شارع عبد المقصود خوجة
جدة - الروضة

00966-12-6982222 - تحويلة 250
00966-12-6984444 - فاكس
                  البحث   

مكتبة الاثنينية

 
حارة الأغوات (20)
أقطع هذه المسافة بين ((كوبري المدرج)) ومدرسة دار العلوم الشرعية حيث والدي - رعاه الله - حبذ لي أن أدرس، أجيل بصري في سماء المدينة الصافية، أرى منائر المساجد ترتفع هنا وهناك، وبيوتاً من الحجر المنقوش وخصوصاً تلك التي كانت تقوم خلف مسجد (الغمامة) - بعضه يعود لآل الخريجي. حزنت كثيراً عندما علمت بهدمها كيف يهدم الإِنسان تاريخه، ويتخلص من مواضع حبه وألفته، في الجهة المقابلة لمسجد الغمامة كانت تقوم دار كبيرة - وكانت مسكناً لغالبية آل البري ، وهي أسرة عريقة في البلد الطيب، برز منهم العلماء والأدباء وعرفت منهم شخصياً نفراً كريماً ((كالأفندي محسن بري)) - رحمه الله - والد الصديق الأستاذ إحسان بري، كان أنيقاً في ملبسه، عذباً في حديثه، موفقاً في أعماله، طالما جلست إليه في داره التي كنت أعدها في تلك الحقبة بعيدة عن دارنا في قباء، فلقد كانت دار الأفندي تقوم خارج باب الشامي على يسار الصاعد إلى طريق ((سلطانه)) وليس بعيداً عنها كانت تقوم دار الأديب والمؤرخ السيد أمين عبد الله مدني - رحمه الله - كما عرفت من آل البري الشيخ عبد الجليل بري، وكانت داره تطل على شارع المناخة، كان حفياً بالناس في داره، وكثيراً ما رأيت السيد حسين هاشم - رحمه الله - مع ثُلَّة من الأصدقاء يترددون كل عشية على الدار التي كانت تطل على أشهر شارع في المدينة وأكثره حركة وأشده صخباً.
ألج سوق (الحبابة) ولم يكن مختصاً فقط بأصحاب الحوانيت الذين يبيعون الحَب، ولكنه كان يضم على جانبه الأيمن بعض حوانيت ((العطارة)) - بائعي التوابل والأعشاب الطيبة القديمة - وعلى جانبه الأيسر أصحاب الحرفة المختصة بصنع أثاث المنازل أو من نسميهم بـ ((المُنَّجِِِدِِين))، وسوق الحبابة هذا كانت تظلله أشجار ((السِّدْر)) يخرج الشباب من الحارة يبحثون عن الحمام يصيدونه وعن النبق يلتقطونه، ومن هذا السوق كان ينطلق أهل المدينة بموتاهم وهم يحملونهم على أكتافهم إلى مثواهم الأخير في ((البقيع)).
أشياء عديدة - يا صديقي - لا تحتفي بها الذاكرة وأخرى تستقر فيها ولا نعلم السبب في ذلك لم أنس ذلك الرجل القصير العامة، الأسْمر السحنة، حزامه في وسطه، يمسك ((بالمنخل)) بين يديه لينخل به الحَب - ربما كان الوقت قبل حلول شهر رمضان - وكثيراً ما كانت الناس تحتاج الحَب في هذا الشهر الكريم، ولكن فجأة يضع الرجل - المنخل - لقد رأى جنازة تمر من أمامه في السوق، وإني لا أكاد أسمعه وهو يقول بصوت مرتفع: ((الموت يا غافل)) تراه من كان يخاطب؟ أصحاب الحوانيت المنشغلين بشؤون دنياهم؟ أم يذكِّر نفسه بحقيقة الحياة؟ ليتك أيها الرجل المطبوع على الفطرة تعود - اليوم - فترى كم شُغِلْنا بالدنيا!، وكم سعينا وراء السراب!. كم قبضنا على الريح!، ليتك تعود - اليوم - تُسْمِعْنا مقولة لم تتعلمها في مدرسة أو تقرأها في كتاب! لكنك - وأمثالك - من ذلك الجيل، ترشدكم الفطرة فتصوغون خطابكم بعيداً عن الكلفة وأسباب الصنعة والتزويق.
يا صديقي أنا أقف الآن على مدخل ((باب المصري)) لقد غيّب الموت أهله، ولكن صورهم لم تغب عن ذاكرتي فهي حفية بها، دع القوم يتحدثون فأنا ما زلت أسمعهم، ودعهم يبيعون ويشترون فأصواتهم أقرب ما تكون إلى قلبي، ولكني لن أدخل بك اليوم - إلى عالم ((سويقة)) و ((جوَّة المدينة)) ورباط ((الشَّامي)) و ((مقعد بني حُسين)) ووكالة ((الرَّفة)) و ((الكاموخ)).
تلك المعالم سوف يكون لنا معها حديث نستنطق به أخبارها العذبة وتقف من خلاله على أسرارها الغريبة، فحتى يحين موعد ذلك الحديث أدعوك معي لتسمع صوت هذا الحادي الذي ينشد قائلاً:
ملأ الشوق مهجتي ويديا
وهداني الهوى صراطاً سويا
بت أشكو لقائد الركب وجدي
وغرامي فقال: حث المطيا
لترى طيبة وتطفئ نار
الشوق فيها إذا رأيت النبيا
من بشيري بالوصل في الحب أني
أتلظى على البعاد قصيا
 
طباعة

تعليق

 القراءات :738  التعليقات :0
 

الصفحة الأولى الصفحة السابقة
صفحة 27 من 482
الصفحة التالية الصفحة الأخيرة

من ألبوم الصور

من أمسيات هذا الموسم

الأستاذ الدكتور سليمان بن عبد الرحمن الذييب

المتخصص في دراسة النقوش النبطية والآرامية، له 20 مؤلفاً في الآثار السعودية، 24 كتابا مترجماً، و7 مؤلفات بالانجليزية.