شارع عبد المقصود خوجة
جدة - الروضة

00966-12-6982222 - تحويلة 250
00966-12-6984444 - فاكس
                  البحث   

مكتبة الاثنينية

 
((في القهوة))
وكانت سيارة البريد قد وصلت (المناخه) مع آذان الظهر... وكنت جائعاً فاشتريت قرصاً من الشريك وقطعة من الجبن الزقزق وتركت السيارة وفيها اللحاف والمخدة والسجادة... بل نسيتها كلها تماماً فإذا بالسائق يرفع صوته ينادي (الذي نسى فراشه) فأسرعت إليه وحملت على كتفي ما ناولني إياه، وفي فمي لقمة الشريك والجبنة.
وقبل أن اغادره قال: اسمع.. عندك فلوس وأنت باين عليك غريب.
وشكرته قائلاً... عندي ما يكفيني لمدة شهر، بس المشكلة في البيت ما أعرف فين أنام؟
وضحك وهو يقول:
:ـ شايف هاديك المراكيز اللي في البرحة الكبيرة. هادي قهوة تروح تنام فيها والأجرة ريال في الليلة والشاهي والطلبات كلها عليك.
وما كدت أسمع ما قال، وارى القهوة التي ذكرها حتى اسرعت أمشي إليها.
* * *
وقضيت تلك الليلة في هذه القهوة... وقد كانت ليلة اكتشفت أنها، ليست قهوة فقط، بل هي إلى جانب ذلك مجمع لسماع القصص الشعبية، يجلس لقراءتها رجل بصوت يسمعه الجميع، ولا تخلو القراءة من انفعال القاريء، بالانتصار الذي حققه البطل قيرفع يده، وقد يهوى بجُمعها على المنضدة الموضوعة أمامه وعليها بالطبع (براد الشاهي) الذي لا يكاد يفرغ حتى يجيئه صاحب القهوة ببراد آخر... ولم يكن غريباً أن ينفعل جمهور المستمعين معه فيتصايحون، اما انتصاراً للبطل، أو رفضاً لهذا الإنتصار لأن مشاعرهم محتدمة مع البطل الآخر، واستلزم ذلك أن أظل ساهراً إلى وقت يعتبر متأخراً من الليل في تلك الأيام.
* * *
عندما استيقظت في الصباح كنت عقدت العزم نهائياً على أن اكون ضيفاً على منزل صديقي محمد نيازي ولا مانع ابداً أن أدفع أي مبلغ يطلبه هو، أو والده العم اسماعيل لقاء السكن وربما المعيشة، واعني الأكل والشرب الخ..
وكنت اعرف الطريق إلى هذا البيت فحملت الفراش، وأخذت أتجه إلى حي (الساحة) بعد أن دفعت لصاحب القهوة ما طلبه وهو مبلغ زهيد جداً... وفي هذا الحي يوجد ما يسمى (زقاق) اسمه زقاق (سيدنا مالك) لأنه يبدأ بمبنى صغير هو ضريح سيدنا مالك... وكان الزقاق يتميز بعدد من البيوت، جديدة المظهر، ومتشابهة، عرفت فيما بعد أنها بيوت (مجاوري المدينة) من (القازان).
وباختصار، طرقت باب البيت الذي اقصده لأسمع صوتاً نسوياً يسأل (مين..).. ولم أدر بماذا أجيب غير أن قلت:
:ـ أنا ابغا محمد نيازي
:ـ أنت مين؟
:ـ أنا عزيز... صاحبه
:ـ هوَّه دحين ما هو فيه... تعال بعدين..
:ـ لكن أنا جي من مكة.. وما أعرف مكان أنزل فيه إلاّ بيتكم...
فقالت بعد صمت لحظات:
:ـ أصبر... أقول لأمي...
وغابت فترة.. سمعت صوتها يقول:
:ـ أنا أفتح لك الباب... تدخل وتطلع إلى المجلس وتقعد فيه الين يجيي بابا أو محمد أو ابراهيم لكن لا تنسى تصك الباب..
:ـ لكن مين اللي يفتح لي الباب دحين.
:ـ أنا أجر الحبل... ينفتح الباب.
وبالفعل أحسست بحركة جر الحبل، وانفتح الباب فدخلت الدهليز المعتم ولكني لم أجد صعوبة في الاهتداء إلى (الدرج) التي ارتفقتها لأنتهي إلى المجلس الذي تقرر فيما يبدو أن أكون نزيلاً فيه:
ولهذا المجلس روشان صغير يطل على الزقاق هو النافذة الوحيدة التي تستقبل الهواء. والقيت نظرة حولي لأرى أرففا فرحت ارى كل رف منها يحمل كتباً ضخمة ولكنها كانت قديمة التجليد...
