شارع عبد المقصود خوجة
جدة - الروضة

00966-12-6982222 - تحويلة 250
00966-12-6984444 - فاكس
                  البحث   

مكتبة الاثنينية

 
حارة الأغوات (10)
لكم أتيتُ الحارة ضحى فإذا الناس يشربون الشاي معطراً ((بالنعناع)) في مقهى المعلم طيفور، أو في الرحبة التي تقوم أمامه أنصت السمع لأحاديث الكبار من القوم يتذكرون ماضياً تصرم عهده وانقضت أيامه، وتلوح لهم الذكريات فيبتسمون وربما ترقرق الدمع في أعينهم على حبيب فقدوه أو صديق سبقهم إلى الدار الأخرى، وكان أكثر ما يشدني إلى القوم ذلك الصفاء الذي انطبعت به نفوسهم، أهو وليد الحياة البسيطة التي كانوا يعيشونها؟ أم أنهم نشأوا هكذا لا يعرفون خداعاً يفسد الحياة ويشوه فطرتها، ولا يميلون إلى كذب وادعاء يمجه الذوق وتأباه الطبيعة السليمة؟
وكما بلوت القوم في الحارة على هذا الضرب من الخلق الرفيع، فلقد كنت أتسلل إلى مجلس والدي خلسة لأستمتع بأحاديث الصفوة من أصدقائه وأقول خلسة: أن للمجالس في بلد الرسول صلى الله عليه وسلم تقاليد يرعاها الكبار ولا يخرج عن آدابها الصغار، فصدور المجالس لا يحل فيها إلا كبار السن، وحديثو السن من الشباب لا يرفعون صوتاً ولا يقاطعون كبيراً في حديثه، بل ويمعن البعض في تلك التقاليد فشرب القهوة من قبل الصغار في مجلس يؤمه الضيوف أمر غير مستحسن ويحث الآباء أبناءهم على تجنبه.
نعم لقد كنت أتسلل إلى مجلسهم فإذا رأوني ابتسموا، في نظراتهم حنان ولحديثهم طلاوة كثيراً ما كانت تشدني، فما أسمعه منهم لا أجده في بطون الكتب، وأفتقده بين لُداتي من الشباب، وتتشعب أحاديثهم وتتعدد موضوعاتها، ولكني لم أرهم حريصين كحرصهم على البعد عن ذم الناس أحياء كانوا أو أمواتاً. إنهم ليغضبون أشد الغضب إذا ما حل عليهم أحد من خارج جماعتهم وأراد أن ينال من الناس في أنسابهم أو يلوك لسانه في خصوصياتهم. ولعلِّي لا أبالغ إذا ما قلتُ: إنهم صراحة كانوا يطلبون منه الانصراف عنهم والابتعاد عن مجالسهم، وأرجع إلى نفسي أحدثها: أين أولئك القوم من أقوام لا يتورعون عن النيل من أناس ربما كانوا خيراً منهم سلوكاً، وأحسن خلقاً، وأنقى سريرة؟ نعم لقد كان الحديث في أنساب الناس عند رجال عرفتهم يؤمُّون دارنا أو نؤم دورهم سجية تهبط بأصحابها في ميزان الرجال وأعرافهم، وأن الفطرة في هذا الأمر لتتلاقى مع قواعد الشرع الحنيف الذي يأمرنا بحبس ألسنتنا عن قول السوء والتجني على الآخرين.
كثيراً ما تردد على سمعي هذا البيت من الشعر:
كن ابن من شئت واكتسب أدباً
يغنيك محموده عن النسب
لقد سمعته كثيراً ولكن المرة الأولى التي بلغ فيها مسمعي كان جملة من كلمات لوالدي - رحمه الله - يخاطبني بها. والذي إذا ما حدثني أشار إلي بيده كأنه يحذرني من التفاخر بما تعده أحاديث الرسول صلى الله عليه وسلم جاهلية ممقوتة وعصبية مذمومة، ثم يردف القول مستشهداً بقول المصطفى صلى الله عليه وسلم وشفيع الناس في يوم الزحف الأكبر.
الجوار صنع في نفوسهم الحب، وبرأها من ظلمة الحقد وغائلة الكراهية، والهجرة جعلتهم يعيشون آداب الإِسلام عن إيمان، ويتمثلون قيمه فيما يأتون من سلوك أو يقدمون عليه من عمل، وحب سيد الخلق - عليه صلوات الله وسلامه - أوجد في نفوسهم رقة، إذا نظرت في وجوههم خلتهم أسوداً، وإذا دنوت منهم وذكرتهم فسوف تجيبك منهم أعين تفيض بالدمع، وألسنه تلهج بالذكر، وقلوب لا تعرف الذل والانكسار إلا لبارئها فرحم الله منهم من ذهب وبارك في من بقي، وهدانا الله سواء السبيل.
 
طباعة

تعليق

 القراءات :637  التعليقات :0
 

الصفحة الأولى الصفحة السابقة
صفحة 17 من 482
الصفحة التالية الصفحة الأخيرة

من اصدارات الاثنينية

الاستبيان


هل تؤيد إضافة التسجيلات الصوتية والمرئية إلى الموقع

 
تسجيلات كاملة
مقتطفات لتسجيلات مختارة
لا أؤيد
 
النتائج