شارع عبد المقصود خوجة
جدة - الروضة

00966-12-6982222 - تحويلة 250
00966-12-6984444 - فاكس
                  البحث   

مكتبة الاثنينية

 
حارة الأغوات (16)
واستيقظت ذات يوم على وقع أصوات غريبة لم آلفها من قبل، حداء قرأت عنه في الأسفار، ونشيد مثل ذاك الذي تحدثت عنه كتب السيرة، ولو أنني لم أسكن في ((حي العنبرية)) مدخل المدينة المعروف لما بلغت إلى سمعي تلك الأصوات ولم تتفاعل أحاسيسي مع تلك الأهازيج، خرجت من داري يحدوني تطلع الناشئة من الشباب وفضولهم، فإذا النوق والبهائم قادمة من البلد الحرام وقد ترجل من فوق ظهورها الفتيان الذين يسيرون الهوينى ولا يتعجلون الخطى، ولكنهم ما إن بلغوا شارع العينية حتى امتطوها، وساروا بها إلى نهايته، يرددون كلاماً لا أحفظه، ثم يعودون أدراجهم إلى ((المناخة)) يقيم بعضهم في ((الحلة)) والبعض الآخر في زقاق ((الطيار)) إلا أن العير انفصلت عن مسيرة الركب، وهبطت الدرجات التي تسلمك إلى الساحة التي كانت تمتد بين بابي السلام والرحمة، ثم أناخت غير بعيد عن الباب الأول، ولأول مرة أرى النوق تمرغ خديها في تلك الرحبة، كل شيء في هذا الوجود يحن إلى سيد الوجود وصفوة الخلق محمد بن عبد الله - عليه صلوات الله وسلامه - ألم يحن إليه الجذع، الذي كان يتكئ عليه في أثناء خطبته في المسجد؟ ألم يهتز جبل أُحد عندما ثبتت أقدامه الشريفة عليه؟
كنت مغرماً برؤية أشكال هذه الفئة من الناس التي تزور المدينة في كل عام، تشد الرحال إلى المسجد النبوي الشريف، وتقف بين يد المصطفى صلى الله عليه وسلم وصحابته الكرام - رضوان الله عليهم - مسلمة، وكان بعضهم من احترامه للبلدة الطاهرة لا ينتعل فيها حذاء وكنت أتعجب كيف بإمكانهم تحمل أشعة الشمس المحرقة، وخصوصاً في أيام تبلغ فيها الحرارة شدتها، ولكنني عرفت فيما بعد أن ((أبناء الحارة)) قد تعودوا على السير على الأقدام كما تعودوا على شظف العيش وقسوته.
كان الركب ينتظم مجموعات كبيرة من أهل الحارة في مكة ولكنني أعتقد أن أحياء مثل المسفلة والنَّقا، والشِعب، والشُبيكة، كانت تشكل الغالبية من أفراده. وكان أهل مكة يخرجون لتوديعه في الوادي، ولعلّ ركباً كان يخرج من المدينة في الماضي وقبل توافر وسائل المواصلات الحديثة وسمعت أن رجلاً من سكان ((العنبرية)) اسمه ((حمزة لبان)) كان شيخاً من مشايخ هذا الركب، ولعلّ صديقنا الدكتور ((يوسف بن أحمد حوالة)) يُحدِّثنا عن ركب المدينة فهو من أهل الساحة وأسرته الكريمة في الذروة من وجهائها، ولا أنس أَصْهارهم - آل الملا - فلقد كان المرحوم عبد القادر - ملا - شَيْخاً لهذا الحي المشهور في البلدة الطاهرة، وفي الحقبة التي كان فيها معتوق بري - رحمه الله - شيخاً لحي المناخة.
كان لأهل الركب أصدقاؤهم بين الحلَّة وزقاق الطيار وقهوة ((الفار)) قرب باب الكومة - وكان هؤلاء الأصدقاء من المدنيين يفتحون دورهم لإِخوانهم المكيين، ويرحبون بهم أجمل ترحيب، وإنك إذا خرجت ليلاً إلى المناخة بعد انقضاء صلاة المغرب أو العشاء، فسوف تجد القوم ينتشرون في المراكيز يتبادلون أحاديث الصفاء وينشدون بعضاً من أدوار ((الصَّهبة)) التي أقرب ما تكون إلى ما يعرف بالموشحات الأندلسية ولكل دور (طريقته) في الإِنشاد، وهو إنشاد يعتمد على حركة ((كف اليد)) ولا يصاحبه شيء آخر. وإن كنت لا أعلم لماذا يسمونه بالمصري. ويسمون نوعاً آخر من الإنشاد ((اليماني))؟ ولعل البعض ممن تعمقوا في معرفة هذه الموشحات يفصل القول لنا في ذلك، وهذا يدخل في باب تاريخ الأدب فالدكتور ((محمد عبده غانم)) نال شهادة الدكتوراه من معهد الدراسات الإفريقية والشرقية بجامعة لندن عن أطروحته في ((شعر الغناء الصنعاني)) والتي جاءت في حوالي 450 صفحة وطبعت مرات عديدة كان آخرها في بيروت في عام 1983م، وما خصه الدكتور غانم بدراسته وبحثه قريب من الموشحات التي تكاد تندثر لدينا، فهي نتاج عصر قد مضى ولكنني أرى أنه لا بد من التوقف عندها ومعرفة جذورها من حيث نسبة الأشعار التي تنشد إلى قائليها، ومن حيث أدائها وهي بلا شك تتصل برباط قوي بذلك الإِنشاد الذي استقبل به الأنصار نبي الهدى عليه صلوات الله وسلامه عند قدومه إلى المدينة:
طلع البدر علينا
من ثنيات الوداع
وجب الشكر علينا
ما دعا للَّه داع
آخر الكلام:
وإذا المطي بنا بلغن محمداً
فظهورهن على الرجال حرام..
 
طباعة

تعليق

 القراءات :629  التعليقات :0
 

الصفحة الأولى الصفحة السابقة
صفحة 23 من 482
الصفحة التالية الصفحة الأخيرة

من ألبوم الصور

من أمسيات هذا الموسم

الدكتورة مها بنت عبد الله المنيف

المدير التنفيذي لبرنامج الأمان الأسري الوطني للوقاية من العنف والإيذاء والمستشارة غير متفرغة في مجلس الشورى والمستشارة الإقليمية للجمعية الدولية للوقاية من إيذاء وإهمال الطفل الخبيرة الدولية في مجال الوقاية من العنف والإصابات لمنطقة الشرق الأوسط في منظمة الصحة العالمية، كرمها الرئيس أوباما مؤخراً بجائزة أشجع امرأة في العالم لعام 2014م.