ألقيت الفراش جانباً وارتفقت المقعد الطويل الذي يسمونه (كرويت) على امتداد الغرفة الصغيرة... ولم أتردد في أن اتناول واحداً من المجلدات الضخمة، واذْ فتحت غلافه وجدت أن اسمه (تفسير البيضاوي)... ولم يسبق لي قط أن سمعت بهذا التفسير أو بغيره من مؤلفات تفسير القرآن الكريم... ولم أجد ـ مع ذلك ـ ما يمنع أن أقرأ أو أن أشغل وقتي بقراءة هذا التفسير... ولا أدري حتى اليوم كم من طلاب العلم قرأه، وهو في عدد من المجلدات... وشرعت اقرأ، لأجد نفسي منسجماً وراغباً في الاستمرار، وعيني في نفس الوقت على تلك المجلدات التي أيقنت أن فيها الكثير مما لا يستغني عنه كل طالب علم.
وسمعت طرقا على باب الغرفة، ثم سمعت صوتها تقول:
:ـ ماما تسأل عن الوالدة.. كيف حالها... هل هي في مكة؟
:ـ هي بخير والحمد لله وفي مكة.
:ـ ماما تقول تحب تشوفك... تقدر تطلع تسلم عليها.
وكانت هذه الدعوة مفاجأة بالنسبة لي... وبطبيعة الحال رحبت بها.. ونهضت من مقعدي، وأنا أسمعها تقول:
:ـ هيّا اتفضل تطلع لها في المجلس الكبير..
ورأيت عندئذ الفتاة التي أتاحت لي أن أراها ترتفق ما يستر شعرها ويدور حول وجهها وهو ما يسمى (شرشف) أو الطرحة بلهجة اخواننا المصريين.. وأخذنا نصعد السلم الطويل.. لنصل إلى المجلس الكبير حيث رأيت السيدة الوالدة جالسة في الصدر... مشيت بخطوات مترددة إلى أن اقتربت منها فانحنيت وقبلت يدها... أشارت بيدها إلى مقعد صغير.. جلست عليه.. لأسمعها تتكلم ولكن بلكنة تركية أو (كازانية)... سألتني عن والدتي... وعن زوجها ـ تقصد الدكتور ـ وكم عدد أولادها من زوجها فأجبتها... ثم استأذنتها لأعود إلى المجلس الصغير.. فقالت ما فهمت أنها تنتظر ابراهيم ـ وهو ابنها الكبير ـ، ونيازي، لتناول معا وجبة الغداء.
ولا أخفي أني قد فرحت بهذه الدعوة، لأني كنت منذ دخلت المجلس الصغير، ومع تفسير البيضاوي اخطط للخروج إلى مطاعم (الكباب) التي أعرف مواقعها في المناخة وباب المصري لتناول وجبة الغذاء.
وبعودتي ـ بعد استئذانها ـ إلى ذلك المجلس الصغير وقبل أن استغرق في قراءة البيضاوي سمعت حركة وصوت الآنسة وهي تقول:
:ـ عندنا ضيف... في المجلس الصغير... بينتظرك.
:ـ مين هادا الضيف اللي؟...
وبنبرة لا تخلو من توتر:
:ـ اللي تدخّلوه وما عندكم رجّال؟
قالت وفي صوتها ما ينم عن الابتسام:
:ـ هادا صاحبك عزيز... اللي كنت تجيب أخبار نجاحه.
وبدهشة تداخلها هزّة الفرح قال:
:ـ متى جا؟
:ـ اليوم قبل ساعة..
ووجدت نفسي أترك مقعدي، وأمشي خطوات إلى الباب لأرفع صوتي قائلا:
:ـ ايوه يا أخي.. أنا عزيز وقاعد انتظرك.
وتقابلنا، وكل منا يكتنز شحنة من الشوق إلى هذا اللقاء الذي أراد الله أن يتم بصدور الأمر بتعييني (كاتب ضبط) في شرطة المدينة.
وفي المجلس الصغير ومجلّد تفسير البيضاوي إلى جانبي أخذنا نتبادل الأحاديث وأخبار الأصدقاء الذين قال انه كان يقرأ لهم كل رسالة تصله مني ـ وهي كما قد يذكر القارىء ـ تلك التي شاع فيها تأثير جبران خليل جبران بعد قراءة كتابه: (العواصف والعواطف) قبل حادث (ضرب) الدكتور والهرب نهائيا من مدرسة الصحة ـ وأعني مدرسة التمريض ـ بالطبع.
وكما حدثته عن وظيفتي في شرطة المدينة حدثني هو عن وظيفته في (دائرة الأوقاف) وابتسمت سعيدا وهو يقول: إن المدير هو السيد حسين طه مدير المدرسة الراقية الهاشمية أيام حكم الأشراف. فقلت من جانبي ان مديري هو (الشيخ يوسف بصراوي).
فسرعان ما علق قائلا وهو يبتسم:
:ـ يا بختك... انت عارف انو والد أنور وفريد...
ولابد للقارىء أن يعلم أن (أنور) كان رحمه الله وسيما تلاحقه نظرات الشباب بالإعجاب واللهفة الحبيسة في الصدور إذا ما رأوه يمشي إلى جانب أبيه أو ذاهبا إلى السوق لشراء حاجة المنزل من الخضار واللحم كما كانت عادة منازل المدينة في الإعتماد على الأبناء للقيام بهذه الأعمال.
