شارع عبد المقصود خوجة
جدة - الروضة

00966-12-6982222 - تحويلة 250
00966-12-6984444 - فاكس
                  البحث   

مكتبة الاثنينية

 
حارة الأغوات (6)
لن يكون هناك أجمل من اليوم الذي يطلع عليك فجره وأنت تنقل خطواتك في ((أزقة)) الحارة التي يرجع الناس تاريخها إلى عصور الإِسلام الأولى. ولكم دلفت إليها في الهزيع الأخير من الليل، فإذا الهدوء يشمل كل شيء والسكينة تعمر كل ناحية منها وكأني بأجوائها تتنفس ذلك الرضى وتلك الطمأنينة التي انطبعت بها نفوس القوم من سكانها، وكل ما يمكنك أن تسمعه وسط تلك الأجواء صوت خرير الماء في ((خرزتها أو عَيْنِها)).
أناس يتوضؤون ثم ينصرفون إلى ((فرش الحجر)) أو رحبة باب السلام ينتظرون اللحظة التي تفتح فيها أبواب الحرم ويؤذن لهم بالدخول، فحملهم الشوق العارم على أن يسرعوا في خطواتهم، وما أن يستقر بهم المقام في الروضة حتى تراهم والمصاحف بين أيديهم، وذكر الله على ألسنتهم، ودمع سخي ينحدر من مآقيهم. وهل في الدنيا وجد كذاك الذي ينسكب في النفوس فينتقل بها إلى عوالم أكثر إشراقاً وأشد إيناساً وأجمل بهاء؟ إنه الوجد الذي يقذفه الله في قلوب عباده المؤمنين فتغتسلُ به من أدران الحياة التي كثيراً ما تحول ظلمتها بين العبد في هذه الدنيا وبين تلك العوالم التي لو عرف الناس ما فيها من نعيم لتقاتلوا عليه وتنافسوا حوله كما يتقاتلون ويتنافسون حول متطلبات وضرورات الجسد الفاني.
يرتفع أذان الفجر من فوق منائر المسجد، ولم يكن هناك صوت يبعث على الخشية ويحمل على التذكر والعبرة كصوت الأستاذ ((عبد الستار بخاري)) - رحمه الله - يعرف الناس حفظه لكتاب الله، وتمكنه من قواعد التجويد، ومعرفته الدقيقة بمراتب الصوت ومقاماته، كان ((الريس عبد الستار)) - وهكذا كان يعرف في المدينة بين محبيه وطلابه - صاحب قاعدة في الأذان، وكان زميله الشيخ حسين بخاري - رحمه الله - أندى صوتاً، وكان من قوة الصوت التي منحه الله إياها أنه في بعض مناسبات عقود النكاح، حيث كانت تلقى قصائد الترحيب، لا يحتاج في إنشاده للشعر إلى مكبر للصوت. ولقد سمعته وأنا في مطلع العمر فأذهلني ما كان يتمتع به صوته من قوة، ولم أسمع أحداً بعده وبعد الأستاذ ((عبد الستار - رحمهما الله من يؤثر في نفوس الناس ذلك التأثير الذي كان يجده كل من استمع إليهما)).
حدثني صديق أن الناس كانت تخرج قبل أذان الفجر وتقف على أبواب الحرم رغبة في سماع المؤذن محمود نعمان، رحمه الله، الذي توفي في حقبة السبعينات الهجرية؛ ولهذا فأنا لا أعرفه ولم أسمع به إلا بعد مضي زمن على وفاته، ولعلّ هذه الحقيقة تشفع لي عند بعض من أصدقائي الذين إذا ما حدثتهم عن أمر أعرفه من أمور البلدة الطاهرة أخذهم الظن بأنني أكبر منهم سناً - وإن كان لا بأس علي من هذا الوهم الذي يداعبني بشأنه ثلة من الأصدقاء الكرام، كان ((النّعمان)) ثالثاً لعبد الستار وحسين بخاري - أسكنهم الله فسيح جناته - ومع أنني لا أجد من بين مؤذني اليوم من أخذ بقاعدتي الأخيرين في الأذان إلا أنه يمكن القول إن قاعدة - محمود نعمان - هي القاعدة التي يسير عليها بعض من مؤذني المسجد النبوي - في الوقت الحاضر - ولولا خشية الإِطالة لفصلت الأمر في تلك القاعدة. ولعلّها مناسبة أن أشير فيها إلى أن الصوت الحسن في الأذان مطلب أيدته السنة النبوية وذلك عندما اختار النبي صلى الله عليه وسلم سيدنا بلالاً - رضي الله عنه - ليصدع بكلمات الإِيمان من هذا المسجد الطاهر لأنه أندى صوتاً من بقية الصحابة - رضوان الله عليهم أجمعين..
ومحمود النعمان هو من أسرة عريقة تعرف قديماً باسم ((بيت الحنبلي)) نسبة إلى مذهب الإِمام أحمد بن حنبل - عليه وعلى بقية الأئمة الكرام رضوان الله ورحمته - وكانت في هذه الأسرة مشيخة الأذان لفترة من الزمن، حيث تولى الشيخ محمد سعيد نعمان والد الأستاذ عبد الملك المؤذن حالياً بالمسجد شؤون المؤذنين لفترة من الزمن وخلفه في تلك المهمة الشيخ عبد الله رجب رحمه الله، ولقد صحح الأخ الكريم محمد سعيد أحمد حوالة - جزاه الله خيراً - معلومة سبق أن ذكرتها عن زقاق ((الحنابلة)) فحدد مكانه بأنه كان يقع في الجهة المقابلة لباب الملك سعود - رحمه الله - ولقد أزيل هذا الزقاق في التوسعة السعودية الأولى للمسجد النبوي كما أكد لي ذلك الشيخ جعفر بن إبراهيم فقيه - رحمه الله - ولقد كان بعض من أسرة ((آل النعمان)) يسكن في ذلك المكان، وكنت استفسرت من الصديق الشاعر الأستاذ خالد النعمان عن رجل من آل النعمان اسمه ((محمد علي)) عرف بجمال الصَّوْت وكريم المعشر قبل ما يزيد على نصف قرن، فلقد سمعت قبل ما يقرب من عقدين من الزمن رجلين يتحدثان عنه وهما عبد الستار بخاري وحمزة مقليه - رحمهما الله - كان ذلك في ((سويقة)) وفي يوم أغر من أيام البقعة التي طابت بحلول سيد الخلق فيها عليه صلوات الله وسلامه.
وهذه مناسبة مواتية للقول بأنه كان ينتدب لأداء هذه المهنة الشريفة الصفوة من الناس سلوكاً وخلقاً، وتفتخر تلك الأسر بتنشئة أبنائها على أدائه، ولعلّ إدارة الحرمين الشريفين تسعى برعاية المسؤولين الكرام فيها للحفاظ على هذه المؤسسة المتجذرة في التاريخ الذي هو جزء هام وثمين من تاريخ هذا الدين العظيم وآدابه السامية.
 
طباعة

تعليق

 القراءات :824  التعليقات :0
 

الصفحة الأولى الصفحة السابقة
صفحة 13 من 482
الصفحة التالية الصفحة الأخيرة

من اصدارات الاثنينية

الاثنينية - إصدار خاص بمناسبة مرور 25 عاماً على تأسيسها

[الجزء التاسع - رسائل تحية وإشادة بالإصدارات: 2007]

الاستبيان


هل تؤيد إضافة التسجيلات الصوتية والمرئية إلى الموقع

 
تسجيلات كاملة
مقتطفات لتسجيلات مختارة
لا أؤيد
 
النتائج