شارع عبد المقصود خوجة
جدة - الروضة

00966-12-6982222 - تحويلة 250
00966-12-6984444 - فاكس
                  البحث   

مكتبة الاثنينية

 
أشجان الشامية (8)
تقول لي: دعنا نزور الأحباب في ((المسفلة))، دعنا نذهب ((للبركة))، دعنا.. نشرب الشاي مع ((البشكة))، ويوم بَدأْتَ تفقدهم واحداً إثر واحد، نظرت نظرة الأسى، وذرفتَ دمعة الحُزن، وسمعتك همساً تقول: ((أحبابنا بـ ((يتلقطُّوا)) يا أستاذ))! وكنت لا أقوى على سماع العبارة من فمك. فالحياة - يا أبا محمد - كانت ملء إهابك، لا تعرف أجفانك النوم إلا لماماً، النهار لقضاء حوائج العباد، والليل لرياضة العقل والروح معاً، أسمعُ وقع أقدامك وأنت تهبط ((درج)) الدار والليل لا يزال يغطي جبال مكة ووديانها بسكونه، بجلاله، وبرهبته، توصد الباب خلفك برفق، مَن لي بنفس سكنت الشفقة أعطافها كنفسك! وانغسلت بماء الحب والتسامح كما ينغسل وجه الأرض بغيث السماء ويتطهر من أدرانه.
تقطع ذلك الطريق العتيق الذي يقع فيه ((البازان)) وتعمره أصوات الحسينين ((حسين غزاوي، وحسون رحمهما الله)) تقول لي: كنت أحمل زَفَّة الماء من هذا المكان على كتفي وأحياناً - تنطق - بالتعبير البلدي المستملح فتقول: كنت أستقي من هنا يومها كنت شاباً، وللشباب زهوه وسطوته، ولم أكن أشعر - قط - في تلك المرحلة بأنني أحمل شيئاً على كتفي.
كنت يا صديقي - تحمل - هموم الآخرين في قلبك، ولا يغمض لك جفن.. ولا تهدأ لك نفس حتى ترى البِشْر على وجوه الآخرين، فإذا ما رأيتهم كذلك، انصرفت ودخلت البيت العتيق.. وناجيت الرب الكريم.. وسجدت بحمده العظيم. أذكر مجلسك من الحصوة.. فإذا ما أشرقت الشمس طفت بالبيت وأنت خافض الرأس.. تستشعر عظمة المكان حيث تتنزل الرحمات وتستجاب الدعوات، تقول: إذا ما صَلَّى الإنسان الضحى في رحاب البيت خرج إلى الحياة بروح لا تعرف التخاذل والاستكانة، إنه يشعر بالقوة التي لا تعادلها قوة في الأرض وبالشجاعة التي يخضع لها كل شيء في الوجود.
تلك يا صديقي من آثار الإيمان في نفسك، أنتَ نَبْتُ أرض الهُدى، وشعاع السماء يعرف طريقه إلى قلوب أدركتها العناية فجانبتها الغواية.. ذلك الشعاع هو الذي يُنير البصائر فترى ما وراء المادة من معنى، وما يستتر خلفها من قوة فاعلة في هذا الوجود وأشيائه، البصر يرى البناء والبصيرة تستنطق الروح في ذلك البناء، فليْبكِ أقوامٌ سجنوا نفوسهم في المحسوس وآمنوا بالمحدود، ورضوا من دنياهم بمتاع زائل، ورغبات تفقد قيمتها حال الإمساك بها أو إشباعها، إنهم يقبضون على السراب، ويُشبعون نهماً لا يلبث أن يتجدد ورغبة تتطلع إلى المزيد وغاية الوجود أكبر من هذا كله، والنعيم لا يتحقق إلا بالانفتاح على عوالم الروح التي لا تنتهي لذاتها ولا يفنى نعيمها.
لقد عشت - يا صديقي - معك دهراً، فرأيت كيف يتساوى لديك التبر والتراب، ولقد رأيتك تقطع مراحل هذه الحياة ليس كما يقطعها الآخرون سعياً على الأقدام، وإنما كنت تقطعها بذلك القلب العارف وتلك النفس المؤمنة المطمئنة، ويوم ودعتنا الوداع الأخير.. كانت غمضة عينيك تشبه ذلك الوسن الذي كان يأخذ بأجفانك - عندما كانت الروح تسري في كيانك - ثم لا تلبث أن تعود - بعده - إلى حديث كنت قد بدأته أو قصة من الماضي كنت آخذاً في سرد أحداثها، إنني على يقين - يا صديقي - بأنك لم تعرف النوم الحقيقي إلا عندما كبَّرت وهلَّلت وانسلت روحك صاعدةً إلى معارج السماء في دعة وهدوء، تلك خاتمة القوم الذين أورثهم الله ذكره وأجرى الخير على أيديهم فهم منشغلون به حتى في تلك اللحظات الأخيرة التي كانوا يشارفون فيها على النهاية المحتومة لكل حي..
آخر الكلام:
دعاء.. ((يا الله يا حي قبل كل حي، يا حي بعد كل حي، يا حي لا يشبهه حي، يا حي ليس كمثله حي، يا حي لا يشاركه حي، يا حي يحيي الموتى، يا حي لا يحتاج إلى حي، يا حي يميت كل حي، يا حي يرزق كل حي، يا حي لا يموت أبداً، يا حي يا قيوم لا تأخذه سنة ولا نوم)).
 
طباعة

تعليق

 القراءات :611  التعليقات :0
 

الصفحة الأولى الصفحة السابقة
صفحة 62 من 482
الصفحة التالية الصفحة الأخيرة

من ألبوم الصور

من أمسيات هذا الموسم

سعادة الدكتور واسيني الأعرج

الروائي الجزائري الفرنسي المعروف الذي يعمل حالياً أستاذ كرسي في جامعة الجزائر المركزية وجامعة السوربون في باريس، له 21 رواية، قادماً خصيصاً من باريس للاثنينية.