شارع عبد المقصود خوجة
جدة - الروضة

00966-12-6982222 - تحويلة 250
00966-12-6984444 - فاكس
                  البحث   

مكتبة الاثنينية

 
حارة المناخة (10)
لم يكن ذلك الصوت الشجي الذي ينساب في هدوء الليل نغماً حائراً وآهات عميقة، هو وحده ما كان يبلغ سمعي، والطفولة لم تزل تحتفظ ببراءتها والحياة تسير خطواتها متئدة هادئة، بل كان إلى جانب هذا كثير مما يدخل ضمن إشراقات النفس ويسمو بها إلى آفاق الصفاء، صوت المؤذن في مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم. وكان لا يعتلي درجات المنائر إلا أصحاب الأصوات الحسنة مع رسوخ الإيمان وثبات العقيدة وما كان أكثرهم في تلك الحقبة. ولقد تعرضت بالتفصيل لشخصيات بعض هؤلاء المؤذنين في الجزء الأول من رواية هذا البلد الطيب، الذي أسميته (حارة الأغوات) واليوم أعود إلى هذه الفئة فتقفز إلى ذهني بعض الأسماء، كأستاذنا السَّيد (عمر عينوسة) الذي كان يدرسنا جدول الضرب في مدرسة دار العلوم الشرعية، وكان صاحب شخصية حازمة يتوضأ لصلاة الظهر وما هي إلا دقائق حتى نسمع صوته يرتفع من المنارة الرئيسة بالمسجد. وكان صوته قوياً يصل مداه إلى مشارف المدينة. الأذان كان يدخل كل بيت وتتجاوب معه كل نفس، وما أجمل الآذان في اليوم المطير وما أروعه في دجى الليل يخرج الناس من بيوتهم على أقدامهم إلى المسجد، وإذا ما انقضت صلاة الصبح انتشروا في تلك الأسواق المتجاورة في منطقة واحدة، وما دمت قد ذكرت أستاذي (العينوسة) فإنه، من باب التاريخ، يجب أن أشير إلى أن جده السيد مصطفى عينوسة كان شيخاً للمؤذِّنين قبل الشيخ محمد سعيد نعمان.
ولعلّ ما كان يتمتع به أستاذنا (عمر العينوسة) من صوت حسن، هو الأمر الذي كان يهيئه في مناسبات عقد القران لإِلقاء القصائد الترحيبية. وجرت العادة أن يكون هناك خطيب ومُجِيب. ولقد سمعتُ السَّيد عمر - رحمه الله - يلقي قصيدة في واحدة من تلك المناسبات المحببة إلى النفس، وإن لم تخني الذاكرة فالمناسبة كانت في حارة (باب المجيدي)، وفي تلك الحارة سمعت لأول مرة صوت الشيخ محمد علي النَّجار - رحمه الله - كان يُنشدُ إحدى روائعه في التشوق لمدينة المصطفى - عليه صلوات الله وسلامه - ولربما كانت القصيدة التي يقول مطلعها:
لطيبة ميثاق عليّ قديم
إذا ذُكرت يوماً لديّ أهيم
ولعلِّي سمعته يُنشدها في حضور الشيخ الحافظ حسن الشاعر - رحمه الله - وسمعت من يقدمه - أي الشيخ النجار - قائلاً: هذا بلبل المدينة المغرِّد، وهذه مناسبة مضى عليها ما يقرب من ثلاثين عاماً، وإنني لألمح الصديقين الكريمين، الشيخ محمد سعيد باناجة، والأستاذ علي بن سعيد الغامدي، ينظران إلي ثم يداعبانني بشأن السن، وأؤكد لهما أنني لم أخف عليهما حقيقة عمري، ولكن ما أذكره هنا هو ما انطبع في الذاكرة في مرحلة الطفولة وَلَعَلَّهُ شيء كان من دواعي التطلع وفضول المعرفة الذي كان موجوداً لدي في تلك الحقبة، ولا أجد له أثراً الآن.
وفي مرحلة أخرى عرفت الشيخ النَّجار، يقرأ القرآن بالقُرْب من خوخة سيدنا أبي بكر الصديق - رضي الله عنه - وكان صوته منخفضاً إلا أنه الصوت الرخيم الذي يلج بك إلى عوالم الروح ويحلق بك في أجوائها. وكم نحن بحاجة اليوم إلى من ينتزعنا من عوالم المادة التي سيطرت على شؤون حياتنا، فحتى الشعر لم يعد هو الشعر، فهو إما أن يكون ألغازاً وطلاسم وإلا فهو في نظر دعاة الشعر الحديث لا يكون شعراً يستحق القراءة، وفي هذا منافاة لحقائق الأشياء، ومجافاة لبدهيات الأمور. وهم إذ يعترضون على أشكال الشعر التي وجدت في العصرين المملوكي والعثماني. فإن ما يقولونه من شعر أو يكتبونه من نقد لهذا الشعر لا يخرج عن دائرة الشعر الذي يوجهون له في كل مناسبة سهام نقدهم. ولا أجد تسمية لهذا الشعر خيراً من التسمية التي أطلقها عليه أخيراً الشاعر نزار قباني مع أنه محسوب على تيار الشعر الحديث، ولا أتفق معه في مضمون بعض الشعر الذي يكتبه، لقد سماه القبَّاني في مقالين له بصحيفة الحياة كان آخرهما بتاريخ 29 شعبان 1413هـ بـ (الشعر الهيروغليفي) ولا يجرؤ واحد من أنصار هذا الغثاء الذي أصبحت بعض صفحاتنا الثقافية تسعى جاهدة لتسويقه بيننا بعد أن رفضته الأذواق في كثير من البلاد العربية التي سبقتنا في هذه التجربة الشعرية التي تلوي الألسنة وتصيبها بآفة العي، وتفسد الأذواق وتتركها سقيمة من دون دواء، أقول لا يجرؤ أحد على اتهام القبَّاني بعدم القدرة على فَهْم ما يرْمِي إليه هذا الشعر، أو أن رأيه ينطلق من موقف تقليدي محض.
