شارع عبد المقصود خوجة
جدة - الروضة

00966-12-6982222 - تحويلة 250
00966-12-6984444 - فاكس
                  البحث   

مكتبة الاثنينية

 
حارة المناخة (13)
كثيراً، يا صديقي، ما أرَّقتني الهموم وأثقلت كاهلي نوائب الدهر. أهجر مضجعي وأتسلل خفية في دجى الليل، والطريق طويلة بين (التَّحسينية) و(الحارة)، ولكنني كنت أسلكها وأنا مطمئن النفس. المدينة - يا صديقي - دوماً تتنفَّسُ الطمأنينة، والطُّمأنينةُ وليدةُ الإِيمان ونَبْتُ اليقين. أنا ما زلت أعرف الطريق، فلقد أقامها الحب بين جنبات نفسي وعَبّدها في داخل ذلك الوجد الذي تعيشه جوارحي تجاه تلك الربى الطاهرة. لا يستطيع - يا عزيزي - أحد أَنْ يُغَيِّر معالم استقرت في تلك الأعماق السحيقة من النفس، وما زلت لصيقاً بها حتى وإن اختفت من عالم الحس، فعالم الروح أعظم اتساعاً وأكثر رونقاً وبهاءً.
ـ أناديك من أسفل الدار بلقب أضحى الاسم لك والدَّال على شخصك. تنهض من فراشك، وهو فراش الزاهدين، تُقابلني مبتسماً عند عتبة الباب. لا تسألني ماذا أريد وأين هو الاتجاه. أحفظُ عنك عبارة مضى عليها دهر طويل من الزمن: ((إذا قلت للصديق سر معي، وسألك: إلى أين أنت ماض؟ فهو ليس بصديق))! لا ألمح في وجهك السمح يا أبا السَّمائح ضجراً. وكيف يتسرَّبُ الضَّجرُ إلى نفس طُبعت على الوفاء، وجُبلتْ على صُنْع المعروف؟ أتتها الدنيا يوماً فعزفت عنها. وتزيَّنت لها فأدركت خدعتها. تُرى كم من النفوس تَعْزِفُ عن متاع الدنيا الفاني؟ وكم من الرجال من هو قادر أن يتبيَّن مواضع الخداع ويرتفع إلى ذلك الأفق السَّامي حيث يكون الزهد هو الغاية وحرمان النفس مما يُغْريها هو الهدف؟ وإذا كان وجهك ينبسط لأصدقائك كانبساط نفسك وسعتها، فإنك طالما مشيت في ساحات المدينة باحثاً عن قلوب كسيرة لِتُداوِي جراحها بذلك البَلْسم الذي هداك الله إليه، إنه الإِيمان ودواء الحب الصادق. ومن نفوس عطشى فترويها من ذلك المعين الذي شربت منه يوماً وأحببت أن يشرب الآخرون منه معك، وأرشدتهم كيف ينهلون من نميره الصافي. كنت تضع بين أيديهم كل ما تحمله من زاد ولا بأس عليك إذا ظللت جائعاً وشبع الآخرون. ولا ضير عليك إذا ذهبت ليلاً إلى داركَ، ويدُك خاليةٌ من الدَّراهم. فلقد كان كل ما يهمك أن يذهب الآخرون إلى دورهم وقد حملوا معهم ما يحتاجه أقوام خَلَّفُوهم وراء ظهورهم. ولقد كنت أعجب كل العجب كيف يتأتَّى لِنَفْسٍ أن تُؤْثرَ الآخرين على نفسها مثل هذا الإِيثار، كيف تكبحُ هذا الحب الدنيوي الذي فُطِرتْ عليه نفوسُ البشر وتعوَّدت عليه ولا تستطيع التخلص من سيطرته عليها.
إنِّي لأعلم - يا صديقي - أَنَّ ما تحسه النفس من لذة عن طريق هذا الإِيثار لا تعادله لذة أخرى في النفس. وإنني - يا صديقي - لمتيقن أنك لم تكتسبْ ذلك عن كتاب تضعه أمام عينيك وتَجِدّ في قراءته. ولكنك اكتسبتَ هذا وغيرَهُ بما كان يُردِّدهُ لسانُك وقلبُكَ معاً من ذِكْر الله الباقي، والتدبّر في ملكوته العظيم. فالذكر والتدبر يقودان إلى الحقيقة، حقيقة أنّ البقاء لله وحده وما سواه فانٍ.
هنا - يا صديقي - تكمن العظمة ويختبئ السِّر. ترى متى تقطع النفوس منا هذه الطريق؟ وإنني لأعلم أن طريقاً كهذه لا تُقْطَعُ بالأقْدَام ولا تُقَاسُ مسافاتُها بما تعوَّدنا أَنْ نقيسَ به الأشياء، إنها يا سَمْحَ النَّفْس، يا زيْنَ الأحباب، تُقْطَعُ بالقلوب. وأَنَّى لقُلُوب ملأها حُبُّ الدنيا واستأثْرت بأوقاتها ضروراتُ الحياة، أَنْ تفعلَ ذلك وتحقق غاية سامية كهذه، ولكنني لم أفقد الأمل فلطالما كُنْتَ رفيقاً صادقاً ودليلاً عارفاً ومُربِّياً حنوناً.
* * *
 
طباعة

تعليق

 القراءات :678  التعليقات :0
 

الصفحة الأولى الصفحة السابقة
صفحة 45 من 482
الصفحة التالية الصفحة الأخيرة

من اصدارات الاثنينية

ترجمة حياة محمد حسن فقي

[السنوات الأولى: 1995]

الاستبيان


هل تؤيد إضافة التسجيلات الصوتية والمرئية إلى الموقع

 
تسجيلات كاملة
مقتطفات لتسجيلات مختارة
لا أؤيد
 
النتائج