شارع عبد المقصود خوجة
جدة - الروضة

00966-12-6982222 - تحويلة 250
00966-12-6984444 - فاكس
                  البحث   

مكتبة الاثنينية

 
أشجان الشامية (10)
لم تكن السيدة الفاضلة التي رعتني كأم في حي الشامية بعيدة في صفاتها وسلوكياتها عن الأم التي تفتحت عيناي على مرآها في حي ((العنبرية)). هذه الأخيرة كانت تبسط المهاد لي ليلاً في السطح.. الأب يكد ليؤمن لقمة العيش الحلال، والأم ترعى الأبناء في الدار التي إذا ما نظرت من ثقوب نوافذها الخشبية انجلى أمام عينيك المقام الذي يقر العيون، ويفرح النفوس.. تنجلي أمامك القبة الخضراء التي تحوطها السكينة وتحفها ملائكة الرحمة، والأم نفسها لا يبزغ ضوء الشمس وإلا وقد تسللت خطواتها الهادئة إلى مؤخرة الدار لتوقد النار في وسط ذلك (المنقل) الذي تصنعه أيادي أهل الحرفة في حوش (منصور) أو خلف مسجد الغمامة، وإذا ما أبطأت الجمرات في اشتعالها أمسكت بالمنفاخ بين يديها، فيتطاير الشرر، ويبلغ الجمر مداه من الاشتعال والتوقد، عندئذ تهيّيء ((دَلَّة)) القهوة لربِّ الدار الذي إذا ما قضى صلاته في المسجد المقابل للدار في منطقة ((السَّيح)) نادى بصوته المحبب إلى النفس طالباً حبات من ((التمر)) وأقداحاً دافئة من قهوة البن فالرجل عاش طفولته وسني شبابه الأولى بين حارتي ((العنبرية)) وقباء ثم حملته الأقدار إلى ديار ((حرب)) فَأَلِفَ من حياةِ ((العروبية)) ما يألف أصحابها، وانطبعت في نفسه من عاداتهم الشيء الكثير الذي لازمه طوال عمره المديد وحياته المباركة.
المرأة في دار ((السيح)) لا يرتفع لها صوت، ولا ينكشف - كما يقولون - منها ظفر، ولا يحل المساء إلا وقد دخلت دارها إن خرجت عند جاراتها في حوش (سيِّد أحمد) المقابل لمسجد سيِّدنا عمر بن الخطاب رضي الله عنه. وهي المرأة التي تصنع بيديها الطعام وتتشقق أكفُّها كلما انكفأت على (الطشت) لتغسل الملابس، ثم تنشرها على ذلك (الحبل) الذي يمتد طرفاه في ساحة سطح الدار فلم تكن يومها تكنولوجية العصر قد غزتنا بأجهزة الغسيل و((التنشيف)) و((الكي)). وهي المرأة التي تقوم مع كل صباح لتنزح الماء من ((البئر)) لتغسل درج الدار المصنوعة من الحجر المنقوش ولتلتفت بعد ذلك إلى ((مرفع)) الشِّراب ((تملأ)) القُلل ((بالماء وتُبخر الكؤوس)) بالمستكة. وهي المرأة التي تحض الأبناء ليطلبوا رضا أبيهم وليقبلُّوا قَدَمهُ عندما يغضب عليهم، وليستأذنوه إن هم عزموا على الخروج من الدار وقليلاً ما كانوا يفعلون في ذلك الزمن الذي كان كل شيء فيه محوطاً بالبركة، فنسأل الله أن يعيد إلى حياتنا ما نُزِعَ منها من بركة وما افتقدته من رضا وطمأنينة.
جئتُ ((الشَّامية)) فإذا أنا أمام صورة مشابهة من تلك الحياة التي درجت عليها في أرض المدينة الطيبة، سيدة الدار خفيضة الصوت، طيبة القلب، تفرح إذا ما رأت الأصدقاء يطرقون نافذة ((المقعد)) الذي كنت أعيش بين أكنافه حياةً هنيئةً ما زلتُ أحنُّ إليها أشد ما يكون الحنين، واشتاق لأوقاتها أعظم ما يكون الاشتياق، وكان رب الدار يهمس في أذني بين الحين والآخر: ((أم محمد)) هي المرأة التي احتملتني فلطالما أخذتني مشاغل الحارة عن الأبناء، فكانت تقوم مقامي في كل شيء، وكان من سمات صديقي أنه يُقدِّمُ حوائج الناس على حوائج خاصته وقرابته، وكان يهب جهده ووقته لأولئك الذي يطرقون باب داره من جميع الأحياء، يستيقظ من هجعة الظهيرة، - وقد تكون دقائق معدودة - على صوت المنادي من أسفل الدار، لا يظهر تبرماً، ولا تبدو على ملامح وجهه المجلل بالمهابة علامات القلق، يبتسم لهم من أعلى الدار، ويحتضنهم عند عتبته، ويذهب معهم إلى حيث يريدون لا يعبأ بتلك الشمس الحارقة التي يهرب منها الناس جميعهم ويحتمون بدورهم، ولا يخرجون منها إلا مع صوت المؤذن لصلاة المغرب، ولكأن صاحبي كان يتلذذ في أعماقه بما يعانيه من أوصاب، وما يتجشمه من متاعب، فلقد كان همه الوحيد أن يسمع كلمة الدعاء من ذوي الحاجات، وكانت سعادته الحقيقية عندما تنقضي مطالب الناس على يديه. إنها أخلاق السَّالكين وشمائل العارفين. إنها المدرسة التي كانت تقوم في حي ((الشامية)) وكان المُرِّبي الوحيد فيها ((عبد الله بصنوي)) رحمه الله وأسكنه فسيح جناته. وكان المريدون فيها من كل حي وبقعة، وكانت خلف ذلك الرجل امرأة عظيمة في كل شيء، أطال الله لنا في عمرها - وحفظ لها أبناءها من كل سوء.
 
طباعة

تعليق

 القراءات :636  التعليقات :0
 

الصفحة الأولى الصفحة السابقة
صفحة 64 من 482
الصفحة التالية الصفحة الأخيرة

من اصدارات الاثنينية

الاستبيان


هل تؤيد إضافة التسجيلات الصوتية والمرئية إلى الموقع

 
تسجيلات كاملة
مقتطفات لتسجيلات مختارة
لا أؤيد
 
النتائج