أعود للشيخ النجار الذي كان ملازماً للشيخ علاء الدّين البكري - رحمه الله. وكان الشيخ علاء، واحداً من المجوِّدين لكتاب الله في البلد الطاهر،كما كان صاحب سمت إيماني مهيب. وكان جليساً لهم في تلك البقعة الطاهرة الشيخ محمد عمر السمان - رحمه الله - والشيخ حلّيت بن عبد الله بن مسلّم، الذي لم تقع عيناي على رجل في مثل أناقته، وكنت ألاحظه وأنا في فترة الطفولة يخرج من (حوش مَنَّاع) في مدخل باب - قباء - ماشياً على قدميه إلى الحرم الشريف، ولعلّي كنت أتهيب لقاءه أو الحديث معه. ولم أجد نفسي ذات يوم إلا وأنا في بستانه الواقع خلف مسجد قباء، ولقد كنت بصحبة المرحوم الأستاذ عبد الستار بخاري والذي كان هو الآخر حافظاً لكتاب الله: وعارفاً بمقامات الصوت معرفة دقيقة. كما كان يصحبنا في تلك المناسبة الأستاذان الكريمان عبد الله خطيري ومحمد سعيد حلاَّبة، وكلاهما من أساتذتي في المرحلتين المتوسطة والثانوية.
تشعب الحديث يومها بين الأستاذ عبد الستار والشيخ حلِّيت في أصول المقامات، وكان الشيخ حليت - رحمه الله - يؤم الناس في رمضان لصلاة التراويح، وكانت الناس تأنسُ إلى صَوْتِه الجميل كما كانت تأنس إلى خُلقه الحسن، وقوله الطيب، وتواضعه الجم. ولما انقضت الجلسة أخرج - رحمه الله - نوعاً ممتازاً من التمر، نسيتُ اسمه الآن، وأهداه إِلينا. ووجه الحديث إلي قائلاً: هذا لك يا بني، ثم أصبحت أراه في مجلس والدي وسمعته يتحدث مرة بأسى قائلاً لوالدي: ((من فقد أحبابه فقد مات)) وكان الشهر شهر رمضان المبارك - ولقد كان الفاصل الزمني بين الجلستين - الأولى التي في بستانه العامر، والأخرى التي في حضور والدي، كان ما يقرب من عشرين عاماً، ولما ذكر مقولته السابقة أردفها بالقصة التالية: ((لقد دخل يوماً علي في بستاني الأفندي محسن بري، ومعه مجموعة من وجهاء المدينة من بينهم السيد حسين جمل الليل، والسيد علي حافظ، ومصطفى ديولي، وطلبوا مني الذهاب إلى مسألة صلح، وذهبت معهم، ثم مضى يقول: أين هم اليوم؟ لقد رحلوا وبقيت وحيداً. ولعلّه شعر بالغربة أكثر عند رحيل صديق عمره الشيخ عبد الحميد عباس، ومن قبله رحيل السَّيدين علي كماخي وأديب صقر، وجميع هؤلاء من وجهاء البلد الطاهر ورجاله الكرام. وخرج يومها من دارنا - رحمه الله - فقبلت رأسه مع أخي الأكبر - حفظه الله - ولم أعلم أنها المرة الأخيرة التي سوف أنعم فيها بطلعته البهية وملامح وجهه الصبيح. وعندما انتقل الشيخ حليت إلى رحمة الله لم أكن في أرض الوطن، ولكنني استيقظت من نومي ذات يوم وآلاف الأميال تفصلني عن ثرى الأرض التي أحببت، شعرت أني فقدت رجلاً أحببتُه لِفْضْلِه وخُلقه، وأحببتُ فيه وفاء لأصدقائه ومن بينهم والدي الذي كان يحثنا لزياراته باستمرار، ويجعلها من باب صلة الرحم، وهذا موضوع آخر ليس هنا مجال الحديث عنه. رحم الله أبا عبد المحسن ومن ذكرت قبله من أهل الفضل والعلم، وهدانا إلى سواء السبيل.
ـ آخر الكلام:
قال الشاعر في مدح المصطفى صلى الله عليه وسلم:
سيد ضِحْكُهُ التبسم والمشْيُ
الهوينا ونومه الإِغفاء
ما سوى خلقه النسيم ولا غيـ
ـر محياه الروضة الغناء
رحمة كله وحزم، وعزم
ووقار، وعصمة، وحياء
كرمت نفسه فما يخطر السو
ء على قلبه، ولا الفحشاء
جهلت قومه عليه فأغضى
وأخو الحلم دأبه الإِغْضَاءُ
وسع العالمين علماً وحلماً
فهو بحر لم تُعْيه الأعباء
معجز القول والفعال كريم الـ
ـخَلْقْ والخُلق، مِقسط، مِعْطَاءُ
لا تقِسْ بالنبي في الفضل خَلْقاً
فهو البَحْرُ والأنام إناء
ليته خصني برؤية وجه
زال عن كل من رآه الشقاء
 
طباعة

تعليق

 القراءات :671  التعليقات :0
 

الصفحة الأولى الصفحة السابقة
صفحة 42 من 482
الصفحة التالية الصفحة الأخيرة

من اصدارات الاثنينية

الاستبيان


هل تؤيد إضافة التسجيلات الصوتية والمرئية إلى الموقع

 
تسجيلات كاملة
مقتطفات لتسجيلات مختارة
لا أؤيد
 
النتائج