ومع قوله (يا بختك) وابتسامته العريضة أدركت أنه لا يختلف عن الآخرين المعجبين بجمال أنور، أو بعبارة أخرى الذين بلغ بهم الإعجاب حد (الحب والعشق).
وقد كان هذا هو واقع الحياة والناس في مرحلة الضمور والانغلاق تلك التي عاشوها قبل هذا الانطلاق والانفتاح على ما أسفرت عنه حركة التطور والانتعاش التي أصبحوا ينعمون بها في هذه الأيام.
ولا يفوتني أن أصف مائدة الغذاء التي رأيت نموذجها لأول مرة في منزل الصديق محمد نيازي... فقد كان جلوسنا حول (طاولة) مرتفعة عن الأرض قليلا تجلس على الصدر منها أم نيازي بكل ما تتميز به من وقار وهيبة، ونجلس نحن في أماكن تعيّنها بإشارة من إصبعها... ولا يمد الواحد منا يده قبل أن تبدأ هي بمد يدها، بل لا يرتفع لنا صوت ما لم تأخذ هي في الحديث بتلك اللكنة التركية (الكازانية).
وقد لاحظت أن ألوان الأكل محدودة لا تزيد عن لونين أحدهما الرئيسي وهو حساء فيه قطع من (معجّن) وقليل من اللحم والآخر طبق من الرز (البخاري)... وأمام كل منا طبقه الذي يقدمه لتغرف فيه ما يكفيه.. إضافة إلى الملعقة والشوكة والسكين... يستعملها على الطريقة الأفرنجية التي كانت مألوفة عندي، ولكنها لم تكن مما اعتاده الناس...
كانت مائدة نموذجية بالنسبة للمألوف من هذه الموائد لدى عامة الناس.
واكتشفت أن لهذه المائدة اسما هو (دَسْترخان) وان اسم السيدة هو (نفيسة أبا) والباء افرنجية اللفظ، وهو لقب تستحقه السيدة الكبيرة، كالجدَّة، أو حتى أم الأبناء والبنات الكبار الذين تجاوزوا مراحل الطفولة واليفع.
وفرغنا من تناول الغذاء، ثم انتظرنا أن نغادر المائدة، والتقليد الذي يبدو أنه متبع هو انتظار ما يشبه الاذن منها يصدر بإشارة من اصبعها... وقد كان فنهضنا، وأخذني محمد نيازي في يده إلى المجلس الصغير في الدور الأول من هذا البيت، حيث عدنا لتبادل الأحاديث عن المدينة في هذه الأيام، وعن عمله مع السيد حسين طه، وقد حرص على أن يشكر الظروف التي أتاحت له هذه الوظيفة مع (الأستاذ) الذي كان محبوبا من جميع الطلاب في المدرسة الراقية الهاشمية، وبالمناسبة قال نيازي ان المدرسة ماتزال في موقعها بالقرب من باب المجيدي، ولكن الذي تغيّر هو اللافتة بأعلى الباب والأساتذة أو المدرّسين، إذ هناك مصريون وسوريون سمع نيازي أنهم متميزون والتلاميذ الذين انتقلوا إليها من الهاشمية، يمدحونهم كثيرا.
* * *
في صبيحة اليوم التالي بعد سهرة طويلة مع مجلد تفسير البيضاوي، تهيأت للبدء في العمل مع الشيخ يوسف بصراوي في شرطة المدينة... ولم تكن مشكلة أن أجد الطريق إلى مبنى المديرية، إذ كنت أعلم أن اسمه (الخالدية) في منعطف من ساحة المناخة...وعندما أخذت أصعد السلالم القليلة في المدخل، وقف أمامي جندي من الشرطة ببزته العسكرية.. يسألني:ـ
:ـ هل تريد مراجعة خليل بك... لا تتعب نفسك فقد خرج منذ ساعة.
:ـ كلا أريد رؤية الشيخ يوسف بصراوي، مدير القسم العدلي.
:ـ أدخل... وغرفته إلى الشمال. على بابها لافتة (القسم العدلي).
ورأيت الشيخ يوسف بصراوي، جالساً خلف مكتبه العريض يتحدث أو يحقق مع شخص كان يرفع صوته ليؤكد أنه (قد دفع المبلغ الذي... الخ..)
والتفت الشيخ يوسف بعد أن ازاح النظارة التي يستعين بها على القراءة... ليراني داخلا الغرفة رافعاً يدي بتحية عسكرية... فأبتسم ابتسامة عريضة وهو يقول:
:ـ أنت عزيز... متى وصلت؟
:ـ منذ يوم الأربعاء...
فضحك ضحكة خفيفة وهو يقول:
:ـ لازم نزلت عند أحد من الأقارب
:ـ فعلاً... ولكن بعد أن قضيت ليلة في القهوة.
:ـ في القهوة؟!
:ـ لأني لم أكن قد قررت النزول عند أحد من الأقارب.
وضحك وهو يقول للرجل الذي ظل ينتظر:
:ـ طيب... روح اليوم.. وتعال بكرة
ثم يقول لي:
:ـ هيا اتفضل اجلس ورا هادا المكتب واشار بيده إلى مكتب خلفه كرسي خيزران فأسرعت وجلست... وقد لفت نظري أن سطح المكتب نظيف وممسوح بعناية.
