شارع عبد المقصود خوجة
جدة - الروضة

00966-12-6982222 - تحويلة 250
00966-12-6984444 - فاكس
                  البحث   

مكتبة الاثنينية

 
حارة المناخة (14)
ـ هذه كلمات يا صديقي، أقدمها إليك في خلوة دفعتها إليك ظروف الحياة، وعزلة لم تكن قط من صنع يديك. فمثلك لم يكن يوماً بقادر على أن يظل في مكان واحد يستقبل صباح يومه كما يودعه. فلقد بلوت صداقتك سنيناً، آتيك مع الفجر لأسأل عنك، فيجيبني البعض مازحاً إنك لا تعود إلى هذه الدار إلا بعد أن توصد هذه الحوانيت التي تنتشر في (الحارة) انتشاراً أقرب ما يكون إلى الفوضى منه إلى النظام، ولكنها تلك الفوضى التي تميل إليها النفس، لأنها تجسد بساطة الحياة وتمثل عفوية القوم الذين يعيشونها. لقد وجدوا أنفسهم داخل إطار هذا النوع من الحياة فلم يغيروه وارتضته نفوسهم هذه التي لا أجد تعبيراً أصفها به أصدق من القول إنها نفوس صفت وتألَّقت. وهل تصفو، يا صديقي، إلا نفوس القوم؟ وهل يتألق إلا النفيس من أشياء هذا الوجود ومكوناته؟
إن النفوس، يا صديقي، لا تصفو بمصطلحات نتلقفها من بطون الكتب؛ فنرددها على مسامح الناس ليقال إننا قرأنا مقاصد الفلاسفة، وحفظنا عن ظهر قلب مصطلحات (إيساغوجي).
فلقد تصفو نفس لا تعرف من هذا العلم شيئاً، ولكنها صفت لأنها نظرت في أعْماق نفسها، فجرَّدتها من هذه النوازع السيئة التي كثيراً ما غيّرت هذا الوجه المضيء لهذه الحياة التي تعيشها. جردتها من كبرياء يوهمها بأنها مركز هذا الكون ودائرته. وخلصتها من أدواء البريق والشهرة. وكثيراً ما يعشى الضوء النظر، ويحجب عن النفس الحقيقة. وكثيراً ما قاد التعلق بالرغبة في البروز من غير داع. كثيراً ما قاد النفس الإِنسانية إلى أن تقفز فوق الآخرين وربما تركتهم أشلاء في سبيل وصولها إلى متاع فان وشهوة عابرة. الفلسفة يا صديقي لا تصنع الحكماء، ولكن الحكمة تأتي من النظر الدقيق في شؤون هذه الحياة، والعبرة بما يدور فيها بين فجر نشهد طلعته فنفرح ثم يأتينا مساؤه بما ينقض ذلك الفرح أو ينقصه. وحفظ متون الكتب وحدها ليس هو منبع الورع. فلقد يكون من عامة الناس من تمنعه فطرته من الولوج في الشبهات، وربما زينت النفس لنا، طلبة العلم أو المحسوبين عليه، وما أكثرهم في عصرنا. نعم زينت لنا الشبهات فوقعنا فيها، فقرأنا على طلابنا علماً لم يفيدوا منه في دنياهم، ولم ينفعهم في آخرتهم. وتحدثنا طويلاً إلى الجمع من هؤلاء الطلبة، فلم يكن نصيبنا من هذا الحديث إلا حسرة في نفوسنا لأننا قلنا ولم نفعل فناقض منا السلوك ما حاولنا أن نتظاهر به أمام أعين الآخرين، وكأننا الموقنون به أشد ما يكون اليقين. ولكن كثير من سلوكنا يتكشف للآخرين، فإذا هو مدعاة لسخريتهم في أوقات صفائهم، وإذا هو مبعث كرههم لمن يجعلون أنفسهم في موضع القدوة وهم أبعد ما يكونون عنها، ولعلّهم يستطيعون أن يتستروا في هذه الدنيا لأن الضمائر فيهم قد غفت ونخال أن غفوتها طويلة ويقظتها مستحيلة، ولكنهم لا يستطيعون أن يتستروا أمام خالقهم لأنه يعلم خائنة العين وما تخفي الصدور.
أعود إليك يا صديقي لأخاطبك وأقول: أنا أعلم لماذا اخترت هذه العزلة بعد أن كنت تكرهها أشد ما يكون الكره، وتمقتها أعظم ما يكون المقت، فلقد وجدتَ أنَّ ضمائر البعض قد غفت فخشيت على ما تبقى بين جنبات نفسك من ضياء، وأردت أن تحافظ على صفاء لم يتأت إليك عن طريق ما تنظر في هذه الأسفار فقط، ولكنك حفظت لهذه لأسْفار وقارها، ولهذا العلم هيبته، وقرنت إلى ذلك كله إتقان ما تؤدي من عمل، وهذا هو (العيش الحلال). وإذا أتى الليل - يا صديقي - لم تتجرَّأ لتخوض في شؤون الناس وخصوصياتهم، فتلك بضاعة من لا بضاعة له. لقد كانت بضاعتك (ذكر الله) فأنعم به جليساً وأنيساً. إن الناس ليسألون اليوم كيف يكون الأنس الحقيقي، وإني لأعلم أنني لا أملك الجواب عن سؤالهم، ولكنني سوف أدفع بهم إلى دارك ليسألوك فهل أنت مُحْتفٍ بمثل هذا السؤال؟ أم أنك سوف تتركهم لتخرصاتهم وأوهامهم؟ لا أستطيع أن أجزم بما سوف تدفعك نفسك للقيام به، ولكني سوف أعود إليك بعد حين فأنا لم أنته من حديثي معك وسوف أطرق الباب الموصد بعد أن تركتني خارجه أعاني من غربة هذه النفس اللجوج..
* * *
 
طباعة

تعليق

 القراءات :574  التعليقات :0
 

الصفحة الأولى الصفحة السابقة
صفحة 46 من 482
الصفحة التالية الصفحة الأخيرة

من اصدارات الاثنينية

الاستبيان


هل تؤيد إضافة التسجيلات الصوتية والمرئية إلى الموقع

 
تسجيلات كاملة
مقتطفات لتسجيلات مختارة
لا أؤيد
 
النتائج