شارع عبد المقصود خوجة
جدة - الروضة

00966-12-6982222 - تحويلة 250
00966-12-6984444 - فاكس
                  البحث   

مكتبة الاثنينية

 
حارة الأغوات (4)
أشياء عديدة ومتباينة كانت تجذب الناس إلى تلك الحارة أو تدفعهم لزيارتها بين الحين والآخر. من بين تلك الأشياء (مخبز المعلم حجازي) رجل تقدمت به السن ولكنه لا يزال حريصاً على الكسب من صنع يديه.. يلبس ثوباً رقيقاً من الشاش ويضع نظارة على عينيه مشدودة إلى أذنيه بخيط مفتول يسمى في لغة سكان المدينة بالدُبارة، يأوي إذا ما جن الليل إلى غرفة صغيرة في الدور السفلى من أحد بيوت الحارة، تلك الغرفة هي عالمه الوحيد الذي عاش فيه الحقبة الأخيرة من حياته حتى انتقاله إلى رحمة الله ويستيقظ مع ((الأذان الأول))، فالحرم على مقربة منه. وبعد أن يصلي مع الجماعة يذهب إلى ((الفرن)) ويشرف بنفسه على ((تقريص)) الخبز المصنوع من القمح والذي يتدافع الناس للحصول عليه. كان ((محمد حجازي)) - رحمه الله - حاد الطبع لا يطيق الثرثرة وكثرة الكلام. أما حديثه فهو كحد السيف القاطع، يأبى أن يقول ما لا يؤمن به. أو يجامل فيما يعتقد أنه يتعارض مع أخلاقه، هو في ذلك مثل كل رجال الجيل السابق، لم يتلقوا التعليم انتظاماً، ويتدرجوا في تلقي فنون المعرفة. ولكن الفطرة كانت تضبط كل سلوكياتهم وتوجه نشاطاتهم في هذه الحياة توجيهاً سليماً وصادقاً في الوقت نفسه.
* * *
((حجازي)) لم يكن من أهل الحارة ولكنه انتقل إليها من حارته الأولى ((العنبرية)) التي كان يعمل فيها الحرفة نفسها التي امتهنها بعد انتقاله إلى حارة الأغوات. ولقد كان متقناً لأصول حرفته إتقاناً كاملاً لا يخرج بذلك عن الإِطار الذي كانت تدور فيه جميع الحِرف الأخرى، وهو إطار محكوم بأخلاق المهنة والمحافظة على سمعة العمل وصاحبه ومن هنا تكون الجودة ويتحقق الإتقان.
المخابز في المدينة المنورة كانت جميعها تشترك في سمة واحدة وهي الاعتماد على النار الطبيعية والتي يشكِّل الحطب أساس وقودها. هذه المخابز كان يتركز وجودها في زقاق ((الطيار)) ومن أشهرها ((العمري)) و ((أبو عنق)) في الصباح يخصص بعضها لصنع ((الشريك)) أو ((السّحيرة)) كما يسميه جيران بيت الله من أهل مكة - شرفها الله - وفي الظهر ((الخبز)) وأنواعه كثيرة أجودها المصنوع من حب القمح، وفي المساء صنع أنواع أخرى من ((الشريك)) أشهرها ذلك المستطيل والمدهون بالسمن والذي يستخدم في حفلات الأعراس.
وفي الضحى حيث تعمر مقاهي المناخة بروادها وتمتلئ المراكيز بالزوار من كل مكان. وتفتح حوانيت بائعي اللبن أبوابها لشرب الحليب أو تناول اللبن والزبدة. في ذلك الوقت من النهار ترى العاملين لدى تلك المخابز يحملون فوق رؤوسهم طاولات ((الشريك)) والخبز وهم يعبرون شارع المناخة المظلل بالأشجار إلى سوق العياشة، واحد من تلك الأسواق التي تتجاور مع بعضها البعض، وتلبي حاجة من يؤمها من الناس. ولكن المنظر الوحيد الذي لا أنساه واحتفظت به ذاكرتي لمدة تقارب ربع قرن من الزمن، هو الطريقة التي كان يسير بها بعضهم وهم يحملون ذلك الخبز، فهم يسرعون في مشيتهم وطاولات الخبز على رؤوسهم وقد أسبلوا أيديهم إلى الأسفل وكأنهم لا يحتاجون إلى تلك الأيدي للقبض على ((طاولة)) الخبز. لعلّه شيء من الخبرة والمران اكتسبوه من طول العمل في الصنعة أو الرغبة في إبراز الموهبة أو هو مزيج من الاِثنين معاً وإذا وصلوا إلى السوق ودفعوا به إلى الباعة سمعت الأصوات ترتفع من خلف ((أشرعة)) الحوانيت تكاد تختلط مع بعضها ولكن في غير نشاز أو تنافر.