وأستأنف حواره معي ليقول:
:ـ سيارة البريد التي جئت بها... هل كانت طيبة؟ مريحة؟
:ـ لولا (المطبات).. وبالأخص عندما أقتربنا من المدينة
:ـ ولكن (السوّاق)... هل كان جيداً؟
:ـ أظن أنه جيد فهو كبير في السن ومؤدب.. وقد سمعت منه أنه هندي ويعرف عمله منذ كان في الهند.
:ـ أنا يمكن أسافر مكة بعد أسبوع... يعني إن شاء الله ما أتعب.
:ـ تسافر مكة بعد أسبوع؟... عسى خير..
:ـ مهدي بيك ـ أنت عارف إنو زوج بنتي طلب إني أروح مكة عشان أشوفها وأقعد معاها كم يوم...
:ـ لكن مين اللي يمسك القسم لما تسافروا..
وضحك ضحكته الخفيفة وهو يقول:
:ـ البركة فيك... مهدي بيك قال انك يمكن تمسك القسم لما أسافر ثم بعد أن توقف عن الكلام لحظات قال:
:ـ الحقيقة.. مهدي مدحك كثير... قال إنو يمكن الإعتماد عليك... وما يحتاج أنى أوكّل أحد من الضباط اللي مع الأسف ما يعرفوا البلد... ولا يعرفوا الناس.. وضحك وهو يقول:
:ـ وكمان ما يعرفوا اللغة العربية... شوام متعلمين في المدارس التركية..
:ـ لكن خليل بك مدير الشرطة يمكن.. ما يوافق.
:ـ خليل بك عراقي ـ ومهدي عراقي... يعني ما يمكن يعترض على أي أمر من مهدي... وهوّه عارف انك جي عشان تمسك العمل معي.
:ـ أنا ما أعرفه ولا يعرفني... أظن يمكن تعّرفوه إني رايح أمسك القسم لما تسافروا.
:ـ بكرة إن شاء الله، اقدّمك له... وعلى فكرة... هوّه ما عنده غير انّو يحوّل المشاكل اللّي ترسلها (الأمارة)... إلى القسم العدلي.. يعني يمكن تتعب معاه شوية.. لكن أنا رايح أفهمّه... لا تشيل هم.
:ـ ابداً.. أنا اللي يهمني هوّه اني اشتغل وأأدي الواجب على أحسن ما يكون.
:ـ أنا عارف..
ثم فتح أحد الأدراج في مكتبه، ليخرج منها رزمة من الأوراق... ألقى عليها نظرة متعجلة. ثم مدّ يده بها وهو يقول:
:ـ هادي معاملات... تتصرف فيها بمعرفتك... تكتب المذكرات إذا كانت تحتاج إلى الكتابة... الحاصل ربنا يكون في عونك..
وتناولت الأوراق... ثم وضعتها في أحد ادراج مكتبي الصغير... وأنا أحمد الله على هذه الثقة.. ثم قلت:
:ـ إذا وجدت في المعاملات ما يستلزم إحضار شخص أو أشخاص... ما هي الجهة التي أطلب منها إحضارهم.
:ـ يوجد موظف مختص بعمليات الاحضار هو السيد ياسين... ترسل إليه ورقة الطلب... وهو يقوم بهذه المهمة... وعند حضور المطلوب يرسله إليك... أو يجيء به معه. والعسكر الموجودين عند باب القسم تحت أمرك. سأعطيك أسماءهم بكرة ان شاء الله... والآن عن إذنك... أنا لأزم أروح البيت دحِّين.. عشان أبشرِّ أم أنورٍ... انو يمكن اسافر مكة بسيارة البريد في هادا الأسبوع... وهيّه بتفكر في بنتها وتبغا أني أكون عندها اليوم قبل بكرة...
وارتفق العباءة والعقال الأسود على الغترة البيضاء.. وأخذ طريقه للخروج... نهضت عن المكتب وأنا أقول:
:ـ في أمان الله... أشوفكم بكرة إن شاء الله.
:ـ إن شاء الله.. في أمان الله..
وخرج الشيخ يوسف لأجلس وأبدأ الاطلاع على المعاملات التي تركها لي... وفي نفسي شعور بالزهو والفخر والثقة بأني قد بدأت منذ اليوم اعيش حياة رجل أتاح الله له أن يضطلع بمسؤوليات موظف كبير... هو رئيس القسم العدلي... وهنا رجعت بي الذاكرة إلى مشاعري يوم صدر الأمر السامي بتعييني كاتب ضبط. بزيادة ريالين في الراتب، وهو مبلغ زهيد، بالطبع... ولكن ما أغدقه الله عليّ اليوم من نعمة الأضطلاع بمسؤوليات موظف كبير ـ هو رئيس القسم العدلي الذي يأتي ترتيبه بعد مدير الشرطة مباشرة، هذه النعمة كانت هي العوض الذي يجعلني أتناسى أو أتجاهل وقع الزيادة الضئيلة في الراتب فلا أقيم لها وزناً أو حساباً، بقدر ما أنظر إلى المستقبل البعيد الذي بدا لي حافلاً وعَّاداً بالكثير من التقدم والرقي في مجال العمل الرسمي وهو مجال لا حدود له ما دمت أحرص على أن أعمل بما ينبغي من الجد والإخلاص والإجتهاد.
