شارع عبد المقصود خوجة
جدة - الروضة

00966-12-6982222 - تحويلة 250
00966-12-6984444 - فاكس
                  البحث   

مكتبة الاثنينية

 
حارة المناخة (12)
ـ وأعود بك أيها الصديق إلى أولئك الفتية الذين رأيتهم يجتمعون عشية حلول رمضان في (الحارة) ولم أدر لماذا اجتمعوا؟ وما الذي أتى بهم إلى حي كهذا وهم الذين لم تقع عيناي من قبل عليهم في أزقته المتعرجة أو على أبواب دوره المتلاصقة. ذهبت إلى دارنا في (قباء) والأسئلة حول هذا الجمع العجيب تلاحقني، ومن الأسئلة ما يُقْلق، ومن الفضول ما يُغْرِي.
لم يطل غيابي عن المكان الذي أحببت منذ أن تفتحت عيناي على هذا الوجود، ودرجت قدماي في ساحات البلد الطاهر منذ أن عرفت أن الكلمة نزلت في هذه الأرض ثم تفرق شعاعها في جميع أنحاء الأرض. ولقد عرف الكون الكلمة من قبل، ولكنه لم يعرفها مضيئة. ولم يألفها صادقة كما عرفها وألفها في هذا المكان. ومنذ عرفت أن الأرض التي تنبت الثمر الطيب لا بد من أن ينبت فيها - أيضاً - إنسان طيب القلب، متفتح العقل، واسع الأفق، لا يتشبث برأي ولا يتعصب لفكرة. وإن هو تشبث بشيء فهو متشبث بالحق، ومتعلق في الوقت نفسه بروح الصفح والتسامح. لقد ابتعدت عما أردت مواصلة الحديث فيه ولكنها سبحات الفكر ونوازع التذكر والتفكر. عدت عصر اليوم الأول من رمضان، فإذا الفتية ليسوا في مكان واحد من الحي ولكنهم في أماكن متفرقة منه. وإنهم ليضعون العمائم فوق رؤوسهم ويَتَّزِرُون بالإِزار الذي يعرف باسم (الفوطة) ثم يدخلون إلى أسفل بعض الدور ثم يخرجون منها وأيديهم ممتلئة بالأواني المصنوعة من الفخار التي اعتاد الناس أن يطلقوا عليها في الحرمين الشريفين اسم (الدوارق). وبعض هذه الدوارق نُقشت على جوانبه بعض النقوش وبعضها الآخر احتفظ بلونه الأصلي وهو لون الفخار المعروف، بيَاضٌ مَشْوبٌ بشيء من الاغبرار. وإذا كانت الدوارق تصنع من تراب الأرض، فالأرض يطلق عليها في اللغة الفصيحة التي أتم الله بيانها من عنده ونزل بها وحيه على مصطفاه صلى الله عليه وسلم يطلق عليها عادة - (الغبراء).
الفتية يحملون الدوارق ويسيرون من الحارة إلى أبواب المسجد المقابلة للحي نفسه، وهما بابان فقط: جبريل والنساء. ويزيد عجبي كيف يتأتّى لهم حمل ذلك العدد الكبير من هذه الدوارق. ثم إذا ساروا أسرعوا وهم في جيئتهم وذهابهم يتحدثون إلى بعضهم، وهم مع حذقهم لصنعتهم التي يزودون من خلالها الصائمين بالماء البارد - الطبيعي - والممزوج أحياناً بماء الكادي أو الزهر، إلا أن أعين مشائخ أهل الحرفة لا تخطئهم. والصنعة كان قوامها الاحترام بين المعلم والذين يعملون لديه. ومن أَشْهر الذين كانُوا يمارسون حرفة السقيا من كبار السن الذين أدركتهم في الحارة وسقيفة الرصاص: المُنادي، والصَّواف، والأفندي والكُرْدي، والشريف حسن، والشريف علي فراش، وعم مَالاَه. ولعلّ الصديق صالح زمزمي يعرف، بحكم السن، ما لا أعرفه عن البقية. رحم الله من قضى من تلك الفئة الطيبة وبارك في من بقي. وهنا تغريني شخصية واحدة من هذه الشخصيات لأتحدث عنها وهو العم مالاه الذي كان (سبيلُهُ) على يمين الداخل لحارة الأغوات. وكان أحد المجاورين الذين لا يعرف لسانهم إلا الكلمة الطيبة. فهو إن تحدث أدركت طهارة قلبه وصفاء روحه.
كنت أجلس في حانوت الصديق الأستاذ مصطفى برناوي المجاور لدكان الشيخ محمد علي سُكَّر، في مدخل الحارة وكان يجلس معنا الأخوان الكريمان أحمد وحامد عيسى فلاته، وكان ((عم مالاه)) يخرج من الحرم ليجلس في هذا الحانوت ثم يعود إلى (سبيله) مثل كثير من المُجاورين في البلد الطيب، لا يعرف إلا مكان عمله ثم الدار التي تأويه. وجلّ وقته يقضيه بين الروضة والصُّفة والاستماع إلى دروس العلم في الحرم الشريف.
وفي حقبة ماضية لم أدركها كان هؤلاء المجاوروين يترددون على حلقة عالم من أشهر علماء المدينة وهو الشيخ ألفا هاشم رحمه الله. وكان هذا الرجل، إلى جانب حذقه في علوم الشريعة واللغة، شخصية اجتماعية مرموقة بين بني قومه. وكان منزله يأوي الكثير من الناس وكانت القلوب في الماضي تحتضن المريدين قبل أن تأويهم أسقف المنازل وجدرانها، رحمهم الله وأسكنهم فسيح جناته.
* * *
آخر الكلام:
يا مولد الهادي ملأت قلوبنا
أُنساً، وبدَّلت المخاوف مأمنا
وأعدت للأقوام ذكرى لم تزل
تنمو، وذكراً في البسيطة معلنا
قم في فم التاريخ واذكر للورى
حق النبي على العباد مبينا
واطلب من الأجيال أن يوفوا له
بالعهد إن العهد كان معينا
يا ليلة الإِثنين ماذا صافحت
يمناك من شرف أشم ومن غنى
كل الليالي البيض في الدنيا لها
نسب إليك فأنت مفتاح السنا
وحللت في التاريخ أشرف موضع
نادى برفعته الزمان وأعلنا
وملأت عين الدهر منك محاسنا
وملأت سمع الدهر يا بشرى لنا
* * *
 
طباعة

تعليق

 القراءات :738  التعليقات :0
 

الصفحة الأولى الصفحة السابقة
صفحة 44 من 482
الصفحة التالية الصفحة الأخيرة

من اصدارات الاثنينية

الاستبيان


هل تؤيد إضافة التسجيلات الصوتية والمرئية إلى الموقع

 
تسجيلات كاملة
مقتطفات لتسجيلات مختارة
لا أؤيد
 
النتائج