شارع عبد المقصود خوجة
جدة - الروضة

00966-12-6982222 - تحويلة 250
00966-12-6984444 - فاكس
                  البحث   

مكتبة الاثنينية

 
أشجان الشامية (4)
هل حقاً كنتُ أصعد جبل (عَبَّادي) ولأكثر من مرة في اليوم الواحد؟ طبعاً كان ذلك قبل ما يقرب من عشرين عاماً. وتمر السنون ولا يبقى إلا صدى الذكريات. وهذه الأصداء هي التي أتلفّتُ اليوم إلى ومضاتها الخاطفة والمشرقة في آن، في الطريق إلى الجبل يقع بيت (الأستاذ).
هكذا سمعتهم ينادونه في الحارة. يحدثني الوالد (البصنوي) - رحمه الله - كثيراً عن شهامته ومروءته وشجاعته. وحدث أن دُعيت ذات ليلة لحفلة في حي (النقا)، سمعت في تلك الليلة المرحوم (عبد الله مريعاني) وهو يُنشد؛ قليل من الرجال رأيتهم - في حياتي - في ورع هذا الرجل وحيائه وحسن خلقه.
في اليوم الذي انتقل فيه إلى رحمة الله، سمعت الشيخ عمر عيوني - أمد الله في عمره - يقول: ((لقد ذهب مع هذا الرجل علمٌ كثيرٌ في الإنشاد لا يعرفه سواه)) إلا أنني كِدتُ أُغادر الحفل - يومها - بسبب تصرّف - غير متعمد - صدر من شاب صغير في سنه. نعم كِدتُ أترك تلك المناسبة الجميلة وأمضي في طريقي صاعداً ذلك الطريق المتعرج الذي يربط بين النقا والشامية. ولكن السيد الفاضل ((عباس المالكي)) طلب مني البقاء فبقيتُ، وأهل مكة - دوماً - يُكرمون الضيف، ويرعون حق النزيل، ويفرحون لفرح الصديق، ويغضبون لغضبه. إنهم - يا صديقي - جيران البيت الذي دعا سيدنا إبراهيم - عليه السلام - بأن تهوي الأفئدة إليه.. والدعوة لا تزال متحققة يبصرها أولئك الذين أكرمهم الله بضياء البصيرة ونور المعرفة.
في صباح اليوم التالي،. لم يكن الناس قد خرجوا بعدُ إلى أعمالهم.. سمعتُ طرقاً خفيفاً على نافذة الغرفة التي أُقيم فيها نظرتُ من ثقوب النافذة العتيقة والمحببة إلى نفسي، فرأيتُ الأستاذ الذي كنا نقف ببابه كلما اجتزنا الطريق إلى الجبل. فتحتُ باب المنزل الذي كان يُداعبني الشيخ ((البصنوي)) - رحمه الله - في شأن فتحه وإغلاقه، فوجئتُ بالرجل وهو مكفهر الوجه، زائغ العينين.. دعوته للدخول، اعتذر وقال باقتضاب إنه ذاهبٌ إلى المدرسة ولا يريد التأخر عن الدوام. ثم سألني بحدة لم أتبين أسبابها: مَن الذي أساء إليك ليلة البارحة؟ ابتسمتُ سعياً مني للتخفيف من الحدة التي رأيتها بادية على ملامح وجهه - وواصلتُ حديثي قائلاً: إنه حدثٌ عارض ولا يستحق غضب الأستاذ وانزعاجه. خفض الرجل رأسه وهو يقول: ((أنت نزيلٌ عندنا في الحي لا نرضى أن يُغضبك أحد أو يُسيء الأدب معك)) مضى الأستاذ في طريقه، وسرتُ في دروب الحياة كثيراً وتقلبتُ بين حلو التجارب ومرها، ولكنني لم أنسَ هذا الموقف الإنساني النبيل، وظل عالقاً بذاكرتي وسيظل كذلك ما حييت..
قبل شهور قليلة، وعندما كنتُ أتهيأ لدخول الحرم المكي الشريف، رأيت رجلاً يتوكأ على عصاه، تبينت ملامحه عن قرب، إنه الأخ (حسن جنبي) زميل لي وللصديق الكريم الأستاذ - محمد نور تركستاني - في مدرسة أم القرى على عهد مديرها - الطيب الذكر - المرحوم عبد الله البليهد، تحدثتُ معه عن ذكريات تلك الحقبة التي قضيناها سويةً في رحاب أم القرى البلد، وأم القرى المدرسة، ثم قاطعني الأخ الجنبي - شافاه الله - ليقول لي:
لقد فقدت زميلاً عزيزاً وصديقاً وفياً - شعرتُ بنبضات قلبي تتزايد... حدقتُ في وجه الرجل الذي ينتصب أمامي بقامته الرفيعة ووجهه الشاحب وكانت الدموع تتساقط على ذلك الوجه الذي كثيراً ما رأيته في السنين الخوالي فرحاً مستبشراً، لم يترك لي فرصة السؤال عن الراحل العزيز...
قال الجنبي ((لقد مات الأستاذ فجأة، نزل كعادته من الطائف حيث أصبح يقيم بعد وفاة والدته التي أوقف حياته على خدمتها، حلَّ ضيفاً في البلد الأمين على صديق عُمْره الأستاذ ((سراج مطر)) وقضى في بيت أقرب الناس إلى نفسه وأكثرهم وفاء له. وكان اليوم يوم جمعة.. وكان الوقت وقت مغفرة... وكانت الساعة ساعة إجابة)).
وتابعتُ خطواتي إلى المسجد، جلستُ في الصحن.. نظرت إلى البيت الذي تتنزل حوله الرحمات ويطوف به العباد الصالحون.. ودعوت بالمغفرة والرحمة للأستاذ/ عبد العزيز السَّاعاتي.. ذلك الرجل الذي كان قلبه يتسع للجميع.. كما كانت داره تتسع لذلك الجمع الكبير من أحبابه وأصدقائه.
 
طباعة

تعليق

 القراءات :691  التعليقات :0
 

الصفحة الأولى الصفحة السابقة
صفحة 58 من 482
الصفحة التالية الصفحة الأخيرة

من اصدارات الاثنينية

التوازن معيار جمالي

[تنظير وتطبيق على الآداب الإجتماعية في البيان النبوي: 2000]

الاستبيان


هل تؤيد إضافة التسجيلات الصوتية والمرئية إلى الموقع

 
تسجيلات كاملة
مقتطفات لتسجيلات مختارة
لا أؤيد
 
النتائج