شارع عبد المقصود خوجة
جدة - الروضة

00966-12-6982222 - تحويلة 250
00966-12-6984444 - فاكس
                  البحث   

مكتبة الاثنينية

 
حارة المناخة (4)
ثلاثة رجال رأيتهم في المناخة يتعاشرون ونادراً ما يفترقون، أحدهم يأتي من قباء (الحي الذي كان بالأمس هادئاً ويموج اليوم بصخب وحركة غريبين) ماشياً على رجليه يلبس عباءة رقيقة بيضاء ويضع فوق رأسه عقالاً من القصب. اعتداله في مشيته وأناقته في قلبه يُذكِّرانني بمرأى السيد إبراهيم بن حمزة الرفاعي (آخر الراحلين من هذه الأسرة الكريمة في بلد الرسول صلى الله عليه وسلم) أما هذا الرجل الذي يخرج من حي قباء ثم لا يلبث أن يستقر به المقام في شارع المناخة فهو المرحوم ((حسين شويل)) وكان له صديقان: هما أحمد عسيلان الرجل الحلو المعشر صاحب الصوت الحسن، أتذكر حانوته في السوق، هناك مع نهاية سوق (التَّمَّارة). وجدي هو الآخر - رحمه الله - كان صاحب حانوت في هذا السوق أهل البلدة الطاهرة كانوا يعيشون بين النخيل يأكلون ثماره بلحاً ورطباً، ويبيعونه تمراً. أَرْضُ المدينة تُنْبتُ ثمر الدنيا كما أن ثمار الآخرة تتضاعف فيها، يأتيها الناس من أصقاع الدنيا جهلة فيتعلمون، وحيارى فيهتدون، وفقراء فيغنون، لا يبيت في هذه الأرض المباركة جائع، ولا يسكنها إلا مؤمن.. ولا يتوسد أرض بقيعها إلا موحد، ولا يصلي في روضة مسجدها ويقف على قبر صاحبها عليه صلوات الله وسلامه إلا سعيد..
أعود إلى الرجل الثالث ((والصَّديقُ للشويل والعُسيلان)) الذي ارتضى جوار النبي المصطفى صلى الله عليه وسلم وترك أهله وعشيرته في جدة إِنَّهُ المرحوم جميل عبده لم أر رجلاً متأدباً يتنقل بين أحياء البلدة الطاهرة مثله. عمامته الصفراء فوق رأسه، حزامه يشده في وسطه، كنت ألمحه يجلس على مقربة من دكة الأغوات، عيناه تذرفان الدمع، بصره يجول في ذلك المقام البهي، روحه تطوف بتلك العوالم التي تتصل فيها الأرض بالسماء، إِنَّهُ مُنْصِتٌ للتَّاريخ يتحدَّث في كبرياء ومستغرق في الأثر الذي يتلفت في جلال وبهاء.
أيا محب المصطفى، حدثني: كيف يستقر الوجد في أعماق النفوس: حدثني كيف تسكن الجوارح وتخشع القلوب؟ حدثني: لماذا غاب صوت الحادي وتلاشى صداه؟
بلبل البان مالك تغرد
في دجى الليل صوتك شجاني
جاوب الطير لو كنت تعلم
بالذي حبه قد سباني
ـ حدثني يا مشرق الوجه.. متى يشرق صبح النفوس؟
كيف تعود أوقات الصفاء وقد فرَّت من بين أيدينا وتلاشت في ذلك الأفق البعيد؟ أريد أن أعود إلى السَّاحة فأنظر الناس وهم يتوضأون. أريد أن أقف على الباب فأسمع أصواتاً تتلو القرآن وأخرى تستغفر الرحمن. أريد أن أسمع صوت (الرَّيس) يصدح بكلمات التوحيد. إنه يا سيدي يناديهم فيجيبون. أراهم يهبطون درجات شارع (العينية) أفواجاً، أجسادهم تتحرك فوق هذه الأرض وقلوبهم محلقة في آفاق السماء. أراهم يسرعون الخطى فهم في شوق لرؤية المنبر، والصَلاة بين يدي المحراب. وإذا ما حلوا في جنة الأرض فحديثهم الذكر وشغلهم التدبر.
أيا مُؤذِّنَ باب السلام أَطِلْ وقوفك في (الطوف) فلقد طال وقوفنا على أبواب الدنيا وما زلنا نطلب المزيد. أسمعني يا متبتلاً في المحراب صوتك، وبلِّغ يا زائراً (المقام) سلامي، أبلغه وَجْدِي، وصف له شوقي. أتراني بقادر على أن أعيش أوقاتاً للصفاء ولحظاتٍ للحب؟ أتراني بقادر على أن أنقل الخطو بين بَابَي الرَّحمة والسلام؟ وأجثو في الحلقة بين يدي عالم زهد في الدنيا ورغبت نفسه عن محاسنها؟ فلطالما بكى رجال عن صدق وخشوع وأبكونا معهم.. ولطالما ساحوا بنا في عوالم الوجد، في دنيا الطهر، في آفاق الصفاء، فرحمهم الله. وآنس وحشتنا بعدهم، وغربتنا بعد رحيلهم..
 
طباعة

تعليق

 القراءات :699  التعليقات :0
 

الصفحة الأولى الصفحة السابقة
صفحة 36 من 482
الصفحة التالية الصفحة الأخيرة

من اصدارات الاثنينية

الاستبيان


هل تؤيد إضافة التسجيلات الصوتية والمرئية إلى الموقع

 
تسجيلات كاملة
مقتطفات لتسجيلات مختارة
لا أؤيد
 
النتائج