* * *
وما هي إلا بضعة أيام سافر بعدها (العم يوسف كما أصبحت أسميه، وهو ماكنت أسمعه من الآخرين حين يراجعونه).. وأخذت أباشر مسؤولياته على ضوء المعاملات التي تركها لي، وقد ملأني زهواً أن الجنديين على باب (القسم العدلي) وكذلك الجنود على باب (الخالدية) يؤدون لي التحية العسكرية التي يؤدونها للرتب الكبيرة... ولا أخفي أن هذا الزهو قد أخذ يستقر في نفسي ويحكم سلوكي وتصرفاتي ربما حتى اليوم...
أما عن السكن وضرورات المعيشة من مأكل وغسيل الملابس، فقد احسست بعد مدة لم تطل أني أصبحت ثقيلاً على أسرة محمد نيازي، وأن عليّ أن ألتمس لنفسي سكناً مستقلاً ونجحت بعد بضعة أيام في العثور على سكن في عمارة شاهقة خالية من السكان من وقف آل المدني، تقع في زقاق من أزقة منطقة (جوّه المدينة)...وكان السيد أمين مدني رحمه الله، هو الذي ارشدني اليها،... وتمم اجراءات استئجارها لقاء مبلغ زهيد جداً...
اخترت غرفة واسعة في الطابق الثالث مع مرافقها.
.. ومن سوق الحراج اشتريت فراش النوم، وسجادة أو مفرشة كبيرة غطّت معظم أرض الغرفة إلى جانب لوازم غسل اليد، والاستحمام الخ..
كان الصعود إلى هذا الطابق الثالث بعد الغروب مشكلة مستعصية لا سبيل إلى حلّها الاّ الشموع أرتفقها في جيبي لأني استكثرت أن أضيئ السلالم بفوانيس في كل طابق.
واكتشفت بمرور بضعة ايام، أن من مزايا هذا السكن أني استطيع أن اتفرغ لقراءة الكتب اشتريها من (الكتبيَّة) وهم: (اصحاب محلات بيع الكتب) في باب السلام.. وقد استفدت كثيراً من هذه الكتب التي يصعب أن أتذكرها الآن، والتي كنت اقرؤها بنهم واستمتاع كبيرين، ولعلي لا أخطىء إذا قلت أن جانباً كبيراً من ثقافتي قد تكون من قراءة هذه الكتب في تلك الأيام.
والمضحك في هذا السكن في الطابق الثالث من العمارة الشاهقة، أن الظلام في السلالم مع صفير الرياح في الغرف الواسعة الخالية كان يخيف من يفكر في زيارتي والسمر معي بعض الوقت من الليل.. ولذلك كنت أنا الذي أقوم بزيارة الأصدقاء.
وما زلت أذكر حتى اليوم مجلس العم يوسف الذي تجتمع فيه كوكبة من اكابر أهل المدينة بعد الغروب، إلى ما بعد صلاة العشاء... يتداولون الأحاديث، عن مختلف الشؤون، ويعلقون على ما يتسامعون به من الأخبار، وبطبيعة الواقع في تلك الايام، كانت الأخبار تأتي من الذين يعودون من رحلاتهم إلى مكة وجدة... ولا سبيل إلى أي مصدر آخر. إذ لم يكن قد ظهر أو عرف (الراديو)، كما ظهر وعرف وانتشر بعد سنوات..
وقد يستطيب القارىء أن ألمح بعض ما كان شائعاً بل ومفروضاً مما أسميه مجاملات المجالس. ومما لابد أن يقال لمن يعود إلى المجلس بعد قضاء الحاجة. لا يكاد يستقر في مجلسه حتى ترتفع الأيدي إلى الجباه مع انحناءة الرؤوس وتتردد كلمة (شوفيتم)، يقابلها من جانبه بكلمة (عوفيتم)...
ومنها أن يأخذ كل ضيف مجلسه حسب سنه، فالشيوخ لهم صدر المجلس ولا يجلس إلى جانبهم إلاّ من يكون في مثل سنهّم حتى ولو لم يكن في هذا الصدر إلا شيخ واحد.
فإذا بدأ الشيخ الحديث... كان على جميع الموجودين أن ينصتوا إليه فإذا حدث أن بدأ لأحدهم أن يقاطعه بكلمة فإن العيون تحملق والحواجب تقطب.. فيضطر إلى التزام الصمت... إلى أن يطلب منه الشيخ أن يسمع منه ما يريد أن يعلق به.
ومنها أن الذي يرتفق على رأسه العمامة (المدنية). يلتزم بعدم خلعها إلى أن تنتهي السهرة...
ومنها أن يلتزم الأبناء في سن المراهقة مجلسهم بالقرب من باب الغرفة، مع الحرص على الصمت المطلق، وانتظار طلب (الكبار) كوباً من الماء، أو التنبيه بأن يجيىء (الشاهي) معطراً بالدوش أو النعناع أو النوامي واحياناً (بالورد).
