شارع عبد المقصود خوجة
جدة - الروضة

00966-12-6982222 - تحويلة 250
00966-12-6984444 - فاكس
                  البحث   

مكتبة الاثنينية

 
أشجان الشامية (5)
لم يكن يا صديقي (جبل عبَّادي) المكان الوحيد الذي نصعده، وملتقى الأحباب الذي نؤمه، فلقد كنا نهبط إلى أسافل مكة المكرمة وخصوصاً في تلك الليالي المشرقة من شهر رمضان، أقف تحت المقام أترقبُ لحظة نزولك، تقابلني بتلك الابتسامة الوادعة... قلبك - يا أبا محمد - لا يعرف حقداً أو ضغينة، ونظراتك - دوماً - تتجه صوب الأرض، تقول لي: أنا من أولئك القوم الذين ترى في وجوههم مكنون صدورهم. كأنك تعلن بتلك العبارة عن مقتك للوجوه المقنعة والسلوكيات الخادعة..
نسير بين سواري المسجد.. تتوقف فجأة، تحني قامتك التي اقترنت في أذهان الناس بذلك الشموخ والكبرياء الذي لا يعرف المذلة إلا للذات العلية - وحدها - ثم تتناول من حصباء المسجد (دورق) الماء وتحمله بين يديك، لطالما تعجبت من ساعد منحه الله تلك البسطة والقوة، إنه الساعد الذي يكدُّ ليحصل على لقمة العيش النظيفة وهو الساعد الذي سخره الله لمعونة الضعفاء والغرباء.
نتجاوز (مشَّاية) باب أم هانئ، ومنه إلى سوق الصغير ثم إلى الهجلة، تحدثني عن رجال أقوياء عرفتهم في (الشبيكة) كأنني أنظر إليك وأنت تتحدث (كنت شابًّا) جئت لألعب (الكَبَت) هناك... تشير إلى موضع معين.. كان يوجد رجل اسمه (عبد ربه) طويل القامة.. متناسق الجسم.. جئت لألعب معه في الساحة.. كان وقتها يخرج علبة صفراء يحتفظ فيها بالتبغ.. كانت يداه مشغولتين بإبرام تلك الورقة الشفافة من دخان (العمايدي) وكانت نظراته تلاحقني ما إن تجاوزت قدماي (الشخط) حتى مدَّ الرجل يده وأعادني ثانيةً إلى الموضع الذي انطلقت منه. لم يتحرك الرجل من مكانه وما اهتزت أنامله التي كانت تعالج لفافة الدُخان، كنت - يا صديقي - شجاعاً وكنت مغرماً بمواضع القوة في كل شيء، القوة التي تُستثمر في الخير وتُستغل في مواضع الإصلاح.
نترك مقهى (الاسطنبولي) مع أذان العشاء، نلج إلى الحرم ننعم بالأصوات الندية المنبعثة من المقامين، كلانا كان يحب صوت (خَطَّاب شاكر) كان شيخاً للمؤذنين ووالده من قبله الشيخ يعقوب شاكر - رحمهما الله - وكلانا كان يأنس لصوتي الشيخين عبد الله خياط - والشيخ عبد الله الخليفي - رحمهما الله -.
تنقضي صلاة التراويح، نعاود الخروج إلى الهجلة (ثانية) على الشارع العام وبالقرب من السوق الصغير تقع دار أحد الأحباب، رجل ناحل الجسم، ضامر البطن، أسمر اللون ولكنه مشرق الوجه عذب الحديث.. كريم اليد.. إنه صديقك - أحمد عبد الرزاق - رحمه الله - يصعد إليك في (الفلق) وتهبط إليه في (الهجلة). أعجب من تلك الأناقة التي كانت تتميز بها تلك الشخصية وعندما كان (أبو عبد الناصر) يسكب لنا أقداح الشاي كنت اختلس النظرات لألاحق حركة أنامله، وعلى العكس من بقية أنداده فلقد كان نادراً ما يحمل (العصا) وإذا حملها طربت لذلك الفن الذي كان يبديه في لفها، يخاطبه أبو محمد - قائلاً: - يا أبا أحمد.. الكل في أحياء مكة المكرمة يدعي أنه حضر ليلة (بازنقر) وشارك فيها. يبتسم رجل الشبيكة.. يقول وهو يشير بيديه: هناك وفي الليلة نفسها.. رأيت الرجل، كان مرتدياً لباساً أبيض - وحتى العمامة كانت بيضاء - كانت بيننا جفوة، استوقفني، سَلَّم عليَّ، ثم قال: سامحني يا أخي أحمد، ذهب إلى الحلقة وقضى في الليلة نفسها - قالوا: إنَّ صوته في الحلقة كان متميزاً بين بقية الأصوات، يتنقل بين الصفوف ثم يعود إلى صف جماعته.. إلا أنها كانت ليلته (يا قُنْفُذُ فين تنفذ)؟ لم يُعْرَف حتى الآن (غريمُه) ويوم سقط، وقف على رأسه رفيقه (البرج) لم يدع أحداً يمسه، هكذا ناموس اللعب ونظام الحلقة وحمله الرِّفاق على أكتافهم بعد أن جاء إلى الجمع على قدميه...
يصمت فجأة محدثنا (عبد الرزاق) ثم يقول: ترى هل كان الثوب الأبيض الذي رأيته يرتديه في تلك الليلة له دلالة على ما وقع له؟ ويذرف دمعة يمسحها بطرف إصبعه.. ثم يواصل حديثه: لقد طلب مني السماح ورد السلام، لا بد أنه كان يحسُّ شيئاً في أعماق نفسه، صفحة الحديث تنطوي - ويدخل صديقنا إلى مقعد داره، وأواصل مسيرتي مع رفيقي إلى الشامية - واليوم - أواصل أشجاني معها ومع الأحباب فيها.
 
طباعة

تعليق

 القراءات :668  التعليقات :0
 

الصفحة الأولى الصفحة السابقة
صفحة 59 من 482
الصفحة التالية الصفحة الأخيرة

من اصدارات الاثنينية

الأعمال الكاملة للأديب الأستاذ عزيز ضياء

[الجزء الثالث - النثر - مع الحياة ومنها: 2005]

الاستبيان


هل تؤيد إضافة التسجيلات الصوتية والمرئية إلى الموقع

 
تسجيلات كاملة
مقتطفات لتسجيلات مختارة
لا أؤيد
 
النتائج