شارع عبد المقصود خوجة
جدة - الروضة

00966-12-6982222 - تحويلة 250
00966-12-6984444 - فاكس
                  البحث   

مكتبة الاثنينية

 
حارة المناخة (5)
يوم توفي السيد إبراهيم الرفِّاعي - رحمه الله - قابلتُ الصَّديق الدكتور عباس بافقيه - وهو الشاب المثقَّف ثقافة واسعة بدت في رسالته التي كان محورها أدبنا العربي الحديث مُمَثَّلاً في فِكْر طه حسين وأدبه، عزَّيْتُه في الفقيد وهو يقف على باب كلية الآداب بجدة. أجابني، ودمعة تكاد تَطْفر من عينيه، بقوله: ((إنه لن يتكرَّر)). أعرف بطبيعة الحال تلك الصِّلة التي تربط بين السَّيدين الكريمين، وهي صلة تُؤهِّل الصديق الدكتور بافقيه ليكتب عن صديقه في البلد الكريم، ومما أذكره عن السيد الرفاعي - وهي ذكريات مضى عليها أكثر من ربع قرن - أنني رأيته يجلس في بستانه خلف البقيع والذي يطلقون عليه اسم (الأخوين). ولا أبالغ إذا ما قلت: إن مجلسه كان من أكثر المجالس أناقة وتنظيماً في البلدة الطاهرة. تُذكِّرني أَناقته بالشَّيخ الفاضل جعفر بن إبراهيم فقيه - رحمه الله - ومنزله الذي كان يحْوِي النَّفيس من الكُتب والصُور والمناظر - وخصوصاً تلك التي تتصل بتاريخ بلد المصطفى صلى الله عليه وسلم، ويوم دخلت المجلس، الذي كان يطل على البستان الذي كان يحظى برعاية السيد الرفاعي نفسه، أطل صاحب المكان بذلك الوجه المشرق، كان يقف - رحمه الله - يرحِّبُ بضيوفه، الكبارُ منهم يجلسون بجانبه والصغار سِنًّا من أمثالنا لا تخطئهم عيناه، ولا تتجاهلهم كلماته - كان - رحمه الله - يُنصت للشيخ إبراهيم الصَّباغ - رحمه الله - وهو ينشد إحدى روائعه في مَدْح سيد الخلق - عليه صلوات الله وسلامه - وكان مُحبًّا للصوت الحسن والقول البليغ.
الأستاذ عبد الستار بخاري، أو (الإِمام) كما يَحْلو للناس أن ينعتوه، والسيدان الكريمان حسين وياسين إدريس هاشم - كانوا من أكثر الناس تردداً على ذاك الصَّالون الأدبي والثقافي، يقولون فيُصْغِي عُشَّاق الكلمة لما يقولون، وينشدون فترق القلوب وتنتشي النفوس من ذلك الإِنشاد الجميل. والإِنشاد في المدينة قديم يعود تاريخه إلى احتفاء الأنصار بمقدم سيد الخلق - عليه صلوات الله وسلامه - وإنشادهم للشِّعْر بين يديه على مَشارف قُباء وبالقرب من منازل عمرو بن عوف حيث مسجد الجمعة ((أول مسجد تقام فيه صلاة الجمعة في تاريخ الإِسلام)).
ـ لم أعرف (الأَخَوين) فقط ولكنني عرفت دار آل الرِّفاعي التي كانت تقوم بالقرب من مدرسة دار العلوم الشرعيّة وهي من أقدم دور العلم في البلد الطيب. وكان لهذه الدار بابان: أحدهما يُؤدِّي إلى الحرم النبوي الشريف حيث باب الملك عبد العزيز، رحمه الله، والآخر يؤدِّي إلى المنطقة التي كانت تعرف باسم ((الرُّومية))، وهي دار شُيِّدت على أحسن ما تُشيَّد عليه الدُّور في المدينة، فصاحبها هو السيد حمزة الرفاعي أحد وجهاء المدينة في الحقبة الماضية. وكنت ألمح رجلاً - عُرِفَ بوَقارِه وصَمْته - يخرج من هذه الدار عندما يرتفع الأذان ويحين وقت الصلاة؛ ثم يعود إليها هادئاً صامِتاً كما خرج. ولم يكن هذا الرجل الوقور سوى السَّيد أحمد الرَّفاعي - رحمه الله - عميد هذه الأسرة في عصرنا الحاضر. ولقد كان جليساً للشَّيخ الفاضل السيد محمود أحمد، والد السيد حبيب محمود، وكذلك كان جليساً للشيخ أحمد فارسي الذي كان مسؤولاً عن مكتبة المدينة العامة، رحمهم الله جميعاً وأسكنهم فسيح جنَّاته. وكما عرفتُ الابن الأكبر للسيد حمزة الرفاعي فلقد عرفت إِخوته الكرام: كاظماً، وأبا الصَّفا، ومحمداً، والوحيد الذي لم أدركه هو السيد منصور - رحمه الله - ولكنني عرفت بعض أبنائه عندما كانوا يقدمون لزيارة المدينة، وتأويهم تلك الدار العامرة التي وصفت موقعها آنفاً.