ثم هناك من الشيوخ ـ غالباً من يعرض مجاملة (النشوق) في العلبة من الفضة ـ تعرض على الجار فإذا أخذ منها جاجته يقدمها إلى من يليه، ثم تعاد إلى صاحبها مع تعليقات الإعجاب، ليس بالعلبة الفضة، وإنما بمادة النشوق.. ومع الإعجاب الإستعلام عن مصدرها.... ولا أتذكر الآن هذا المصدر ولكنه، في الغالب (مستورد) من المغرب أو ايران وربما من (اوروبا) اذ كانت عادة إستعمال هذا النشوق منتشرة في الكثير من بلدان العالم. وقد لا تنسى ان تابليون كان يسرق علب النشوق التي يقدمها إليه ضيوفه للإستنشاق منها وتبقى بعد ذلك (الشيشه) التي لم تكن تظهر كثيراً في مجالس السهرة وإنما في مآدب الغداء أو العشاء الموسَّعة وكانت مادة التدخين فيها هي (الحُمِّي) وهو (التمباك) المستورد ـ إذا لم تخنّي الذاكرة ـ من ايران ثم مادة اخرى لم أعد اسمع عن وجودها منذ زمن بعيد هي ما يسمى (الكيزرون).
ومن الطريف أن نذكر ان كثيرات من نساء تلك الأيام كنّ يدخنَّ الشيشة أيضاً إما سراً إذا كان الزوج يمنع، واما علنا إذا كان الزوج نفسه من الذين يدخنونها.
هذا إلى جانب التباهي بجمال الشيشة التي قد تكون مطعمة ومزخرفة بصفائح الفضة، ويكون (الرأس الذي يستوعب الحمى والجمر) مما يستورد من الهند وهو يشبه رؤوس شيشة (الجراك) في هذه الايام... أما (اللَّي) ـ ولا أعرف له إسماً آخر فهو مستورد مع الشيشة من الهند، والفن في كسوته بمطرَّزات ذات ألوان من القطيفة أو غيرها، ومنتهى التباهي في الموقع الذي توضع فيه... انه في أحد ركني الصدر من المجلس، وبطبيعة الحال، لا تكلف سيدة البيت نفسها (بتعمير الرأس) ورصف الجمر، أن الجواري أو من في حكمهن من الخادمات هن اللائي يقمن بخدمة الشيشة بل عدد من الشيش للضيفات في سهرات (ليلة الجمعة) أو (قيلات) الأيام الأخرى.
* * *
ولقد استغرقني الحديث عن أعراف أكابر أهل المدينة وعاداتهم عن متابعة تصرفاتي وسلوكياتي في عملي كوكيل لرئيس القسم العدلي. لا أنكر أني كنت سعيداً بهذا العمل (الرسمي) فأخذت على عاتقي إنجاز ما وجدت أنه محتاج إلى الإنجاز في المعاملات التي تركها لي العم يوسف وقد انجزت معظمها مما جعل (السيد ياسين جعفر) يخبرني أنه سمع أن المدير (خليل بك) قد أثنى عليّ مع إعجابه بفهمي للعمل رغم (صغرسني).
ومع ذلك، فقد أحسست بخطورة ما يترتب على إنجاز بعض المعاملات ـ وقد كان اكثرها ديوناً ومطالب بين الناس، ـ وهي تحال من مدير الشرطة إلى القسم العدلي (للتحقيق) إذ لم يكن قد صدر بها حكم المحكمة الشرعية..
وقد حدث أن دخل العم يوسف المكتب وهو مصفر الوجه، ولعله كان يرتعش... وقبل أن أسأله عما يعانيه، انفجر قائلا:
حرام... حرام... والله حرام.. تصوَّر أني رأيت العبيد أمام باب الامارة ينهالون بالضرب الموجع بجريد النخيل على المسكين (وذكر اسمه)... وكل ذنبه أنه لم يدفع الدين الذي صدر به حكم المحكمة لشخص أعلم أنه من أكابر التجار ومن جلساء الأمير كل ليلة... تصور أن (الضرب) ظل متواصلا منذ خروجي من المنزل إلى أن اقتربت من الخالدية... لا أستبعد أن الرجل قد مات أو يمكن أن يموت.
وبعد أن كرر العم يوسف (الحوقلة) والتوجع لمصير الضحية، أضاف يقول:
:ـ لا أنسى حادث الجمّال الذي أمر الأمير بقطع أصبعه، عندما أخبره أنه رأى وهو يدخل المدينة كيسا للأرز مطروحا على الارض. فسأله: كيف عرف أنه كيس للأرز، قال الجمال أنه (أدخل اصبعه)... لَمَسه باصبعه... فما كان من الأمير إلا أن أمر على الفور بقطع اصبعه.
واستعاد العم يوسف هدوءه بعض الشيء وهو يقول:
:ـ لابد أن نحاول الابتعاد عن التضييق على الذي نحقق معه، لنتجنب وقوعه في يد الأمير.
