شارع عبد المقصود خوجة
جدة - الروضة

00966-12-6982222 - تحويلة 250
00966-12-6984444 - فاكس
                  البحث   

مكتبة الاثنينية

 
حارة الأغوات (22)
في حارة الساحة كنت أتردد بين الحين والآخر على رباط (بودل). صديقنا المرحوم - محمد عبد المؤمن - كان يسكن ذلك الرباط، طالما حدَّثني عن امرأة مهاجرة في حب الله ورسوله تعمل طوال العام فهي لا تعيش، كما يقال، إلا من عرق جبينها وكَدِّ يديها. وإذا أتى شهر الربيع أقامت مأدبة في سبيل الله، الإخوان يتسابقون لحضور الجلسة، الغرفة الصغيرة في الرباط تتسع لذلك الجمع، والعجوز تصر على أن تطبخ بنفسها طعام الأحباب، الكل يتحدث عن مائدتها ويثني على صنعتها في الأكل.
في الحارة أيضاً طالما حثثتُ الخَطْوَ مسرعاً في الشارع الذي كانت تقوم في بدايته من الجهة اليمنى، مكتبة ((عارف حكمت)) وكانوا يُطْلِقُون عليها (كتب خانة). وفي الجهة اليسرى كانت تقع أعظم دار في التاريخ دار أبي أيوب الأنصاري - رضي الله عنه - والتي احتضنت المصطفى - عليه صلوات الله وسلامه - عند مَقْدمه إلى المدينة، حتى إذا ما جاوزتُ السَّقيفة في ذلك الشارع الضيق - ولا أعلم من الذي أخبرني أن عالم المدينة وشاعرها المعروف ((عمر بري)) - رحمه الله - كان يسكن في ذلك الشارع، وليت الصديق ((عبد المجيد بَرِّي يوثِّقُ لي معلومة كهذه، نعم إذا ما تجاوزتُ السقيفة توجَّهت صَوْبَ الرباط الذي كان يسكنه صديقنا ((محمود عيسى)) - رحمه الله - والده كان من خيرة المهاجرين في المدينة، يستدين الناس منه لأنه كان صاحب حانوت في سوق الفاكهة ((القديم)) وقبل موته تخلص من كل ((سندات الديون)) وأعلن أنه سامح أصحابها، ما أكرم الحديث عن رجال كهؤلاء، وما أطيب الحياة التي عاشوها.
بعد طلوع الشمس، وحلول وقت الضحى الجميل، وبين الدكة وباب جبريل، حيث يسطع النور وتتجلى الإِشراقات، قابلت صديقي ((الزين)). طلبت منه أن يجلس، الحرم هو المكان الذي يجمع شملنا، وقراءة السيرة هي وثاق المحبة بيننا، فإذا هو يطلب مني أن أذهب معه لنزور صديقنا (ابن عيسى) في الرّباط لمذكور. ولما سألتُه، لماذا هو متعجل في هذه الزيارة قال: البارحة رأيت محموداً في المنام قد حلت عليه رحمة الله، ولا بد لي أن أُبَشِّره، سِرْتُ بجانبه لا أسمع إلا تمتمات الذكر من شفته ويوم بلغنا ذلك المدخل الطويل الذي يصل باب الرباط بتلك الغرف المتناثرة على جوانبه بادرتنا أصوات تنتحب بالبكاء، لقد مات ((محمود)) وإذا الزين ينظر إلي قائلاً، تلك رحمة الله يا بُنَيَّ.
((يا زين)) حَدِّثني عن من غيَّبتهم الدار، حدثني عن الليل جميلاً بين الحارة والمزار، حدثني عن فلق الصبح من بين غابات النخيل في ربى قباء وقربان، حدثني عن مجالس انتفت عنها الأكدار، وألسنة تتهيب الدنو من لغط القول وتسأل المولى موجبات الرضوان، حدثني فالوحشة تملأ قلبي وكثيراً ما تُبْكيني الفُرْقة ويؤرِّقني فِرَاقُ الأحباب.
