شارع عبد المقصود خوجة
جدة - الروضة

00966-12-6982222 - تحويلة 250
00966-12-6984444 - فاكس
                  البحث   

مكتبة الاثنينية

 
حارة الأغوات (14)
يَحِلُّ العيد، وكل الأيام عيد في المدينة، فتزدهي نفوس القوم يخرجون جماعات من أحياء المدينة وأزقتها لأداء صلاة المشهد، ويسلكون في ذلك سبلاً متعددة ولكنها جميعها تفضي إلى حرم المصطفى صلى الله عليه وسلم. وهم إذ يخرجون تستقبلهم تلك الساحة الكبيرة التي تفصل بين المنطقة التي كانوا يطلقون عليها ((جُوَّة المدينة)) والمناطق الأخرى التي تقوم قريباً من السور أو خارجه، وتلك الساحة هي المكان الذي كان أهل المدينة يقصدونه إذا ما أشرقت الشمس ويأوون إليه إذا ما أظلهم المساء بهدوئه، وسكينته. الكبار منهم يجلسون في المراكيز يستعيدون الماضي، الذي عاشوا أحداثه، ويروون شيئاً من القصص الجميل الذي يذهب عن النفس كثيراً من كدر هذه الحياة، ولا ينسون أن يعرجوا على تلك الذكريات المتصلة بحياتهم في بلاد جاوة والهند أو الشام والتي يضنون بشيء من تفاصيلها على الناشئة من شبابهم، وإذا أرادوا أن يتوسعوا في شيء من حديثهم ذلك، طلبوا من ناشئتهم الانصراف ولكن في لباقة وحسن أدب. في تلك الساحة التي تظلِّلها الأشجار وتقوم على جانبيها المقاهي، رأيت الكبار يفرحون بالعيد كما يفرح به الصغار، ولا يمنعهم وقارهم من أن يلهوا ساعة من الزمن لهواً بريئاً ما أحوجنا اليوم إليه في خضم هذه الحياة المادية وهي سمة من سمات العصر بأكمله والتي لا نشعر فيها إلا باللهاث الذي لا تنتهي مطالبه، ولا نعرف له نهاية نقف بنفوسنا عندها.
رأيتهم يمارسون رياضة (القشاع) يمسكون بالعصي في شجاعة ويلوحون بها في محبة. وكان القشاع في الماضي وسيلة من وسائل الدفاع عن النفس في الحقب التي كان ينعدم فيها الأمن على النفس وخصوصاً إذا ما حل المساء واعتصم الناس بدورهم وجلسوا يستمعون إلى حكايات الجدَّات، وهي حكايات تقوم في بنائها القصصي على كثير من الأساطير ولكنها كانت الوسيلة الوحيدة للتسلية. وكان الجَمْعُ يتحلَّق حول المرأة الكبيرة التي تمسك بالإِبرة والسِّيم وتتفنن في صنع الكوافي المزركشة فهي تارة تخفض الرأس لتنظر إلى موضع الإِبرة وأخرى ترفعه لتكمل ما انقطع من حكايتها. الجميع يلتزمون الصمت ولا يجرؤون على السؤال.. فللجدَّات حِسٌّ مرهف ومزاج تعتوره الحدَّة بين الحين والآخر، تحلق العائلة حول الجدة، يذكرني الآن بتحلق الصغار حول جهاز التلفزيون، ولكن حديث الجدة مع طرافته وعذوبته، له أمد محدود ينقضي عنده، ونحن اليوم كثيراً ما نسيء عن عمد أو غير عمد استخدام هذه الوسيلة الحديثة للتسلية، فنرى أبصار أبنائنا مشدودة إليها لساعات طويلة وعقولهم مرتبطة بها، فرفقاً بأبصار لم تر من الحياة بعد شيئاً كثيراً وحفاظاً على عقول يجب أن تأخذ من أوقات لهوها بمقدار حتى لا يضيع ما تعلمته في أوقات الجد والعمل.
