شارع عبد المقصود خوجة
جدة - الروضة

00966-12-6982222 - تحويلة 250
00966-12-6984444 - فاكس
                  البحث   

مكتبة الاثنينية

 
أشجان الشامية (7)
تقول لي: في أيام الشباب كنت كثير التردد على المسفلة تستخدم مصطلح الحارة قائلاً: ((هؤلاء حلفاؤنا من بين الحارات الأخرى)). الناس جميعهم يا صديقي كانوا أصدقاءك وحلفاءك في البلد الطاهر، تصمت كأنك تستعيد الماضي الذي ولت أيامه ثم تقول همساً: كان في المسفلة رجل اسمه عبد الرحمن الدُّوبي وكان حسن الصوت تعلمت منه الإنشاد. وكان في مكة مدرستان لهذا الضرب من المعرفة: مدرسة الدوبي الذي أخذ عن ((جوجيه)) أسفل، ومدرسة ((الحوراني)) لأهل فوق. الصديق المهندس أحمد عرفه حلواني - من أهل ((القشاشية)) - يعرف كثيراً عن تاريخ هذا العلم، خاله المرحوم - عبد الرحمن مكي - عُرِفَ حادياً، وقُصد أُستاذاً، عرفتُ الرجل كما عرفت شخصاً آخر معاصراً له هو إبراهيم تيسير رحمهما الله وكان من وفاء صديقي لأحبابه أن يذكرهم بعد انتقالهم إلى العالم الآخر بالدعاء وأعمال البر. فلقد حدثني أنه كان يؤدي ((العمرة)) في رمضان ويهدي ثوابها لصديقه ((الدُّوبي)). ويؤدي عمرة أخرى ويهديها لصاحب ((تحت راية القرآن)) الأستاذ مصطفى صادق الرافعي - رحمه الله - فلقد كان محباً له ومغرماً بكتاباته، وكانت مكتبته ومكتبة أخيه الأديب الأستاذ حمزة بصنوي - رحمه الله - تحوي النفائس من كتب الفكر والأدب والتاريخ. وكان صديقي شديد الاعتزاز بأخيه، وقليلاً في حياتي ما رأيت أخوين مثلهما في حبهما وتسامحهما وتأدبهما مع بعضهما. ويوم مات ((أبو إبراهيم)) طوى الأخ الأكبر نفسه على أحزانها وقال لي: لقد فقدتُ طعم الحياة بعد فَقْد أخي.
وفي مساء اليوم الذي انتقل فيه الأخ الأكبر إلى الدار الأخرى.. رأى أحد أفراد الأُسرة - في منامه - الأخ الأصغر ينظر في ساعته ويقول لماذا تأخَّر أخي في الوصول إلي؟ ذلك عالم الروح له أسراره وإشاراته وعجائبه، وتعس عبد تعلقت عيناه بعالم الظاهر، وتوقفت مداركه عند حدود الحواس، وتجمدت مشاعره عند هذه المحطة العابرة، فالحياة أكبر وأعظم من أن تكون فقط مادة ومتعة ولهواً، وإن عالم المادة لا يمثل إلا ذرة تائهة في ذلك الفضاء المتناهي من عالم الروح الذي تقصر عن تصوره هذه الحواس المحدودة، والتي هي بمحدوديتها وعجزها ونقصها تبرهن على وجود الكمال والمطلق اللامتناهي من عالم الغيب الذي اختص الله - وحده - بمعرفته.
وتمتد بنا الخطوات فنهبط ((كُدَي))، هناك أضحى يسكن أحد أصدقائك الذين تعتز بهم ((حامد شلبي)) من رجال القرارة، لم يكن لوحده صديقك من ذلك الحي، فلقد كنت تعتز بصداقة ((محمود الجنقلي)) كان في فترة ماضية عُمدة للحي، وكذلك بصداقة الشيخ محمد نور بتاوي - أسرة عريقة في القرارة - ودخلنا مساء يوم مكاناً للاستراحة في القرارة وجدنا الشيخ البَتَاوي - وكان رجلاً صالحاً رحمه الله - كان قد تجاوز الثمانين من عمره. وعندما عزمنا على مغادرة المكان أخرج الشيخ البتاوي نقوداً ودفعها لصاحب المكان، وقال الرجل على استحياء: الجباء ممنوع. رفع - فجأة - رجل القرارة عصاه الغليظة وضرب بها على المنضدة التي كانت أمامه. اضطرب الرجل وتسمَّرت عيون الناظرين، رجل يدلف نحو التسعين من عمره ولكنه لا يزال يحتفظ بنضارة وجهه، وسلامة جوارحه، ويخشى الحي غضبته. ويوم قطعنا المسافة بين حارتي القرارة والشامية، قلت لي: هذا نديد ((لحامد شلبي)) يعتزون به في القرارة كاعتزازنا برجل اسمه ((محمد المجنون)) - رحمهم الله جميعاً - ، وأعلم يا صديقي إن القوم في حارتك كانوا يعتزون بك وكنت أحرص ما تكون على نكران ذاتك في كل شيء، مع أنك كنت المجلي وصاحب السبق، ولكن ذكر الله ومخافته أورثاك هذا التواضع، فعشت لا ترى لك فضلاً على أحد، مع أن رفدك كان يحوزه كل من يطرق الباب العتيق في حي الشامية، وكان جاهك مبذولاً لمن عرفت ومن لم تعرف، وكانت شمائلك وأخلاقك السامية تحول بينك وبين كلمة ((لا)) فهي الكلمة التي يستثقلها لسانك العفيف، وأكاد أجزم بأنني لم أسمعها منك طوال عقدين من الزمن نعمت فيهما بصحبتك، وأنست فيهما بذلك الود الصادق الذي محضتني إياه وشملتني فيه برعايتك.
 
طباعة

تعليق

 القراءات :606  التعليقات :0
 

الصفحة الأولى الصفحة السابقة
صفحة 61 من 482
الصفحة التالية الصفحة الأخيرة

من ألبوم الصور

من أمسيات هذا الموسم

صاحبة السمو الملكي الأميرة لولوة الفيصل بن عبد العزيز

نائبة رئيس مجلس مؤسسي ومجلس أمناء جامعة عفت، متحدثة رئيسية عن الجامعة، كما يشرف الحفل صاحب السمو الملكي الأمير عمرو الفيصل