يا أبا الفيض، يا جَليسي في الرَّحبة بين باب السلام وباب الرحمة، يا مُسْتنداً على عَصَاهُ بالقُرْبِ من الحضرة، أعْياني البَحْثَ عنك وكنت أَلْفَاكَ قريباً من دور الأحباب، والقمر يرسل شعاعه في سكون الليل، حتى إذا انفتح الباب كنت المسرع إلى الروضة والسائل من رب العباد الرحمة، يا صديقي ((كامل)) كم كنت تقف في شارع العينية تطلب من الناس أن يديروا ظهورهم للدنيا، تسلك الدروب الضيقة وتنتقل بين الجموع المحتشدة ثم تطرق أبواب المحتاجين وتواسي المعدمين، تقضي الليل ساهراً والناس نيام، وفي الصبح يجدونك بين ((الحلّة)) والساحة، تدعوهم أن يخرجوا الصدقة فيزكوا نفوسهم، ويعينوا ضعيفهم، ويتفقدوا مريضهم، بالأمس كنت تذكر القوم وهم أقل اشتغالاً بالدنيا، بالأمس كنت تسألهم فيجيبون وتدعوهم فيلبون، ليتك اليوم تعود فتذكرهم بالرحمة، لتنزعهم من هموم الدنيا. لقد نَضبتْ يا صديقي دفقاتُ الحُبِّ في نفوسنا، وصوَّحَتْ أزهارُ في دواخلنا طالما سقيناها بالذِّكر ونميناها بشعاع الروح، وحصنَّاها بنور الإِيمان. اليوم يا صديقي ندفن موتانا ثم لا نلبث أن نتحدث عن رصيدنا من الدنيا، ونزور مرضانا فلا نجد ما نشغل به الوقت إلا الثناء على متاع الدنيا المستعار وخروقها البالية ومساكنها الباذخة والتي كل حظنا منها شقوق نتطلع منها إلى من يطرق أبوابنا فمن أحببناه أجبناه، ومن لا تربطنا به منفعة دفعناه، لقد ذكَّرتني يا صديقي ((بِحَبْلِ الباب))، الذي كنا نشدُّه إلى أعلى فينتفح الباب أمام القادم، لا نسأله لماذا قدم إلينا، وكم من الوقت يقضيه بيننا، وجوه أهل الدار لا يعتريها عبوس، وأيديهم مبذولة بالعطاء ومن دخل دار صديقه تبددت عنه هموم الدنيا وزال عنه عناء النفس واطمأنت جوارحه برؤية الأحباب.
يا صديقي في دار الحلبي - رحمه الله - وفي زقاق الطوال، رأيت القوم يجتمعون لأول مرة. سمعت المنشد يصدح بالصوت، والمجلس يختم بترتيل آيات من الذكر. هناك قرأت في وجوه القوم الحب، هناك في طيبة تغذَّتْ روحي من نبع الإِيمان وصافحت يدي الطيبين من الناس. لهم قلوب لا تنطوي على حقد، وأخلاق تنكر الزيف والغش، إن أحبوك أعلموك بالحب، إن تنافرت الأرواح أو اختلفت الآراء لم يضايقوك أو يؤذوك، ما أحوجنا - اليوم - يا صديقي إلى سعة أُفق تدفع عنا أَشْبَاح التعصب وأوهام التحيز، ما أحوجنا إلى قوم يؤمنون بأن في الحياة متسعاً للجميع.
 
طباعة

تعليق

 القراءات :699  التعليقات :0
 

الصفحة الأولى الصفحة السابقة
صفحة 29 من 482
الصفحة التالية الصفحة الأخيرة

من ألبوم الصور

من أمسيات هذا الموسم

سعادة الأستاذة صفية بن زقر

رائدة الفن التشكيلي في المملكة، أول من أسست داراُ للرسم والثقافة والتراث في جدة، شاركت في العديد من المعارض المحلية والإقليمية والدولية .