لم يكن القشاع ذلك الشيء الوحيد الذي يشدُّني إلى ساحة المناخة ولكن وجوه الرجال كانت تستهويني، ملابسُهم ناصعة البياض - كوافيهم شامخة كشموخ جباههم، وعمائمهم الصَّفراء تيجان فوق رؤوسهم يقيمونها في مقامات الفرح وينزلونها في مقامات الحزن ولحاهم التي يقتدى فيها بسنة المصطفى صلى الله عليه وسلم هُذِّبَتْ أطرافُها ويفوحُ الشَّذَى الطيب منها، يقربون الصغير في مجالسهم ويعطفون على ذوي الحاجات إذا ما قصدوهم، ويحفظون ألسنتهم عن الخوض في أنساب الناس وخصوصياتهم، وإذا ما انفض المجلس وتفرق الجمع ختموا حديثهم بالاستغفار وبالصلاة على سيد ولد عدنان - عليه صلاة الله وسلامه - ما أطيب ذكراهم، وما أجمل سيرهم ولكنني كثيراً ما أمر على الديار التي كانت تشهد حديثهم وأوقات سمرهم، وأنا أردد قول شاعر المدينة سعد الدين بن عبد الجليل براده - رحمه الله - في قصيدته التي يتشوق فيها إلى المدينة بعد خروجه إلى الشام أثناء أحداث الحرب العالمية الأولى:
يا للهوى لسويعات مضت بقبا
وللعوالي بقلبي وخز مران
قربان روحي أفديه لرؤيتها
يا ليت شعري هل أحظى بقربان
واحرَّ قلبي على وادي العقيق فكم
أجرته عيناي منظوماً بعقيان
لذلك السَّيح ساحت عبرتي وغدت
تسقي النَّقَا ولكم سالت ببطحان؟
يا حادي العيس قف، هذا البقيع
وذا سَلْعٌ، فإن به روحي وريحاني
خاتمة
الأديب الفاضل والصديق الكريم الأستاذ عبد الرحمن الأنصاري، لقد وقفت كثيراً عند كتاباتك القيمة عن المجالس الثقافية، وعند حديثك الممتع عن رجل أحبه الكبار والصغار في بلد المصطفى صلى الله عليه وسلم الشيخ عبد الحميد عباس - رحمه الله - ولعلّ الفرصة تواتيك فتخص بالحديث رجالاً عرفتهم عن قرب، ووقفت على كثير من المآثر في حياتهم، فلكم رأيتك تتردد على مجلس يضم صفوة من الرجال من أمثال أبي هشام السيد أديب صقر، والسيد علي كماخي والد الدكتور الفاضل خالد كماخي والشيخ عارف برادة - رحمهم الله وأسكنهم فسيح جناته - وأسأل الله أَنْ يُباركَ حلِّيت لنا في بقية أهل العلم والقرآن صاحب الدار العامرة في حي قباء الشيخ الفاضل حليت بن مسلم والد الشاعر المبدع الأستاذ عبد المحسن بن حليت فهو جدير بكل حب وتقدير وثناء.
 
طباعة

تعليق

 القراءات :736  التعليقات :0
 

الصفحة الأولى الصفحة السابقة
صفحة 21 من 482
الصفحة التالية الصفحة الأخيرة

من اصدارات الاثنينية

الاثنينية - إصدار خاص بمناسبة مرور 25 عاماً على تأسيسها

[الجزء الثامن - في مرآة الشعر العربي - قصائد ألقيت في حفل التكريم: 2007]

الاثنينية - إصدار خاص بمناسبة مرور 25 عاماً على تأسيسها

[الجزء الثالث - ما نشر عن إصداراتها في الصحافة المحلية والعربية (1): 2007]

الاستبيان


هل تؤيد إضافة التسجيلات الصوتية والمرئية إلى الموقع

 
تسجيلات كاملة
مقتطفات لتسجيلات مختارة
لا أؤيد
 
النتائج