شارع عبد المقصود خوجة
جدة - الروضة

00966-12-6982222 - تحويلة 250
00966-12-6984444 - فاكس
                  البحث   

مكتبة الاثنينية

 
أشجان الشامية (12)
انقضت صلاة المغرب، وخرج الناس من أبواب الحرم مهرولين إلى بيوتهم يطلبون طعام الإفطار، أشار إليَّ صديقي بالانصراف، التقط دورقاً من تلك (الدَّوارق) التي كانت تمتلئ بها الحصوة، كنت أسير بجانبه لا أعلم الوجهة التي يريدها، خرجنا من باب (أم هانئ) إلى السوق الصغير.. ثم إلى الهجلَة.. ما رأيك نشرب قدحاً من الشاي في قهوة (الأسطنبولي)؟ هززت رأسي مرحباً.. لم يكن المقهى مزدحماً (فالمراكيز) عادة لا تستقبل روادها إلا بعد انقضاء صلاة التراويح.. وكانت (الهجلَةُ) و(المسفلةُ) من تلك المتنزهات التي يقصدها الناس طوال العام طلباً للهواء العليل. ومن لا يعرف من أهل (مكة) بركة (ماجد) و(المِسْيال) وغيرهما من الأماكن!!.
فجأة يبرز رجل يرتدي قميصاً ويضع فوق رأسه عمامة ويمسك بالعصا بين يديه.. لقد شعرت أنه لا يحتاج إلى العصا فهو ليس في تلك السن المتقدمة، بل إنني شعرت - يومها - أنَّ ماء الحياة يجري بقوة في وجه ذلك الرجل، لقد كان حسن المطلع، حاد النبرات عندما يتحدث.. وقف الرجل لثوانٍ معدودة تحدَّث إلى صديقي ثم انصرف، ولكن نظرات صديقي ظلت تتابعه حتى غاب عنا تماماً، وفجأة يهمس (صديقي) في أذني.. هذا صديقنا من أهل (الشُّبيكة) واسمه (إبراهيم ركَّة) شعرت أن صديقي يعتز به عندما قال لي: (حَرِّيف) يا أستاذ في القِشَاع.. تعلمهُ من أتباع الأغوات في الهجلة وخاله (يَعْسُوب) إبراهيم مرزا - رحمه الله - ومرَّ الشهر تلو الشهر ولم أشاهد ذلك الرجل صاحب الطلعة البهية. وأخذ صديقي بيدي - ذات يوم - إلى واحدٍ من تلك المراكز التي تنتشر في الحي الذي يقع خلف السوق (الصغير)، وحين جلسنا على (كُرْسي الشَّريط) كان الرجل الذي لمحته بالقرب من مقهى الأسطنبولي يجلس بالقرب منا، عصاه في يده وعمامته الجميلة تزيد محياه تألّقاً وبهاءً، كان (صاحب الدار) هو العم (أحمد عبد الرزاق) رجل نحيل الجسم، طويل القامة، يكاد يقطر الحياء من وجهه ولا تسمع من فمه إلا عبارات الترحيب. كان قريباً هو الآخر إلى نَفْس صديقي.. ننزل إلى (الهَجْلَة) بعد مغرب كل يوم لنراه، ويصعد هو بعد العشاء إلى (الفلق) ليجلس معنا في مقهى العم (حسن سنوسي) رحمه الله. وكان يَؤُمُّ المركاز رجل قليل الكلام.. سألت أبا محمد عنه فقال: هذا (علي ياقوت) من مشاكلة (الشبيكة) نديد (للبرج) وأبي (ريحان)، ويبتسم الشيخ، ولكن صديقنا (الركة) يعتبره أُمَّةً وحده، ومن المسفلة يأتي إلى هذا المكان المُطِّل على المسجد.. العم (سلمان) من أهل الشبيكة.. يعتز الشيخ بصداقته.. رجل فارع الطول وممتلئ الجسم، يتمنطق (بالحزام) ويلبس (الكوفية) البلدي. ويتابع صديقي حديثه المحبب إلى نفسي: نزلنا أهل (الشامية) ذات ليلة إلى (المسفلة) ويعلق - رحمه الله - الحلفاء دوماً يحبون بعضهم البعض.. ويوم وصلنا كان (اليابا حسن) يضرب بعصاه في كل مكان، المعلم رجب - رحمه الله - كان واقفاً.. التفتُ إليه أسأله عن الواقعة!
