شارع عبد المقصود خوجة
جدة - الروضة

00966-12-6982222 - تحويلة 250
00966-12-6984444 - فاكس
                  البحث   

مكتبة الاثنينية

 
حارة الأغوات (15)
المناخة بمقاهيها وبعربات ((الكَرُّو)) التي ينطلق بها أصحابها في أرجاء المدينة بحثاً عن الرزق، فهي تحمل الناس وأشياءهم من مكان إلى آخر، ولعلّي أذكر نوعاً من العربات كان خاصاً بحفلات الزواج، وأظن كنا نطلق عليهم اسم ((الدقَّاقات)) في المدينة - وهي الفرقة المختصة بإحياء حفلات الزفاف - ضرباً بالدف وإنشاداً للكلمة - هذه الفرقة كانت تستقل هذا النوع الخاص من العربات والمتميز بوجود الستائر على أطرافه، فكل شيء في مجتمع المدينة ينزع إلى الحشمة والتمشي مع آداب الإِسلام.
تنطلق العربات مع طلوع الشمس ثم يستقر بها المقام في آخره في مكان يدعى ((الحلَّة)). وأنت إذا ما مررت بهذا المكان بعد أن يحل المساء وتتوقف الحياة عن حركتها المألوفة فسوف تجد أصحاب هذه العربات ما بين مفترش للأرض أو مستلق على مركاز من الخشب (الكرويته) يحدق ببصره في سماء المدينة الصافية، وما أجمل تلك السماء التي أظلت خير من أنجبت النساء، وأكرم من مشى على الثرى - عليه صلوات الله وسلامه، وهم بعد زمن من إخلادهم للراحة يعود النشاط إليهم من جديد فتراهم قد تناثروا في تلك المقاهي جماعات يحتسون أقداحاً من الشاي ويأكلون شيئاً من الطعام، وكان الطعام المفضل في ((الحلة)) هو ((الكِبْدة)) يصنعها رجل متخصص اسمه ((العزِّي)) ولم يكن الذين يؤمون ((مَبْسَط)) العزِّي من أهل الحلة فقط ولكن جموعاً كثيرة من أهل المدينة تتوجه إلى ((المناخة)) صباحاً أو ليلاً لتتناول هذه الوجبة الشهية التي عرفت أيضاً في مدن أخرى مثل مكة المكرمة، وما أكثر ما رأيت أهل البلد الطاهر وهم يسرعون الخطى مع مطلع كل يوم إلى سوق الليل فهناك حانوت ((الكَنُو)) لصاحبه محمد إدريس كنو وهو من المؤذنين سابقاً في المسجد وحالياً يؤذن فقط يوم الجمعة في مسجد الشيخ حسن مشاط بالنزهة الذي يقوم على مقربة من مقهى المريعاني الشهير.
وفي الحلة يجلس العم ((شلبي بيطار)) يصلح ((حدوة)) الخيل والبغال، وليس بعيداً عنه يبدو رجل يميل لونه إلى البياض، ولكن أشعة الشمس المحرقة قد أحالت سحنته إلى شيء من السمرة، يشد الحزام في وسطه وينتقل ما بين مقهى ((النًّقاوي)) ومربط الخيل ومجموعة من القِطط تسير خلفه فهو يقوم بإطعامها ويخصها برعايته، ولكنه على كل حال لا يبلغ في عنايته ذلك المستوى الذي بلغه رجل من المهاجرين الهنود فلقد كان يسكن في بيت في ((ذروان)) تجاوره فيه القطط، وإذا سافر في شوارع المدينة متكئاً على عصاه رأيت هذه القطط تتبع خطاه فهي لا تقوى على فراق ولا تسعى للانفصال عنه. أعود إلى رجل المناخة الذي لا أعرف إلا اليسير عن شخصيته، فأنا لا أعلم إذا ما كان شيخاً لأهل الحلة، أو أنه بحكم السن يرجع إليه الفتيان من أهل الحرفة يستفتونه في شؤونهم