شارع عبد المقصود خوجة
جدة - الروضة

00966-12-6982222 - تحويلة 250
00966-12-6984444 - فاكس
                  البحث   

مكتبة الاثنينية

 
حارة المناخة (8)
الطريق عامرة بالناس بين (السيح) و(حي الشونة) الذي كانت تقع على طرفه الأيمن، والمواجه لدرب الجنائز، دور الأسرة العريقة المعروفة (آل المدني). وكان من أشهر رجالاتها السيد (عبد الله مدني) جَدّ الصديقين الكريمين غازي عبيد عبد الله مدني، وإياد أمين عبد الله مدني، وإخوانهم الكرام. ولم يكن من شيء يشد انتباهي في هذا الحي الذي لا أفقه شيئاً عن سبب تسميته مثل منظر ذلك الرجل الذي تقع داره أو حانوته - لا أتذكر بالتحديد - على منطقة مرتفعة تقع على يسار القادم من السوق، وقبل أن يصل إلى البَرَحة الصغيرة التي يتفرع منها شارعان أحدهما يؤدي إلى ما كان يعرف بـ ((سويقة)) والآخر إلى منطقة الحرم. وهذا الأخير تقع في بدايته تلك الدار المبنية من الحجر التي تعود ملكيتها - أصلاً - إلى أسرة (آل ظافر) وسكنها لفترة من الزمن الشيخ عبد العزيز الخريجي - رحمه الله - عميد أسرة (آل الخريجي) في البلد الطاهر وذلك قبل أن يبني الدار المعروفة والمنحوتة من الحجر في حي (السَّيح) والتي كان يفصلها عن مسجد سيدنا عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - مدخل (باب جديد).
ـ أعود إلى الرجل الذي كانت ملامحه أقرب إلى ملامح الأخوة ((التركستانيين)) النازحين إلى أرض الإِيمان حباً في الله ورسوله، وجه مستطيل تزينه لحية بيضاء، وجسم نحيل، وكثيراً ما أصلح الأجسام مثل ما أصلح القلوب الزهد في متاع الدنيا، وكثيراً ما أنار البصائر ذلك الورع الذي تقتات منه نفوس القوم الذين تتحرك أجسادهم فوق هذه الأرض بينما تعيش نفوسهم حقيقة في السماء.
ـ أدخل الحرم من باب ((الرحمة)) ففي مؤخرة الحرم تقع حلقة أستاذنا المرحوم (رجب أبو هلال) يدرِّسنا القراءة والكتابة صباحاً في مدرسة العلوم الشرعية، ونحفظ على يديه شيئاً من القرآن مساء في رحاب المسجد الطاهر.
ولكن قبل أن أذهب إلى هذه الحلقة التي كانت تجمعني بكثير من الزملاء من أمثال: غازي بشير، وغازي عينوسة، ونبيل حفظي، وإبراهيم مزيد، وسعود محمود نعمان - رحمه الله - وغيرهم من الأقران، كنت أحرص على التنقّل بين سواري الجزء القديم من الحرم، إلا أن حلقة واحدة من حلقات العلم التي كانت تنتشر بين هذه السواري، ظلت صورتها ماثلة في ذهني - وكانت سني عندئذ لم تبلغ العاشرة بعد - فمن هو ذلك الرجل الذي يكاد ثوبه يلتصق بجسده؟ أما الثوب فهو من ذلك القماش الرقيق الذي نطلق عليه في المدينة اسم (الشاش) وما كنت أعلم أنه تحت ذلك الثوب الرقيق والجسد الضامر تكمن نفس زاهدة في الدنيا، وقانعة باليسير من الزاد، ورحم الله من قال:
والنفس كالطفل إِن تهمله شّبَّ على
حُبِّ الرضاع وإِن تفطمه ينفطم
ـ الرجل يحدث الناس وفي يديه (مروحة) من السعف، وأمامه يجلس قارئ من طلبة العلم حافظ من حفظة كتاب الله، وهو الشيخ محمد منصور عمر - أمد الله في عمره، لا أعلم كم هي المرات التي وقفت فيها على حلقة هذا العالم الذي ترسخت صورته في مخيلتي، وفي كثير من الأحيان نعجز عن تعليل صور رسخت في النفس وأخرى انمحت منها، ولكن لمدة لم تطل بين وقوفي على هذا المجلس العلمي الذي يقع في منتصف ما نُطْلِقُ عليه اسم (الحرم القديم)، وبين يوم خرجت فيه المدينة تشيِّعُ جثمان رجل من أهل العلم والفضل فيها، كان اليوم يوم جمعة، وكان المألوف أَنْ يُغْطَّى نعش المتوفى بإزارٍ نُقِشَتْ عليه بَعْضُ الآيات القرآنية، إلا أن هذا الجسد - خاصة - قد غطي بإزار أبيض لا نقوش عليه، وسمعت الناس يتهامسون فيما بينهم: لقد مات اليوم الشيخ محمد بن علي التُّركي - رحمه الله - صاحب الحلقة الذي لا أعلم لماذا اخترت في تلك السن أن أقف على حلقته دون الحلقات الأخرى التي كان يمتلئ بها مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم. وتجدر الإِشارة هنا إلى أن الشيخ محمد التُّركي - أسكنه الله فسيح جناته - هو عم معالي الأستاذ الدكتور منصور بن إبراهيم التركي - مدير جامعة الملك سعود - سابقاً - وإخوته علي وعبد الرحمن وعبد الله - رحمه الله. وآل التركي أسرة كريمة في بلد الهجرة والإِيمان.
ـ يا آخر المترجِّلين عن صهوات الجياد، يا جار دار النابغة حيث شهد الكون طلعة النور وكانت من قبل غرة في جباه الرجال، لقد عشت للكلمة الطيبة تنشرها بين الناس، وأعطيت المثال من حياتك كيف تسمو النفس ويتألق جوهر الروح، كيف أن الترفع عما في أيدي الناس يدنيك من القلوب، ويمنحك الحب، ويحفظ لك المهابة. لقد مضى على رحيلك ما يزيد على ثلاثين عاماً، ولكن سيرتك لم تنقض. وقوم أصغت آذانهم لكلماتك لا يزالون يدعون لك بالرحمة والغفران. فاللَّهم اغفر لرجل حمل أمانة العلم وأداها، ولم ينتقص من قدرها وهيبتها.
آخر الكلام:
يا خادم الجسم كم تسعى لخدمته
أتطلب الربح مِمَّا فيه خُسرَْانُ؟
أقبل على الروح واستكمل فضائلها
فأنت بالروح لا بالجسم إنسان
 
طباعة

تعليق

 القراءات :697  التعليقات :0
 

الصفحة الأولى الصفحة السابقة
صفحة 40 من 482
الصفحة التالية الصفحة الأخيرة

من ألبوم الصور

من أمسيات هذا الموسم

الأستاذة الدكتورة عزيزة بنت عبد العزيز المانع

الأكاديمية والكاتبة والصحافية والأديبة المعروفة.