شارع عبد المقصود خوجة
جدة - الروضة

00966-12-6982222 - تحويلة 250
00966-12-6984444 - فاكس
                  البحث   

مكتبة الاثنينية

 
حارة المناخة (7)
أعرفه جليساً للرجال يؤنسهم بحديثه فهو حاضر البديهة قوي الذاكرة حتى عندما كان يدلف نحو السبعين من عمره، رأيته صامتاً لا يتحدث، حاضراً ذلك المجلس بجسده ولكنه الغائب عنه بروحه، ترى ما الذي اعترى تلك النفس الصاخبة؟ وأسكت ذلك اللسان الذرب؟ وهرب بتلك الروح بعيداً عن تلك العوالم التي تحب دوماً أن تعيش فيها، وتصر على أن تكون حاضرة فيها بجميع أحاسيسها؟ كنت أسأل نفسي هذه الأسئلة، وإذا بصوت يأتي من المجلس: يا عم فلان، لقد قضى اليوم رجل من الناس، هل أنت خائف من ذلك المصير؟، يلتفت إليه (وهو كما يقولون لا يستعير جوابه) يلتفت إليه، وقد انتزعه السؤال من ذلك العالم الذي كان مستغرقاً فيه، ويرد على السائل قائلاً: أنت مخطئ، إذا حل الوقت ودنت الساعة فسوف أودِّع هذه الدنيا دون عناء أو تعب. ستكون لحظة رضا وطمأنينة.
انفض الجمع وخَلَت السَّاحةُ من روَّادِها، دعاه والدي - أبقاه الله - ليركب معنا السيارة ونقوم بإيصاله إلى داره، أخذ مقعده من السيارة بكل هدوء، طوال الطريق كان صامتاً وعندما اقتربنا من منزله، التفت إليه والدي قائلاً: يا أبا فلان، غَداً سيكون معي بعض الأصدقاء من مكة حبَّذا لو شاركتنا جلسة كهذه، أجاب باقتضاب قائلاً: أظن أنني لا أستطيع يا أبا علي. دخل داره وكان اليوم التالي يوم جمعة، اغتسل وتوضأ ولبس أحسن الثياب، أراد أن يتوجه إلى الحرم ليصلِّي مع الجماعة، فليس بين داره والمسجد مسافة طويلة، ولكنه لم يكمل الطريق. لقد عاد إلى البيت ثانية ولم يكن في الدار إلا السيدة الكريمة زوجته في الدور العلوي، وَدَّعها من أسفل بكلمات مقتضبة، ثم تمدد على الأرض متوجهاً إلى القبلة، وقرأ شيئاً من القرآن، ونطق بالشهادتين. وعندما وصلتْ زوجتُه من الجُزْء العلوي من الدار حيث كانت تجلس، كان صاحبنا قد ودَّع الحياة، ودَّعها في طمأنينة ورضا وهدوء كما أشار ليلة البارحة لذلك السائل من الناس.
هذه ليست أسطورة أو قصة تفنن الخيال في صياغتها ولكنها واقعة حقيقة وقد يكون في الواقع من الحوادث ما هو أكثر غرابةً من الخيال، وأشد طرافةً وجاذبيةً من الأسطورة.
أتسألني يا صديقي عن جيران نبيِّه وأحباب مصطفاه - عليه صلوات الله وسلامه؟ أتُجادلني في شأنهم، وتحاورني في نهايتهم؟ وإنني لقائل لك: إنهم يجتازون هذه الحياة ونفوسهم عامرة بالإِيمان، ممتلئة بالمحبة ثم يقضون وكلمات التوحيد آخر ما ينطقون به عند وداعهم لهذه الدنيا. إنهم يا سيدي لا يعرفون الحقد، ولا يسيرون خلف الباطل، ولا يثنيهم شيء في هذه الدنيا عن قول الحق. وإن المؤمنين لمدعوون بأن يحسنوا الظن في بعضهم، أفتبخل بهذا السلوك على من كرمهم الله بأن تطل دورهم على مسجد نبيه - عليه صلوات الله وسلامه - وتمر أجسادهم من أمام ضريحه لتضاجع أكرم تربة وتنعم بخير جوار؟ والله هو المطَّلعُ وحده على قلوب العباد، فاللَّهم اجعل باطننا كظاهرنا وهيّىء لنا من أمرنا رشداً.
 
طباعة

تعليق

 القراءات :650  التعليقات :0
 

الصفحة الأولى الصفحة السابقة
صفحة 39 من 482
الصفحة التالية الصفحة الأخيرة

من اصدارات الاثنينية

ديوان الشامي

[الأعمال الكاملة: 1992]

عبدالعزيز الرفاعي - صور ومواقف

[الجزء الثاني: أديباً شاعراً وناثراً: 1997]

الاستبيان


هل تؤيد إضافة التسجيلات الصوتية والمرئية إلى الموقع

 
تسجيلات كاملة
مقتطفات لتسجيلات مختارة
لا أؤيد
 
النتائج