شارع عبد المقصود خوجة
جدة - الروضة

00966-12-6982222 - تحويلة 250
00966-12-6984444 - فاكس
                  البحث   

مكتبة الاثنينية

 
حارة الأغوات (19)
لم أكن أعرف هذا الرجل الذي كان يسكن الدار الملاصقة لدار آل الخريجي، شديد بياض الوجه، شديد بياض الملابس. ولعلّ ما يميز ملابسه تلك الكوفية الأنيقة التي تشكل مع الجبة البيضاء ضرباً فريداً من اللباس الذي اختفى تماماً من الحياة العامة في المدينة. يخرج هذا الرجل من داره في الباب الجديد قبل حلول وقت الصلاة فيقصد المسجد ويجلس في مقدمة الصفوف في الروضة المطهرة، فلقد كان شيخاً للروضة هكذا كانوا يطلقون عليه في تلك الحقبة، ولقد عرفت فيما بعد اسم هذا الرجل الذي كان يجذبني مرآه إنَّهُ الشيخ عثمان مُهُرْجي - رحمه الله - ولقد خلفه في عمله هذا شيخ آخر من أهل البلدة الطاهرة وهو المرحوم عمر كمال، كان نَازِحاً عن المدينة لفترة طويلة في بلاد الهند، وحدث ذات يوم أنني كنت أجلس في حانوت الصديق أسعد نور الذي كان مواجهاً لباب السلام، كان الوقت بعد صلاة العشاء والشباب والشيوخ يمسكون بالمكانس ينظفون مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم وشيخهم من آل طاهر يسير خلفهم ليشرف على أداء عملهم وإنه ليشتد حيناً عليهم فتحس أنهم يخافونه ويرفق بهم حيناً آخر فيمازحهم ويداعبونه، في ذلك الوقت الذي كان يخيم الهدوء فيه على كل ناحية من نواحي المدينة، سمعني الشيخ - كمال - أردد أبياتاً من قصيدة سعد الدين عبد الجليل برادة المعروفة والتي يقول في مطلعها:
عن در مبسمهما عن دمع أَجْفاني
عن الشقيق كذا عن خدها القاني
عن المحيا عن البدر المنير وعن
سود الغدائر عن ليلات أشجاني
وهي قصيدة يتشوق فيها إلى موطنه ((المدينة)) عندما كان مقيماً بأرض الشام وقد كف بصره، وما إن انتهيت من ترديد أبيات هذه القصيدة التي كان كثيراً ما يترنَّمُ بها أصحابُ الأصوات الحسنة في بلد الرسول صلى الله عليه وسلم، حتى رأيت الشيخ كمال رحمه الله يزيح نظارته ليمسح دموعاً انسكبت من عينيه، ونظر إليَّ ملياً يطلب مني أن أعيد على مسمعه الأبيات وعرفت منه أنه عاصر الشاعر سعد الدين الذي قضى فترة من حياته متنقلاً بين أقطار عديدة، وقد أخبرني المرحوم الشيخ جعفر إبراهيم فقيه - رحمه الله - أن سعد الدين هذا ووالد الشيخ جعفر قد أصهرا من أسرة واحدة من المدينة.
لقد عرفت العنبرية بدورها التي احتضنت أهل الفضل والعلم والمعرفة. والشيخان سعود ومحمود دشيشة كانا يسكنان هذا الحي، آل موسى الذين اشتهر منهم الكاتب علي موسى صاحب الرسالة الهامة في تاريخ المدينة والتي قام بنشرها الشيخ حمد الجاسر وقدم لها المرحوم السيد عبيد مدني ودار آل موسى ما زالت تقوم على مدخل الهاشمية على يمين الصاعد لباب العنبرية وعلى وجه التحديد أمام الدار العامرة للسيد حبيب محمود حمد، ودار الشيخ إبراهيم حسوبة - رحمه الله - وعلى مدخل زقاق السلطان كانت تقوم دار آل عامر، الشيخ حسين عامر - رحمه الله - والد الشاعر الأستاذ علي عامر أمد الله في عمره، كان من رجالات المدينة المعروفين.
على مشارف المسيل الذي كان يطيب للناس رؤية المياه وهي تنحدر بين جنباته، نشأ رجال أسهموا في نهضة هذه البلاد والرقي بفكرها وإثراء سبل المعرفة فيها في مقدمتهم معالي الدكتور رضا بن محمد سعيد عبيد والذي كان والده الشيخ محمد سعيد عبيد - رحمه الله - من وجهاء المدينة وأهل الفضل فيها، ومنهم الصديق معالي الدكتور السيد هاشم عبد الله يماني الذي سكنت أسرته الكريمة هذا الحي حقبة من الزمن وعلى وجه التحديد في حوش منّاع الذي ما زال يقوم جزء منه على مدخل باب قباء، ولا بد أن أشير إلى أن السيد عبد الله يماني أمد الله في عمره نشر العديد من كتب السنة النبوية، وكثيراً ما جلست بحكم زمالتي وصداقتي لأبنائه الكرام، إلى السيد عبد الله يماني في مكتبته التي كانت تقوم بالقرب من الحرم النبوي الشريف وكان - شافاه الله - صديقاً لعدد من علماء الحرمين الشريفين. وآل الخطاب - أصهار آل اليماني - كان بعضهم يسكن حي قباء وقد عرفت المرحوم الشيخ عبد المجيد خطاب والد الأستاذ الدكتور عِزَّت خطاب وكان صديقاً لعبد الستار بخاري والأفندي محسن بري والشيخ حسين برادة رحمهم الله جميعاً. والشيخ عبد المجيد واحد من الرجال الذين ساهموا في أندية الأدب ومنتدياته التي كانت تعقد في رحاب البلدة الطاهرة، لقد ارتفعت كلمة الإِيمان من فوق سمائها وشع نور العلم من بين سواري مسجدها وولدت الكلمة الشاعرة بين ظلال نخيلها، وسوف يأرز الإِيمان إليها كما تأرز الحية إلى جحرها كما أخبرنا بذلك أصدق القائلين وسيد المتحدثين - صلوات الله وسلامه عليه.
آخر الكلام:
هذي المدينة قد بدت أعلامها
والعنبرية بابها المأهول
فاملأ عيونك من بلاد قد ثوى
فيها النبي وقد مشى جبريل
تجري العيون بها زلالاً صافياً
سيحون يأسن عندها والنيل
فيها النبي وصاحباه وآله
ومزاره والوحي والتنزيل
والقبة الخضراء فيها قد غدا
منها على رأس العلا إكليل
يا أهل طيبة حسبكم بجواره
بلد تشد له الرحال جميل
أنواركم سطعت وتالد مجدكم
باقٍ وليس لفضلكم تحويل
وأنا المدين لكم بحسن صنيعكم
ما في المدينة يا سعاد بخيل
 
طباعة

تعليق

 القراءات :986  التعليقات :0
 

الصفحة الأولى الصفحة السابقة
صفحة 26 من 482
الصفحة التالية الصفحة الأخيرة

من ألبوم الصور

من أمسيات هذا الموسم

الدكتور محمد خير البقاعي

رفد المكتبة العربية بخمسة عشر مؤلفاً في النقد والفكر والترجمة.