ـ وإن كنت ألمح هذه الصفوة من الرجال تخرج من هذه الدار لأداء الصلاة وقضاء الحوائج، فإني كنت أيضاً ألمح هذا الرجل الطويل القامة الحاد الملامح يقبضُ بيده على عصاً طويلة تتناسب وطول قامته - واللافت للنظر هو أنه لم يكن في حاجة لتلك العصى ليتوكَّأ عليها فلقد أعطاه الله بسطةً في الجِسْم قلَّما شاهدتُها في مُعاصريه من الرِّجال. ولكن إمساكه بالعصا كان من مُميِّزات شخصيته الفذَّة. لقد كنتُ ألمحُ السيد الكريم حسين جَمَل اللَّيل الذي كان صِهْراً لآل الرِّفاعي يخرج من هذه الدار، كما كنت ألمحه يجلس في الدَّكة الصغيرة المجاورة لدكة الأغوات بالقرب من مثوى سيد الخلق عليه صلوات الله وسلامه. ولقد عرفتُ من والدي وممن هم في سِنِّه وطبقته أن السيد حسين جَمَلَ اللَّيل - رحمه الله - كان من رجالات المدينة ووجهائها، سَعْيٌ في وُجوه الخير والإِصلاح، وجُرْأَةٌ في قول الحق. ولعلّ السيد الكريم حبيب محمود أحمد يحدثنا عن مناقب السيد جمل الليل فهو أكثر الناس معرفة به وبالكثير من رجالات المدينة الذين عاصرهم إذ كانوا أصدقاء له أو جلساء لوالدِه الذي كان مجلسه يضم الصفوة من الرجال كما أخبرني - أمدَّ الله في عمره - في إحدى زياراتي له في داره التي كانت تقوم في حي العنبرية. وجدير بالذكر أن دار أبي أحمد كانت تواجه دار السيد عبد الله جعفر الذي ذكر لي السيد الفاضل علي بن حسين عامر - رحمه الله - أنه كان رئيساً للكَتَبَة ببلدية المدينة. ولقد أدركت شخصياً السيد عبد الله جعفر في أخريات حياته ولم أكن يومها في سنٍّ تُهيِّئني للجلوس إليه ومحادثته، ولكن ذاكرة الطفولة لا تزال تختزن صورته وصور العديد من أهل تلك الديار التي شرفها الله بأن تكون مُهَاجَرَ نبيّه ومدْفناً له صلى الله عليه وسلم ولصحابته وآله، رضوان الله عليهم أجمعين، وسوف يكون منها مبعثه يوم القيامة. اسْتَقْبَلَتْه - عليه صلوات الله وسلامه - حيًّا، واحتضنته ميتاً، ورعت رسالته الخالدة وبثَّتها في جميع أصقاع الأرض، أَكرم بها من تُربة، وأنْعِم بهم من قَوْم، وأدام الله علينا نعمة الأمن والإِيمان في هذا العصر الزاهر.
 
طباعة

تعليق

 القراءات :912  التعليقات :0
 

الصفحة الأولى الصفحة السابقة
صفحة 37 من 482
الصفحة التالية الصفحة الأخيرة

من اصدارات الاثنينية

الغربال، قراءة في حياة وآثار الأديب السعودي الراحل محمد سعيد عبد المقصود خوجه

[قراءة في حياة وآثار الأديب السعودي الراحل محمد سعيد عبد المقصود خوجه: 1999]

الأعمال الشعرية والنثرية الكاملة للأستاذ محمد إسماعيل جوهرجي

[الجزء الخامس - التقطيع العروضي الحرفي للمعلقات العشر: 2005]

الاستبيان


هل تؤيد إضافة التسجيلات الصوتية والمرئية إلى الموقع

 
تسجيلات كاملة
مقتطفات لتسجيلات مختارة
لا أؤيد
 
النتائج