قال المعلم: الليلة في (الكِدْوَة) وقع ما لم يكن في الحسبان.. لقد خرج من بين الصفوف رجل ولقط بعصاه (ولد الشيخ) فوقع طريحاً بجانب النار، (اليابا حسن) لم يكن موجوداً، أخبروه بالأمر وهذا سِرُّ غضبه، يقول صديقي.. كان (سلمان مُتصَمِّداً بالغَبَانِي)، ولكن من الذي لا يعرف (سلمان) - رحمه الله - من قِطْعَتِه.
مرت سنون عديدة على سماعي لرواية صديقي.. كنت في حي (النقَا) في منزل السيد الفاضل عباس بن علوي المالكي - يحفظ تاريخ العلم والحارة معاً - ودخل علينا الرجل الذي ضرب صديق (اليابا حسن) بين الجموع في الكِدْوة، كان يبحث عن مكان للوضوء وكان على عجلة من أمره سألناهُ أنا وأبو علوي، عن حادثة (الكِدْوة) أحسستُ من نظراته أنه لا يريد الحديث وكأنَّ لسان حاله يقول: صفحة من الماضي قد طُويت، رأيت دمعة تنحدر على صفحة خده، وقال بصوت متهدج: رحم الله ولد الشيخ، أما (اليابا حسن) فأنا لست غريمه، كأني أراه أمامي مهرولاً تجاه الحرم لصلاة المغرب، وطوَّحت بي الأيام وعدت إلى البلد الذي أتنفس عبقه الطاهر في حالة القُرْب والبُعْد، أرضه طاهرة لم تتلوث ولن تتلوث أبداً ما توالى الليل والنهار، قصدتُ (مركاز) صديقي الأستاذ محمد نور عبد المقصود، وجدت رجلاً قريباً إلى نفسي، الصديق إدريس عبد الله كَنُو - والده من رجالات المسفلة - لعلي تعديت على حقوق صديقي المسفلاوي محمد عمر العامودي فهو فخورٌ بانتسابه إلى البلد الطاهر، ويحن إلى مرابع صباه بين الأبطح والمسيال، أعود إلى صديقي (إدريس) الذي كنت أسأله عن الأحباب والأصدقاء، لم يرد أن يُخفي الأمر عليّ: لقد مات صديقك (يحيى مالنتا) هل عرفت بذلك؟ لم أتمالك نفسي.. لقد بكيتُ ليلتها على جليسنا في الحرم وفي حلقات الدرس، وفي دور الأحبة بين النقا والعُتيبية. وفي ليالي الصَّفاء بين (المسفلة) و(الجعرانة) و(ريع أذخر) لم يكن صديقي (يحيى) مشغولاً بشيء في أواخر حياته كانشغاله بالصلاة والذكر، في صحن المسجد الطاهر، وتمرُّ السنونُ ويذهب الأحباب واحداً تلو الآخر، وبالأمس أقرأُ نعي العم (إبراهيم ركَّه) فذرفتُ الدمع مجدداً على واحدٍ من بقية القوم من الذين كان صديقي يأنس إليهم ويسعى للسؤال عنهم.
يا صديقي مفردات قاموسك في الحياة كانت الحب والصفاء ومواقف البر والإحسان، في حياتك - يا أبا محمد - كنت - بعد الله - أسندُ ظهري إلى جدار قوي ومتماسك، وبعد انتقالك إلى الدار الآخرة شعرت أنني أقف وحيداً، لقد سارت القافلة وتركتني في العراء.
 
طباعة

تعليق

 القراءات :977  التعليقات :0
 

الصفحة الأولى الصفحة السابقة
صفحة 66 من 482
الصفحة التالية الصفحة الأخيرة

من ألبوم الصور

من أمسيات هذا الموسم

الدكتور سعيد عبد الله حارب

الذي رفد المكتبة العربية بستة عشر مؤلفاً في الفكر، والثقافة، والتربية، قادماً خصيصاً للاثنينية من دولة الإمارات العربية المتحدة.