في زقاق (الطّوال) الذي كان يمكنكَ أن تلج إليه من طريقين أحدهما وهو سوق ((القفَّاصة)) والذي تنتشر على جوانبه أيضاً حوانيت تخصص بعضها في صنع الأثاث الذي كان يستعمله أهل المدينة في منازلهم. وتخصص البعض الآخر في إصلاح المصابيح التي عرفت في حقبة ماضية باسم ((الأتاريك)) كما يمكنك بلوغه من طريق آخر وهو شارع الساحة المتميز بدوره المبنية من الحجر والمزدانة واجهاتها ((بالمشربيات)) والتي تبرز من خلال تلك اللمسات الفنية الرائعة الموجودة فيها ذلك الحس الحضاري الذي عرفت به المدينة المنورة على امتداد العصور الإِسلامية. في هذا الزقاق كان يقع ((مخبز البري)) لصنع الشريك وعلى وَجْه التحديد كان يقوم هذا المخبز في صدر الرحبة التي كان يقع فيها ((دار النابغة الصغرى)) حيث مدفن والد رسول الله عبد الله بن عبد المطلب كما أثبت ذلك بعض أصحاب السير، ولا أعلم إذا ما كانت تلك المنطقة جزءاً من دور بني النجار الذي كانت فيهم خؤولة والد النبي صلى الله عليه وسلم الذي توفي في المدينة بعد رحلته إلى الشام وتم دفنه في ذلك الموقع.
كان من بين جميع مخابز المدينة مخبز واحد ينسب إلى اسم ((امرأة)) وهو مخبز (وحيدة). وكان هذا المخبز يقوم في حي ((الشونة)) المؤدية طرقه إلى الحرم النبوي الشريف وشارع ((سويقة)) المشهور وبالتحديد خلف الدار الكبيرة المتميزة ببنائها من الحجر المنحوت والعائدة لآل ((ظافر)) والتي كان يسكنها آل ((الخريجي)) ثم سكنها من بعدهم آل ((ساعد)) ولا أعلم هل كان مخبز ((وحيدة)) يصنع الخبز أم أن الناس كانوا يذهبون إليه بالخبز لتطييبه بعد أن يصنعوه في بيوتهم كما كانت هي العادة عند أهل المدينة في تلك الحقبة التي أصبحت جزءاً من الماضي الذي يحتاج إلى أكثر من هذا السرد العابر الذي اعتمد في تدوينه على الذاكرة، ولربما اعتور هذا السرد شيء من النقص في فصوله أو بعض الخطأ، وهي فرصة مناسبة أدعو فيها الزملاء الكرام ممن عايش تلك الفترة إلى تذكيري بما وقع فيه النسيان وتصحيح ما أخطأت القول فيه، وهذا هو المنهج الذي أؤمن به في هذه المحاولة الكتابية التي تستهدف مقاربة بعض النواحي الاجتماعية ووصف وقائعها حيث لا تتوافَّر وثائق تساعدنا في معرفة دقيقة بذلك الواقع الاجتماعي أو وصفه أو الحديث عن رجاله. إلا أن ذلك لا يمنعنا من ضبط هذا السرد الكتابي بشيء هام وأساسي وهو التقيد بما يرضي الله ورسوله صلى الله عليه وسلم نائين عن التعرض للناس بما يسوء وخصوصاً أولئك الذين انتقلوا إلى جوار ربهم وأصبحوا بين يدي رحمته، فالشريعة الإِسلامية الغراء أمرتنا بذكر محاسن موتانا وأن ندعو لمسيئهم بالغفران، ومتحفظين كذلك على الكتابة في قضية أنساب الأسر دون أن نملك الدليل الثابت أو الرواية المتواترة التي تعيننا في هذا الشأن كما أننا ننأى عن التجديف والحديث في عقائد الناس وما يتصل بها من توجيهات فكرية فتلك أمور مردها إلى الله وحده.. والخوض فيها سواء كان الغرض منه التسلية أو النكاية والتشهير أمور تنهي عنها مقاصد الشرع الحنيف، ولا تتواءم مطلقاً مع أخلاقيات العلم ومناهج البحث، وما أجدرنا بتذكر شيء واحد وهو أننا كما كتبنا عمن سبق فسوف يكتب عنا من لحق. فلنتق الله فيما نكتب وإذا كان هدفنا رضاءه وحده فهو الذي سوف يثيبنا على ذلك كله كما أن الناس سوف تحمد ما نقول وتلك شهادة التاريخ علينا وكفى بها من شهادة.
 
طباعة

تعليق

 القراءات :868  التعليقات :0
 

الصفحة الأولى الصفحة السابقة
صفحة 11 من 482
الصفحة التالية الصفحة الأخيرة

من اصدارات الاثنينية

الاستبيان


هل تؤيد إضافة التسجيلات الصوتية والمرئية إلى الموقع

 
تسجيلات كاملة
مقتطفات لتسجيلات مختارة
لا أؤيد
 
النتائج