ويرجعون إليه في قضاياهم، وعندما أستعيد الآن صورته أجده في الحقبة التي عرفته فيها قد بلغ مرحلة متقدمة من العمر، ويظهر ذلك من انحناءة ظهره وبروز الشيب في عارضيه، ومع أن أهل الحارة يفضلون دائماً - حلاقة الرأس - إلا أن ((الكوفية)) البلدي كانت كفيلة بتغطية الجزء الأكبر منه، أما هذا الرجل الذي تحدثت عنه، واختفى فجأة من المناخة وسمعت بعد ذلك أنه ذهب إلى الرياض وتوفي بها، فهو العم ((محمود سِحْلي)) - رحمه الله -
وإذا كان ((السِّحلي)) - رحمه الله - واحداً من تلك الشخصيات التي كانت تشكل ملامح الحياة في ذلك الجزء الهام من المدينة، فلقد كان هناك رجل آخر يتميز بالابتسامة التي ترتسم على ملامح وجهه الأسمر ومع أنه يعمل ((غندرياً)) (سائس الدواب) إلا أنه كان دائم العناية بملابسه، الحزمة في وسطه، والعصى بين يديه، والشباب في ((الحلة)) ينادونه بالمعلم ((كردش)). وأذكر أن شاباً كان يسير في المناخة فتحرَّشَ به أحد من هؤلاء الشباب، فذهب إليه يشكو طيش هذا الشاب وتعديه عليه، رأيت ((كردش)) يقوم من مركازه، يوبّخ المعتدي، ويطيِّب خاطر الشاب الغريب، وهكذا كانت سمات أهل الحارة نخوة وشهامة، ووقوفاً إلى جانب الحق حتى ولو كان المعتدي من ذَوي القربى.
مررت بعد غربة دامت سنين عن المدينة على حي المناخة ورأيت رجلاً كنت أعرفه فيما مضى، شديد البأس مكتمل الصحة، رأيته وقد أخنى عليه الدهر، فضعف منه البصر، وذوى منه الجسد، فسلمت عليه لأسأله عن أهل المناخة الذين اختفوا، واختفت معهم بعض ملامح الحياة الشعبية والتي كانت جزءاً من المجتمع في الحقبة الماضية، قال لي يا بني: مات أكثرهم، وهجر البعض الآخر مناخَتَه إلى نواح أخرى، ولكنها ظلت حلماً جميلاً تعيشه مشاعرهم وأحاسيسهم، وأنشودة عذبة ترددها ألسنتهم، قلت له: تلك - يا عم - سنة الحياة، وطبيعة الدار الفانية، ولكننا بفطرتنا نحنّ دوماً إلى ذلك الماضي بكل إيجابياته وسلبياته، تتوق إليه النفوس، ونذرف على تصرم أيامه الدموع، ولا أدري هل نحن بهذا الشعور نبكي أنفسنا، أم نبكي الزمن لذاته، أم نبكيهما معاً.
آخر الكلام:
وفؤاد كلما عاتبته
في مدى الهجران يبغي تعبي!
لا أراه الدهر إلا لاهياً
في تماديه، فقد بَرَّح بي
يا قرين السوء ما هذا الصبا؟
فني العمر كذا في اللعب
وشبابي بان عني فمضى
قبل أن أقضيَ منه أَربي
ما أرجى بعده إلا الفنا
ضيق الشيب عليّ مطلبي
ويح نفسي لاَ أراها أبداً
في جميل، لا ولا في أدب
نَفْسِيَّ لا كنت ولا كان الهوى
راقبي المولى، وخافي، وارهبي
 
طباعة

تعليق

 القراءات :701  التعليقات :0
 

الصفحة الأولى الصفحة السابقة
صفحة 22 من 482
الصفحة التالية الصفحة الأخيرة

من ألبوم الصور

من أمسيات هذا الموسم

سعادة الأستاذة صفية بن زقر

رائدة الفن التشكيلي في المملكة، أول من أسست داراُ للرسم والثقافة والتراث في جدة، شاركت في العديد من المعارض المحلية والإقليمية والدولية .