شارع عبد المقصود خوجة
جدة - الروضة

00966-12-6982222 - تحويلة 250
00966-12-6984444 - فاكس
                  البحث   

مكتبة الاثنينية

 
حارة الأغوات (7)
في الليل الذي تنوءُ بي همومه، وتثقل على نفسي الخواطر فيه، لكم تسللت إلى الحارة والفجر لم يطلع بعد نوره، أطرق طرقات خفيفة على باب الدار العتيق، فالدور متقاربة وأخشى أن يوقظ الآخرين وقع أقدامي، يأتيني صوتك من سطح الدار الذي تتقاسم مساحته أنت وبقية أفراد بيتك وعجوز تجاوزت الثمانين من العمر أعطاها حب الله وحب رسوله صلى الله عليه وسلم من النور ما لا يكاد يخفى على الناظرين إليها، تشد عمامتك البيضاء على رأسك وتقابلني عند عتبة الدار فلا أجد في ملامح وجهك غضاضة بل أنت فرح بقدومي، متهيئ لصحبتي، نشق طريقنا في الشارع الذي يفصل البقيع عن الحارة وكان شقها الملاصق للحارة ممهداً والآخر المجاور ((للمقبرة)) مسفلتاً، ويقوم في أوله من جهة ((باب العوالي)) مرتفع كبير يقع في وسطه قبر أحد صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم وإذا ما أخذت خطواتنا تقترب من نهايته الموصلة إلى مدخل الحارة من جهة البقيع كنا نلمح رجلاً يميل سلوكه إلى العزلة فهو لا يتحدث إلى أحد ولكن طيبة قلبه تجد لها دليلاً في ملامح وجهه، ولكأني به اغتنى بصحبة الخالق عن صحبة الخلق، إنه ((عم قونية)) يجلس على حافة الشارع إذا ما أوصدت ابواب الحرم وانصرف الناس إلى دورهم، كما تلمحه هناك إذا ما أشرقت الشمس بنورها على سماء البلدة الطاهرة يزيدها نوراً ذلك الألق الذي ينبعث من قبة المسجد ومنارته.
أحدثك وأنت تصغي إلي، أشكو إليك من الهموم ما لا يُسَرُّ الإِنسان به إلى صديق، تدير حبات مسبحتك، أسمع كلمات الذكر تنطلق من بين شفتيك فتطمئن نفسي ويعود إليها سكونها. ثم تقول كأنك تجيب عن شكواي: يفرجها الله. وأحياناً تختصر القول كله في كلمة واحدة: ((مفروجة)). ندخل البقيع وقد انفتحت أبوابه بعد صلاة الفجر، توجه الحديث لي قائلاً: تلك يا بني دورنا وهذه قبورنا!! ألم يكن أصحاب هذه القبور أشد حرصاً منا على الدنيا، ولكن أين هم اليوم؟ تستقر كلماتك في أعماق نفسي، وهي اليوم على بعد الزمن تستدر دموعي، وهي دموع النازح عن أرض الحبيب المتشوق إلى أفياء الرحمة والرضوان التي خصها الله بها.
تسير بي في طريق متعرج خلف جدار البقيع، دور متهدمة، وأخرى قائمة، وبقايا من نخيل تلوح لنا جذوعه كلما توغلنا في طريقنا إلى دار صديقنا ((معاذ)) وفي فضاء تلك الدار أو ربما بالقرب منه تقوم بئر يستقي منها الناس، يصنع لنا الأخ في الله كأساً من الشاي ويقدم لنا كسرة من الخبز مصنوعة من الشعير يقول مبتسماً هذا طعام المساكين، نفرح بما يقدم، نأكله كأننا لم نأكل من قبل، ثم نتناقش في أمور كثيرة وربما احتددنا في النقاش، وكثيراً ما كانت كلمة الفصل تأتي من صاحب الدار فهو طالب علم، وكثيراً ما يتردد على حلقة الشيخ محمد المختار - رحمه الله - التي كانت تقوم في وسط المسجد، أو على حلقة الشيخ محمد المنتصر الكتاني التي لا تبعد كثيراً عن حدود الروضة.
ما زلت أذكر إذا ما آويت إلى دارك بعد صلاة العشاء وكانت أزقة الحارة تضاء بالأتاريك، والناس يأوون إلى الدور فيها مبكرين، ما زلت أذكر رجلاً طويل القامة ممتلئ الجسم من أهل أفريقيا يسلم على الناس في دورهم ثم يقدم لهم، علبة من عود الثقاب، وما زلت أذكر رجلاً من المجاورين - والذين يكثرون التردد على الحارة - يقدم الورود في صباح كل يوم ((جمعة)) للناس، والمدينة تشتهر بساتينها بالورد والفل والياسمين كما اشتهرت ((بالفاغية)) وبعض من الشعر الذي كتبه شعراء المدينة.. لا يخلو من ذكر ما عرفت أرضها بزراعته وتربتها باستنباته.
يا صديقي الذي لم تدر وجهك عني يوماً ولا أغلقت باب دارك في وجهي، ولا تبرمت من تردادي عليك.
ما زلت أذكر ليالي الصفا مع أحباب لنا انتقل بعضهم إلى رحمة الله والآخر ما زال باقياً في دار الفناء. فلكم قرأنا صفحات من (الشفاء) في حصوة الحرم، ولكم سرنا على أقدامنا إلى مسجد (المستراح)، وبستان (المصرع)، ولكم ضمنا في جنبات سلع، وفي التاجوري وفي زقاق الطوال مجلس لا نسمع فيه إلا ما يرضي الله عنا، وما كان لله دام واتصل وما كان لغيره انقطع وانفصل. من ذلك الماضي البعيد ((يا زين)) يأتيني صوت الحادي، يحرك في أعماق نفسي كوامن الشوق، ويحلق بها في عوالم الصفاء الأبدي، إنك مثلي كثيراً ما سمعت:
فراق أحبتي كالصبر مرا
وأشعل حبهم في القلب جمرا
نحلت لبعدهم والليل أدرى
أقول لنسمة هبت سحيرا
فما حال الأحبة خبريني
فإن كانوا نسوا ما كان عندي
ولم يتذكَّروا عهدي وودي
وغيري واصلوا وتركت وحدي
أقاسي لوعتي، والوجد وجدي
فعند ديارهم تلك اذكريني
 
طباعة

تعليق

 القراءات :1185  التعليقات :0
 

الصفحة الأولى الصفحة السابقة
صفحة 14 من 482
الصفحة التالية الصفحة الأخيرة

من ألبوم الصور

من أمسيات هذا الموسم

سعادة الدكتور واسيني الأعرج

الروائي الجزائري الفرنسي المعروف الذي يعمل حالياً أستاذ كرسي في جامعة الجزائر المركزية وجامعة السوربون في باريس، له 21 رواية، قادماً خصيصاً من باريس للاثنينية.