* * *
ومع أني التزمت الصمت، وشاركت بالحوقلة والتحسر، فقد وجدت نفسي في ذهابي إلى البيت أصمّم على محاولة إعادتي إلى مكة، وفي أي عمل حتى ولو كان براتب أقل. ولم أنس شراء وجبة الغداء من الكباب و (الرز البخاري) الذي كان مشهورا بإتقانه رجل (بخاري) في العطفة التي تنتهي من المناخة إلى (الحراج)... وقبل أن أدخل زقاق العمارة الشاهقة رأيت الصديق الذي أذكر أن صداقتنا قد بدأت معه، ومع من عرفتهم عن طريقه. فأصبحت أنقطع عن زيارة العم يوسف في منزله. لأجتمع بهم، إذ أستمتع بجانب من حرية الحوار معهم. حول كثير من المواضيع التي لاحظت أنهم يعالجونها أو يخوضون فيها وكأنهم في ندوة فكرية تتجدد آفاقها كلما اجتمعنا.
كان حامد هذا رحمه الله على حظ من الثقافة إذ قرأ الكثير من الكتب التي ترجمت إلى اللغة العربية وعلى الأخص أكابر الأدب الروسي، فكان يذكر ما قرأ لهذا، أو ذلك منهم حريصا على (نطق) الاسم كما كتبه المترجم على الغلاف... فإذا اجتمعت الندوة الفكرية كان يطرح أسئلته حول ما استغلق عليه فيما قرأ.
وقد يحسن أن أذكر الآن ان مكان هذه الندوة كان (متجر) العم شاهين حدَّادي... كنا نقضي معه وقتا يملؤه هو بأفكاره الجريئة وآرائه الفلسفية التي كنا نشعر أنها أفكاره وآراؤه هو وليست مما يقرأ للفلاسفة وأساطين الفكر... ومن المضحك أن أذكر أن العم شاهين كان مشهورا في المدينة بالحرص أو (البخل) الشديد، ولم نكن نجهل ذلك، فلا يدهشنا أنه يأمر أحد مملوكيه بأن يجهز (الشاهي) لنكتشف أنه يضع بدل (الشاهي) كمية من الورد المجفف الذي نراه يملأ أطباق العرض. فإذا رأى بيننا من يستغرب... يبدأ الشرح المطوَّل عن أضرار الشاهي الذي يسبب السهر الطويل. وعسر الهضم، وتغيير لون الأسنان، وإذا سقطت قطرة منه على الثوب الأبيض فإن إزالة أثره نحتاج إلى (الدعك) الطويل بالصابون.
أما هذا الورد المجفف، فإنه، أولا زكي الرائحة، ثم لا تأثير له على النوم والمعدة... بالعكس.. إنه يحلل حالة الإمساك التي يشكو منها أكثر الناس إلخ...
أما السكر الذي لابد منه لكوب (الورد) هذا فإن العم شاهين يستعمل نوعا من السكر بني اللون لعله قال ان اسمه (سكر قند) وهو أرخص كثيرا من السكر المعروف ويذكر له فوائد أكثر من أي سكر آخر.
وشخصية العم شاهين شخصية بالغة الطرافة تستحق أن أكتب عنها قصة... وقد أفرغ لذلك في وقت آخر.
* * *
صعد معي حامد توفيق إلى المجلس وشاركني تناول الغذاء. وأخذ يقلّب المجلات والكتب الموجودة في أحد رفوف الغرفة. ولفت نظره أن بينها كتابا في الفقه والسيرة والتفسير والنحو والصرف، فتساءل كيف يتفق أن أقرأ هذه الكتب الصفراء وفكرته عني أني مثقف عصري.. ودار بيننا حوار حول هذا الموضوع لم يطُل إذ نهض وهو يذكِّرني بموعد الندوة في متجر العم شاهين بعد صلاة العشاء وأن هناك شخصا سوف أتعرف عليه، ربما يسرني أن ينضم إلى أعضاء الندوة.
لم أستطع أن أتخلص من تصميمي الحاسم على محاولة الانتقال إلى عمل في مكة... كانت تدور في نفسي مشاعر الحزن على ضرب ذلك الرجل وقطع اصبع الآخر، يخالجها إحساس بالرهبة والخوف من أي احتمال للإصطدام بهذا الأمير، وهو احتمال يظل قائما ما دمت مساعدا لرئيس القسم العدلي..
صارحت العم يوسف بما اعتزمته ولم أتردد في أن أصارحه بأن السبب هو جبروت هذا الأمير وقسوته... كان ما صارحت به العم يوسف مفاجأة واجهها بمحاولة تبرير مخاوفي، إذ ليست للقسم العدلي أي علاقة بالأمير... علاقته المباشرة بالمدير..
قلت له:
:ـ إن القسم العدلي هو الذي يقوم بالتحقيق حتى في دعاوي الديون، وهو الذي يقرر أن هذا الشخص مكلف بدفع المبلغ المطالب به... والنتيجة تصل إلى الأمير، وعلى ضوئها يصدر الأمير امره بالتنفيذ... ولكن يقوم هو شخصيا بهذا التنفيذ بطريقته إذا ماطل المدين في الدفع.. والدليل، هو ما جعلك تجيء إلى المكتب مصفر الوجه، تردد كلمة (حرام... والله حرام..) و (لا حول ولا قوة إلا بالله).
