شارع عبد المقصود خوجة
جدة - الروضة

00966-12-6982222 - تحويلة 250
00966-12-6984444 - فاكس
                  البحث   

مكتبة الاثنينية

 
حارة الأغوات (5)
عبد الله سلامة الجهني:
لا أستطيع الهروب منك وأنا أكتب عن الحارة فصورتك تلاحقني وصوتك يملأ أسماعي حيث كنت أجلس إليك في ((فرش الحجر)) المكان الذي كان إذا ما جن الليل يستقبل أقواماً تعلقت منهم النفوس بحب الله وتوجهت منهم الجوارح لاستدرار رحمته وطلب رضوانه، يمسك أحدهم بكتاب الله بين يديه فلا يتركه حتى يسمع صوت المؤذن في منارة المسجد، ويجلس الآخر للذكر فلا تسمع إلا تمتمة شفته، هم القوم انشغلوا بحبه عما سواه فأنساهم هموم هذه الدنيا الفانية لأنه تكفل لهم بشؤونها؛ فلا القلق يعرف طريقه إلى نفوسهم؛ ولا الخوف من فقدانها يشكل هاجساً لديهم.
لماذا لا أكتب عن صفاتك السامية للناس أيها الرجل وقد أصبحت بين يدي رحمة الله، وما زلنا نحن في هذه الدار سائلين الله - عز وجل - حسن المخرج منها؟ كيف لا أذكر اليوم الذي جلست فيه إليك لأول مرة؟ وكنت - من قبل - أتهيب لقاءك، كنت بصحبة أستاذ كريم، فجئنا إليك وأنت جالس في حرم رسول الله صلى الله عليه وسلم وخلف ما يسمى بـ ((المكبَّرية)) حيث يرتفع صوت الإِيمان، فإذا الذي أنا برفقته يطلب منك أن تعينه على أمر من أموره الخاصة، لقد أجلت بصرك فيما حولك ثم تطلعت إلى الأفق البعيد متجاوزاً حدود هذا العالم ومتخطياً حواجزه، وجاء الرد منك بكلمات ما زلت أحفظها وها أنا اليوم أرويها. قلت له: عجباً إنني هارب من هذه الدنيا، فكيف تأتّى لها أن تلاحقني في هذا المكان الطاهر؛ وساد صمت عجيب لا نسمع في أجوائه سوى رجع أصوات قوم يقرأون وآخرون يسلمون ثم رأيتك بعد هذا الموقف الذي كان بداية محبة دامت لأكثر من عقدين من الزمن.. رأيتك بعدها تدخل المكتبات المجاورة للمقام الطاهر ومن بينها مكتبة ((عارف حكمت)) فإذا أنت منكب على القراءة، وكثيراً ما رجعت إلى الكتب المحفوظة في تلك المكتبات فاعلم من إشارات بين سطورها أن يديك لامست صفحاتها ونظرك جال بين كلماتها، كنت عاشقاً للكتاب كأنك ولدت لتقرأ، وكتبتَ وألَّفت ولكن بعض ما كتبتَ ظل بعيداً عن متناول الأيدي، فلا المكان كان يستقر بك ولا الشهرة كانت تستهويك فأنت طراز فريد من الرجال يحبك الذين عرفوك، ويعرف منزلتك الذين كانوا يرون حياتك تنزع نحو المثالية ولا تتعايش مع الواقع، ولكنني أحببت حديثك، فإذا أنا أجلس إليك في المدينة في ((فرش الحجر)) بالقرب من الحارة، ثم تجمعني بك الأقدار في ((مكة)) فإذا حصوات الحرم تجمعنا وبيت الله يوحد شملنا، وأنت ترتدي الإِحرام نازح من الدنيا وأنت بين أهلها وزاهد في متاعها بينما كنا نلهث خلف سرابها، تقول لي: زهدت في صحبة الناس واستعضت عنها بصحبة الله، أحفظ عنك عظات من القول، كأن الناس لم يقولوها من قبل لأنك تقولها قول المؤمن بها والمعتقد في صحتها، ألم تقل يوماً المسلمون أحوج ما يكون إلى أن يحسنوا الظن ببعضهم البعض، ثم تعقب قائلاً دعونا نحاسب الناس على أفعالهم قبل أن نحاسبهم على أقوالهم. وخاطبتنا يوماً قائلاً - وكان ذلك قبل وفاتك بأسابيع في جدة: إن الدعوة إلى مكارم الأخلاق من أسس هذا الدين العظيم، لقد كنت متعلقاً بتلك المكارم. فلقد سألتك يوماً: لماذا يبدو هذا الهزال عليك فأجبتني يجب أن نجوع كثيراً لنعرف كيف يجوع الفقراء من الناس. ولقد كنت تكتفي بالقليل من الطعام وتنزع إلى البسيط من الثياب، وتنام اليسير من الليل، فلكم كنت ألمحك في ((الفرش)) متهجداً، وفي روضة المصطفى صلى الله عليه وسلم - قارئاً - وحول البيت طائفاً، فإذا تحدثت عن الدنيا استقر حديثك في الأعماق لأنك زهدت في الدنيا عن قناعة، ولم يشغلك ما فيها من بهرج أو يستهويك ما يجاوزه الآخرون من متاع. ولقد تركت خلفك ذكراً حسناً ولمحات إنسانية تجسدت في ذلك التراث الذي كتبت، والإِبداع الذي دوّنت والذي لو لم يكن فيه إلا (تفسير القرآن الكريم) و (أفكار بيضاء).. لكفاك الله به رضا في هذه الدنيا وقربى في الدار الآخرة.
 
طباعة

تعليق

 القراءات :716  التعليقات :0
 

الصفحة الأولى الصفحة السابقة
صفحة 12 من 482
الصفحة التالية الصفحة الأخيرة

من اصدارات الاثنينية

الغربال، تفاصيل أخرى عن حياة وآثار الأديب السعودي الراحل محمد سعيد عبد المقصود خوجه - الجزء الثاني

[تفاصيل أخرى عن حياة وآثار الأديب السعودي الراحل محمد سعيد عبد المقصود خوجه: 2009]

ديوان الشامي

[الأعمال الكاملة: 1992]

الاستبيان


هل تؤيد إضافة التسجيلات الصوتية والمرئية إلى الموقع

 
تسجيلات كاملة
مقتطفات لتسجيلات مختارة
لا أؤيد
 
النتائج