذا طلعت الشمس، وضع إزاره على كتفه، أو تعمَّم به، وخرج من باب المسجد إلى موضع البازان، كان هناك صديقه المرحوم حسين غزاوي، وهو رجل سمح الوجه، كريم اليد، يحفظ الأمثال الشعبية، ويرددها فيما يشبه اختبار القدرة على التذكر، وحفظ تلك العبارات، التي تعبر تعبيراً صادقاً وعفوياً عن الحياة وشجونها.
وكان المرحوم البصنوي يحظى باحترام شباب الحي، فهم يخافونه ويُجلُّونه في آن وكنا نصعد - سوية ((الكدوة)) فنمر على الأخ عادل طيب، يجلس أمام منزلهم مع ثلة من أصحابه، وكان الشيخ - على قلة كلامه - يداعب (عادل) كثيراً، ثم ننصرف إلى حانوت العم سرور باسلوم - رحمه الله - وهو رجل يشُّع وجهه بنور الإيمان، ولا يغفل لسانه عن ذكر الله، وكان ذا صوت شجي يحسن به أداء القصائد، وكنا ذات ليلة في حانوته، ننتظر أن ينهي عمله في الحانوت، فلقد كان الناس يصطفون، ليبتاعوا من حانوته ((السمبوسة)) الشعبية المحببة إلى نفوس القوم في مكة.
وجاء شباب من أهل الشعب، وكان من عادة العم سرور أن يقول قبل انصرافه من الحانوت: باركنا. ولعل الشاب لم يسمع العبارة، أو لم يدرك معناها، فظل واقفاً، ثم استدار إلى العم سرور، يسأله عن نصيبه من العشاء، ولكن في لغة فظة! فرد عليه أبو مجدي - رحمه الله: لقد نبهت، ألم تسمع ما قلته؟ وأراد الشاب أن يتطاول في حديثه، فلم نرَ أنا والمرحوم بصنوي - العم سرور غاضباً كغضبة تلك الليلة، وهو قليلاً ما يفعل، وشَمَّر عن ساعديه، ولكن الشاب انصرف، وهمس في أذني أبو محمد قائلاً: لو لم ينصرف لرأى في هذه الليلة عجباً.
وأكاد أجزم أنني لم أرَ في حياتي رجلاً قوياً وحليماً في الوقت نفسه كالشيخ البصنوي، ولكنه إذا غضب تفرق الرجال من حوله خوفاً من يده القوية، التي لم تمتد يوماً فيما يُغضب الله، بل سخرهما كما سخر قدمه لخدمة الناس وقضاء حوائجهم في البلد الطاهر.
وجئته صباح يوم، ووجدته فرحاً: انظر يا أستاذ، هذه هدية وصلتني اليوم من واحد من أبنائنا الذين اعتز بهم، إنه محمد سعيد طيب، شقيق عادل، أرسل بهذه العباءة - وبالتعبير البلدي: المشلح - وكان - رحمه الله - إذا أُهدي إليه شيء من شخص عزيز يحتفظ به، وإذا أهدى إليك شيئاً يتمنى عليك ألا تهديه لأحد.
كانت ((الشامية)) تضيء شوارعها وأزقتها برجال وشباب يكرمون النزيل، وينصرون المظلوم، ويقفون مع صاحب الحاجة، وجئت قبل عام لزيارة الحي فلم أر فيه شخصاً أعرفه من قبل، وسألت نفسي في لوعة وأسى: كيف تفرق الجمع؟ أين ذهب الرجال؟ أين مجالسهم...؟ أين مراكيزهم؟ أين ((ابن الحارة)) صاحب النخوة الذي يغض الطرف عن منزل جاره؟ ويحرص على أبناء الحي كحرصه على أبنائه؟ أين ليالي السمر البريء التي يُنْشَد فيها الشِّعْر العذب؟
لقد سمعت - في الشَّامية - نغماً شجيًّا تردِّده جنبات دورها، وسمعت القوم ينشدون الشِّعر، ويروون أحاديث الأدب في فصاحة وبلاغة عجيبتين، أيكون غريباً على من عاش في البلد الذي ولد فيه سيِّد السَّادات، وتنزل فيه الوحي، وانطلقت منه حضارة العلم والإيمان - أيكون غريباً عليهم أن يكونوا أفصح الناس؟ لقد صدق سيدي وحبيبي وقرة عيني محمد بن عبد الله - صلى الله عليه وسلم - عندما قال: أنا أفصح العرب، بيد أني من قريش وقال في حديث آخر: أنا خيار من خيار، من خيار، لم يجتمع أبواي على سِفَاحٍ قط أو كما قال - عليه السلام.
صديقي أبا الشيماء، أعلم كم هو مؤلم أن يفقد المرء شقيقه، وأعلم أني إذا حدّثتُك عن ((الشامية)) يأخذك الحنين والوجد إلى مرابع الصبا، ومنازل الخير والعرفان، ولو تعلم كم أصاب قلب صديقك من سهام بعد موت أحبابه في الشامية - لأشفقت عليّ كثيراً.
وإنني أعزيك اليوم في فقد أخيك، وأعزي نفسي في فقده، فلقد عرفته والابتسامة لا تفارق محياه، والكلمة الطيبة تزين قوله الذي كان يتجمع الشباب من أبناء الحي ليستمعوا إليه، ثم ينصرفون إلى دورهم، وقد طابت منهم النفوس، وقرت منهم الأعين.
اليوم وقبل اليوم ما زلت أردد قول الشاعر الجاهلي:
كأن لم يكن بين الحجون إلى الصَّفَا
أنيس ولم يسمر بمكة سامر!!
 
طباعة

تعليق

 القراءات :673  التعليقات :0
 

الصفحة الأولى الصفحة السابقة
صفحة 67 من 482
الصفحة التالية الصفحة الأخيرة

من اصدارات الاثنينية

عبدالعزيز الرفاعي - صور ومواقف

[الجزء الأول: من المهد إلى اللحد: 1996]

الاستبيان


هل تؤيد إضافة التسجيلات الصوتية والمرئية إلى الموقع

 
تسجيلات كاملة
مقتطفات لتسجيلات مختارة
لا أؤيد
 
النتائج