شارع عبد المقصود خوجة
جدة - الروضة

00966-12-6982222 - تحويلة 250
00966-12-6984444 - فاكس
                  البحث   

مكتبة الاثنينية

 
حارة المناخة (19)
لقد ذهبوا، يا صديقي، جميعهم وتركوني وحيداً أُعاني غُرْبَةَ النفس ووحشة الروح، وأتلظى بتباريح الوجد وآلامه، ولكم قضيت الليالي أسأل نفسي: كيف تأتَّى لهم أن يخلفوا وراءهم هذا الذهن الذي ذهب مضاؤه من فرط ما يرد عليه من خواطر وما تتردد أمامه من أسئلة وما ينشغل به من تفكير؟ كيف طاب لهم أن يروا علة النفس فلا يصفون لها الدواء؟ واشتياق الروح فلا يَردُون بها على المنبع؟ وأسألك: أين هو المنبع الذي شربوا منه؟ فأراك تغمض عينيك، تلوذ بالصمت وتهرب إلى عوالم أخرى يصعب عليَّ أن أسلكها و أَنْ أسير بين جنباتها. ويستحيل علي الوصول إلى مرافئها، أو بلوغ غاياتها. أسألك فيجيبني الدمع من عينيك، ويتوسل إلي ذلك الدمع بأن أكف عن السؤال وأن أرْضَى بالحال، يأتيني الإِشعاع قوياً من عينيك لا أتحمله وينبثق الضياء من صمتك، فيعييني تدبره. أنت تصمت والناس يتحدثون وكم يكون الصمت بليغاً والبيان عجزاً، لأن صمت الصادقين يحفظهم من الابتذال بينما تنصرف النفس عن بيان الكاذبين لأنه يتسبب في إيذائها. أنت لديك ما تعطيه ومع هذا فالتواضع يحملك على أن تكون في مقام المتلقي والمستمع، وغيرك أرض بوار وماء أجاج ومع هذا يصر على ترداد القول ويطمع في أن يكون الآخرون تلامذة بين يديه يتلقون عنه حديثاً هو أول المفكرين له والمتشككين في فحواه. وأنت يا صديقي إذا ما أحببت لم يحملك حبك على أن تغالي فيمن تحب أو تغمض العين عما يعتري سلوكه من اعوجاج أو ما يصيب نفسه من تغير. فأنت في الأولى مُحبٌّ مُقتصد وفي الأخرى ناصح أمين. وغيرك يا صديقي إذا أحب دفعه حبه إلى أن يرى سيئات من أحب حسنات، ونقائصهم شمائل عن الوصف قاصرات. وأنا أعلم يا صديقي أن مخالفتك الرأي لمن لا تحب لا يدفعك إلى الانتقاص من أقدارهم، ولا يقودك هوى النفس إلى التلذذ برؤية معاناتهم. وما ذلك إلا لأن الضمير فيك ما زال حياً. والضمير تصنعه المعرفة ولا تصونه الثقافة، ولكنه ينمو مع المرء إذا ما خشي الله في السر كما يخشاه في العلن. وإن من يؤدي حقوق خالقه صادقاً لا ينتقص منها شيئاً كان جديراً بحمل الأمانة وأدائها. فلا حب الناس يدفعه إلى مداراتهم ولا مخالفته الرأي لهم يقوده إلى إيذائهم. إن القوة في كبح جماح النفس وفي مساءلة الذات وحسابها حساباً عسيراً إذا ما أرادت أن ترد بصاحبها موارد الهلاك..
يا قائماً بالليل يتدبَّر صُنْعَ البارئ في الملكوت، يا حسن القول إذا ما أخطأ الناس الطريق، لمن تركت بعدك الحي وأهله والمجلس وصفوته؟ لقد غابت طلعتك واختفى ضياء وجهك، وافتقد كثيرون بعد رحيلك كلمة الحب في الزمن الصعب والليل الطويل.
* * *
 
طباعة

تعليق

 القراءات :613  التعليقات :0
 

الصفحة الأولى الصفحة السابقة
صفحة 51 من 482
الصفحة التالية الصفحة الأخيرة

من اصدارات الاثنينية

الاستبيان


هل تؤيد إضافة التسجيلات الصوتية والمرئية إلى الموقع

 
تسجيلات كاملة
مقتطفات لتسجيلات مختارة
لا أؤيد
 
النتائج