شارع عبد المقصود خوجة
جدة - الروضة

00966-12-6982222 - تحويلة 250
00966-12-6984444 - فاكس
                  البحث   

مكتبة الاثنينية

 
حارة المناخة (17)
ـ لقد هَمَسْتَ في أذني، يا صديقي، بأن الدرب لم تعد تلك الدرب التي تعرف، وأن الطريق قد تغيرت معالمه عليك تغيراً أنكرت معه كل شيء كانت نفسك تحبه أو تميل إليه. ولعلّك ذكرتني وكنت ناسياً كيف أننا قصدنا (العالية) ذات يوم وفي وقت الضحى فلم نكن نسمع إلا وقع أقدامنا وصدى أصواتنا ولم تقع أعيننا إلا على ذلك الرجل القابع أمام داره وقد بسط إزاراً تتناثر حول جوانبه بعض من تلك الأشياء الصغيرة والبسيطة التي كانت تتناسب مع بساطة الحياة وعفويتها. لقد تركتك تتحدث مع ذلك الرجل وجلت ببصري في أنحاء (العالية) فتراءت لي أشجار النخيل، ولم يدر بخلدي يومها أن تلك الشجرة الحبيبة إلى النفوس سوف يقتلها الإِنسان بنفسه وبمحض إرادته، سوف يجتثها من فوق الأرض وإني لأتخيلها حزينة من قسوة هذا الإِنسان عليها، من استغنائه عنها واستبداله إياها بالحجارة الصماء التي تشيد بها الدور والمساكن. النفس يا صديقي تتصور دوماً، وبحكم فطرتها، أنها خالدة في هذا الوجود؛ فتقودها هذه النزعة إلى حب التشييد والبناء، ويدفعها هذا الشعور إلى حب تملك هذا المتاع الدّنيوي الزائل. وإننا يا صديقي نشترك جميعاً في هذا الشعور، وقلة نادرة من الناس تلك التي استطاعت أن تعوض هذا الإِحساس والشعور بأحاسيس ومشاعر أكثر التصاقاً بعوالم الروح ودنيا الأخلاق والفضيلة، وإنني يا صديقي لأعرف رجلاً ينتسب إلى هذه الأرض الطيبة وكان عنده شيء من متاع الدنيا أقام عليه رجلاً من عامة الناس يدير له شؤونه. وسأله ذات يوم عن هذا المتاع أو بعضه فما كان من الآخر الذي يدير مصالح وشؤون هذا الرجل إلا أن يقدم له سندات بالمبالغ التي استدانها بعض الناس من ماله وتأخروا في سدادها أو ماطلوا في دفعها. فلم يكن من صاحب المال إلا أن يبتسم ابتسامة ظن الشخص الآخر أن صاحبها يخفي وراءها رغبة في الثأر لنفسه والمطالبة الشرعية بحقوقه. ولكنه اندهش عندما قال له الرجل: مَزِّقْ هذه السندات فأنا لا أتصور نفسي واقفاً مع خصم، ولا شاكياً لإِنسان ولا متسبباً في خدش كبريائه وكرامته الإِنسانية. لقد تخلى عن حقه، لقد نسي المال أو بالأصح لم يجعل له سطوة على نفسه، لقد تغلب فيه جانب الخير، لقد ارتفعت نفسه إلى آفاق الفضيلة والتحمت بها فكان هذا السلوك النادر والخلق الكريم.
تتوق نفوسنا يا صديقي لرؤية مثل هؤلاء الرجال الذين ودعوا الحياة في صمت وتركوها في هدوء. كانوا في الدنيا مثل حلم جميل وطيف زاه. كانوا للناس مثل سحابة المطر التي تروي الأرض وتستنبت الزرع. النفوس أجدبت يا صديقي، فأين زخات المطر؟ والقلوب صدئت، فمتى ينبثق النور؟ متى نشهد يا صديقي طلعة الفجر الصادق؟ فجر يفجر ينابيع الحب في نفوسنا، يُقْصِي عنها أنانيتها، يطهِّرها من أسوائها، يدنيها من بارئها، يا صديقي أتراك تسلِّكني الدَّرْبَ؟ أتقودني إلى النبع الصافي الذي شربت منه نفوس القوم؟ أم سوف ترجع بي إلى حيث بدأنا وتقول: إن الدرب أمامك ولكنك تحتاج إلى أن تبصر، وإن النبع بين يديك وقريب منك ولكنه لا ينبئ عن نفسه إلا لمن جدوا واجتهدوا. وإنني لقائل لك: إنني سوف أسير وأجدُّ في البحث حتى أصِلَ النَّبْعَ. فالروح مني عطشى ولا يرويها إلا ماء المعرفة..
* * *
 
طباعة

تعليق

 القراءات :630  التعليقات :0
 

الصفحة الأولى الصفحة السابقة
صفحة 49 من 482
الصفحة التالية الصفحة الأخيرة

من ألبوم الصور

من أمسيات هذا الموسم

يت الفنانين التشكيليين بجدة

الذي لعب دوراً في خارطة العمل الإبداعي، وشجع كثيراً من المواهب الفنية.