شارع عبد المقصود خوجة
جدة - الروضة

00966-12-6982222 - تحويلة 250
00966-12-6984444 - فاكس
                  البحث   

مكتبة الاثنينية

 
أشجان الشامية (9)
تشير إلى صديقك الشيخ ((أحمد رواة)) أمد الله في عمره - ثم تقول همساً، كانت الأرواح منا في مقتبل العمر تتنافر، واليوم في الشيخوخة تتجاذب، وكان مجلس الشيخ ((الرَّواة)) يقوم في برحة القطَّان، أمام تلك الدار الكبيرة التي كان يسكنها الشيخ عباس قطان - رحمه الله - أحد وجهاء مكة في عصره، كما كان لفترة من الزمن رئيساً لبلديتها، والشيخ القطان له مآثر عديدة، في مقدمتها إنشاؤه لمكتبة مكة في شِعْب علي، حيث البقعة الطاهرة التي وُلد فيها سيد الخلق وشفيع الأمم سيدنا محمد عليه صلاة الله وسلامه، وبهذا الصنيع عمل الشيخ القطان على الحفاظ على أهم موقع في التاريخ الإسلامي، والمكان دوماً يستمد أهميته من صاحبه أو ممن يحل فيه ويغشاه. وقد ارتبط الشِعب بميلاد صاحب الرِّسالة الخاتمة، من ذلك المكان شهدت البشرية - جميعها - انبثاق النور وتَبدُّد ظلام الغواية والشرك، والضلال، في تلك الدار وضعت السيدة العظيمة آمنة بنت وهب حملها، فكان ما وضعته هو درة هذا الوجود ومنقذه، لقد أهدت إلى الإنسانية النور الذي وزنته الملائكة بأُمَّته - جميعاً - فرجحهم وفي ذلك دلالةٌ على رفيع قدره وعظيم منزلته، ورحم الله القائل:
يوم نالت بوضعه ابنة وهب
من فخار ما لم تنله النِّساءُ
وأتت قومها بأفضل مما
حملت قبل مريم العذراءُ
شمَّتته الأملاك إذ وضعته
وشفتنا بقولها الشَّفاءُ
رافعاً رأسه وفي ذلك الرفع
إلى كلّ سؤدد إيماءُ
رامقاً طرفه السَّماء ومرمى
عين من شأنهِ العلو العلاءُ
وكانت برحة القطَّان في الشَّامية تعمر بزوارها مع انقضاء صلاة العشاء، وكان صديقي يحرص أشد الحرص على أن يحل في ذلك المجلس العامر قبل حلول الناس جميعهم فيه، ولا ينصرف عنه حتى يرى صديقه (الرَّواة) قد فارقه، وكان الشيخ الرواة في مجلسه كريم النفس.. حلو المعشر كما كان أنيقاً في لباسه ((جُبَّةٌ بيضاء)) وكوفية بَلدي منشاة، يتكئ على وسادة خاصة به، ويخص المكان المجاور له في المجلس لكل من يحل ضيفاً على المجلس وخصوصاً لأولئك الذين ينقطعون عن المجلس ثم يعاودهم الحنين إليه ثانية.
في مجلس الشيخ (الرواة) كنت أزدهي بطلعة الرجل الشَّهم عبد الرحمن أبو راشد، رحمه الله، والشيخين الكريمين علي فلمبان، وحمزة قزاز - أمد الله في عمرهما - كما كنت آنس إلى حديث الشيخ القزاز وأطرب لصوته الشجي في مدح المصطفى - صلى الله عليه وسلم. وأكاد أَجزِمُ بأنني لم أسمع صوتاً شجياً في حياتي كصوته، ينشد الروائع من الشعر العربي الجزل، لا يلحن في قول، ولا يتلجلج في عبارة، وطالما استدرَّ الدَّمع من العيون، وبعث في الأنفس الأشواق. ومن الذي لا يطرب من مدح سيد ولد عدنان؟ ومن الذي لا تحن نفسه إلى معاهد الهدى والإيمان؟ وكان من عادة الشيخ القزاز أن يخفض رأسه إلى الأرض إذا ما أنشد، ويداعب البنان منه تلك الشّعيرات البيضاء التي تكسو محياه المشرق مهابةً وجلالاً.
ويوم انتقل الشيخ عبد الله بصنوي - إلى جوار ربه اعتزل الشيخ ((الرَّواة)) الناس حُزناً على صديق عمره وأنيس روحه. ولقد همس الفقيد في أذني قبل ليال معدودة من وفاته قائلاً: لقد أغلظوا القول ((للرَّواة)) لأنه لم يحضر إلى المجلس بسبب غيابي عنه. ثم أردف يقول كعادته: سامحهم الله وهداهم سواء السبيل، وما كان أبو محمد يعلم أنَّ الرجل سوف يعتكف في داره لا يبارحها بعد أن تصعد روح صديقه إلى باريها، ويضمُّه ثرى الحجون المبارك بين جنباته، وما كان - صديقي - يعلم أن أقواماً آخرين سوف يُصيب الحُزن منهم قلوباً وأنفُساً، فلا يحلو بأعينهم مجلس كانوا يألفونه من قبل، ولا يطيب لهم سمر كان الصَّفاء مظهره والطُّهر والنقاء روحه ومجلاه.
 
طباعة

تعليق

 القراءات :778  التعليقات :0
 

الصفحة الأولى الصفحة السابقة
صفحة 63 من 482
الصفحة التالية الصفحة الأخيرة

من اصدارات الاثنينية

ديوان زكي قنصل

[الاعمال الشعرية الكاملة: 1995]

الاستبيان


هل تؤيد إضافة التسجيلات الصوتية والمرئية إلى الموقع

 
تسجيلات كاملة
مقتطفات لتسجيلات مختارة
لا أؤيد
 
النتائج