شارع عبد المقصود خوجة
جدة - الروضة

00966-12-6982222 - تحويلة 250
00966-12-6984444 - فاكس
                  البحث   

مكتبة الاثنينية

 
حارة الأغوات (17)
كنت أعرف من حي العنبرية والذي سبق أن ذكرت في حلقة سابقة أن اسمه مشتق من اسم شخص كان يدعى ((عنبر آغا))، أعرف من هذا الحي جزأه المطل على ((المسيل)) وهو مجرى لسيل أبي جيدة، ويقوم على طرفي الشارع الموصل إلى المناخة القائمة أمام ما كان يعرف عند أهل المدينة بـ ((الخان)) - سوق الخضار - يقوم على طرفي هذا الشارع مسجد يسمى باسم أمير المؤمنين عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - وبناء قديم ترتفع من وسطه منارة لمسجد يسمى باسم سيدنا - بلال - وما هذا البناء القديم إلا مقر لإِمارة المدينة، ولعلّي في أثناء مروري بالقرب من هذا البنَاء قد دلفت إليه يوماً فرأيت ساحة ينبت فيها شيء من الشجر لا أتذكر هل هو النَّخل أم السِّدْر؟
ويسامت هذا البناء دار نحتت من الحجر كأحسن ما يكون النحت، فلقد عرفت المدينة بوجود الفئة التي تقيم هذا النوع من البناء المتناسق الجميل، وهي فئة ((القرارية)) وحدثني الشيخ عبد الله بصنوي - رحمه الله - أن دار الجنيد المشهورة في حي حارة الباب بمكة المكرمة والتي آلت ملكيتها إلى معالي الشيخ أحمد زكي يماني، هي من تشييد أهل هذه الحرفة في المدينة، أعود إلى الدار المنحوتة من الحجر على مدخل الباب الجديد - فأتذكر أن قبة صغيرة مضيئة كانت مُقامة أو مبنية فوق هذه الدار، ولم تكن هذه الدار إلا دار آل الخريجي الأسرة المعروفة بالمدينة والتي برز من بينها عدد من الرجال الذين أسهما بجهودهم في أعمال الخير والبناء الاجتماعي والفكري.
في الليل تتهادى إلى سمعي أصوات الحيوانات القابعة في المسيل، وفي الصباح استيقظ على حداء ((السَّقا)) يأتي لملء ((زَفَّته)) المصنوعة من إناءين من الصفيح يصل بينهما عود من الخشب المتين، يأتي هؤلاء السُّقاة مع الفجر إلى منبع الماء وكان يسمى (البازان) الذي كان يقوم على مرمى خطوات من دارنا فأنظر إليه من ثقوب ((الروشان)) أو ما يعرف بالمشربيات، ومعظم الدور في المدينة كان يزين واجهتها هذا النوع من النوافذ، وهو بالإِضافة إلى ما يكشف عنه من حس وذوق فني عند القائمين على صنعته فهو له دلالته الاجتماعية المتمثلة في إعطاء أهل المنزل إمكانية النظر إلى الشارع أو الحارة دون أن يتمكن المار في الشارع من معرفة خصوصيات الدور مع أن الوضع الاجتماعي كله كان يسير في منحى واحد وهو الحفاظ على التقاليد الإِسلامية من رعاية للحرمات وحفظ لحقوق الجار وصون لوحدة الحي الذي يشكل جزءاً من المجتمع الأم.
ينزل المطر تمتلئ آبار البيوت المحيطة بالسيل بالماء، وتمتلئ بمائها تلك ((الخرز)) المنتشرة في مجرى السيل نفسه، يخرج الصغار من الأحواش المتقاربة، وأكبرها حوشا ((عميرة)) و ((مناع)) وأصغرها حوش ((السيد أحمد)) الذي كان يقوم في بدايته دارنا ودار الأفندي ((ناجي)) أحد العاملين السابقين في ((الخالدية)) المركز الرئيس للشرطة بالمناخة، يخرجون إلى شجرة النبق الممتدة الجذور في أرض مسجد سيدنا عمر - رضي الله عنه وأرضاه - وقد اخضرت منها الغصون ويجمعون في براءة طفولية ما تساقط من حبات النّبق.. لا أعلم، لماذا استقرت في ذهني صورة أشجار النبق والسدر التي كانت تنتشر في نواحٍٍ مختلفة من المدينة، من بينها المناخة وسوق الحبابة؟ فلا أتذكر المدينة القديمة إلا وأتذكر معها هذا النوع من الشجر، ولا أعلم لماذا لا تتخذ بلدية المدينة ممثلة في أمينها معالي المهندس عبد العزيز بن عبد الرحمن الحصين خطوة رائدة في تظليل شوارع المدينة بأشجار النخيل والسدر.
إذا نزل المطر - وكثيراً ما كان ينزل - تتجمع المياه وتسيل السيول، سيل عروة، وادي العقيق، والعاقول، وسيل أبي جيدة، وادي بطحان، والأخير هذا كنت أشهد موسمه بحكم موقع دارنا، يأتي الناس من جميع أنحاء المدينة، يتجمعون على أطراف الوادي وبعضهم بحكم صلته بأهل المنازل المطلة على مجرى السيل يتخذون من ((الرَّواشين)) مقعداً لهم لينظروا إلى المياه وهي تنحدر بقوة عجيبة من قربان إلى منطقة ((السيح)) وما وراءها.
الإِنسان في العصر الحديث أقام السدود ليستفيد من المياه ولكنه دفع في مقابل ذلك ضريبة باهظة وهي فقدانه لرؤية مظهر من مظاهر الطبيعة وكثيراً ما تتغذى المشاعر وتتطهر النفوس على رؤية مثل هذه المظاهر. فمن لي بحياة لم تفسدها ماديات العصر ويشوهها تدخل الإِنسان فيما يعد من خصوصياتها؟ يبدو أن ذلك من المستحيلات ولكنه يبقى حلماً وما أجمل الأحلام بعيداً عن دنيا الواقع.
آخر الكلام:
أيها المشوق هنيئاً
ما أنالوكَ من لذيذ التلاقي
قل لعينيك تهملان سروراً
طالما أسْعفاك يوم الفراق
واجمع الوجد والسرور ابتهاجاً
وجميع الأشجان والأشواق
ومر العين أن تفيض انهمالاً
وتوالي بدمعها المهراق
هذه دارهم وأنت محب
ما بقاء الدموع في الآماق
 
طباعة

تعليق

 القراءات :732  التعليقات :0
 

الصفحة الأولى الصفحة السابقة
صفحة 24 من 482
الصفحة التالية الصفحة الأخيرة

من اصدارات الاثنينية

الأعمال الكاملة للأديب الأستاذ عزيز ضياء

[الجزء الثالث - النثر - مع الحياة ومنها: 2005]

الاستبيان


هل تؤيد إضافة التسجيلات الصوتية والمرئية إلى الموقع

 
تسجيلات كاملة
مقتطفات لتسجيلات مختارة
لا أؤيد
 
النتائج