واستوقفني العم يوسف ليقول:
:ـ لك حق... أنا معك... ولكن أنا لا أستغني عنك... لقد خففت من ضغط العمل الذي كنت أعاني منه... وطبعا لا تنسى ان مهدي بك هو الذي أمر بتعيينك لمساعدتي، ولا أظنه سيوافق على نقلك إلى مكة.
:ـ أعلم كل ذلك. ولكن سألتمس كل وسيلة تساعد على نقلي إلى مكة.
ثم أضفت باختصار:
:ـ إذا لم يوافق مهدي بيك، فإني أستقيل.
قال مندهشا:
:ـ تستقيل؟... ومن الذي يقبل استقالتك؟!
لا تنس أن تعيينك كان بموافقة وأمر نائب الملك... الأمير فيصل.
قلت:ـ على كل حال سأحاول والتوفيق بيد الله.
بعد هذا الحوار وجدت نفسي أزداد تصميما وتشبثا بتحقيق رغبتي في النقل مهما كان الأمر.
وعندما غادرت المكتب إلى المنزل كنت أخطط للكتابة إلى رئيس القلم في مكة (السيد محسن حواري)... رجحت أنه يستطيع أن يفعل شيئا... أن يقنع مهدي بيك بأن (القلم) يحتاجني، لأني أعرف الكتابة على الآلة الكاتبة.
وكما هي العادة كل يوم، اشتريت غذائي المعتاد، وهو الكباب، والرز البخاري.. مستغنيا عن الخضار، كالملوخية مثلا، لأنها تحتاج إلى وعاء خاص لا أملكه من جهة، ويضايقني حمله من جهة أخرى..
وفي طريقي إلى المنزل لم أجد حامد توفيق الذي عوّدني أن يكون معي ساعة تناول طعام الغذاء، وأن نقضي بعد ذلك وقتا في تبادل الحديث. والتعليق على طرائف العم شاهين ردّادي... شعرت بارتياح لذلك... وفي الغرفة الواسعة، وعلى بعض رفوفها مجموعة الكتب تساءلت: ترى متى تنتهي علاقتي بالغرفة. والكتب. وكل شيء... وجلست أتناول غذائي وفي ذهني الطريق إلى مكة في سيارةالبريد.. وعن ارتفاق هذه السيارة وجدت أني أحتاج إلى مبلغ من المال... لم تكن أجرة الرحلة بسيطة إذا لم أكن موظفا وكان لابد أن أدفع هذه الأجرة من جيبي...
أسرعت إلى حقيبتي التي أخبىء فيها كل ما يتوفر لدي من المال... وجدت أني أملك أكثر من خمسة عشر جنيها انجليزيا (ذهبا)... وفي هذه اللحظة تذكرت أمي وعمي اللذين كانا ينفحاني بشيء من المال بين وقت وآخر لمساعدتي على تحمل نفقات حياتي عندما يتأخر صرف الرواتب شهرين أو ثلاثة كما كان الحال في تلك الأيام..
ولم أنس حقيقة هامة جدا لابد من أخذها في الاعتبار إذا قررت السفر دون أن أكون موظفا وهي أن أي مخلوق يسافر من المدينة في سيارة البريد لابد أن يحصل على تصريح من الأمير.. وما لم يحصل على هذا التصريح فإن شرطة باب المدينة تستوقفه وتخبر عنه الأمير..
هنا أحسست بأن كل ما أخطط له عن السفر أصبح في خبر كان... امتلأ قلبي بالغيظ والحقد والألم... ولا أدري كيف استغرقت في نوم عميق لم أستيقظ منه إلا مع ارتفاع الأذان لصلاة المغرب..
أسرعت أتوضأ، وانطلقت في شارع جوَّه المدينة إلى الحرم الشريف... حيث أدركت الصلاة ثم تناولت مصفحا وأخذت أقرأ.. وأردد (يا رب)..
وفي طريق عودتي إلى المنزل بعد الصلاة رأيت أمامي أحد الجنود من حرس القسم العدلي... وقف واستوقفني. وهو يقول:
:ـ المدير خليل بك أمرني أن أقابلك حالا لأنه استلم (تلغرافا) من مهدي بيك بخصوصك.
ردّدت وأنا أمشي معه (يا رب)... وما كدت أقف أمام خليل بك حتى سمعته يقول:
:ـ مهدي بيك أمر بأن تسافر إلى مكة بأسرع وقت. هل انت جاهز؟!
صعقت وأنا أسمع هذا الخبر لأقول:
:ـ جاهز يا بيه.
:ـ سيارة البريد يوم الأربعاء.
:ـ وأنا جاهز الآن.
ضحك الرجل وهو يقول:
:ـ واضح انك سعيد بالنقل إلى مكة.
:ـ فعلا... سعيد جدا... وألف شكر.
* * *
وانتقلت إلى مكة لأفاجأ بأن مهدي بك استصدر أمرا بأن أنتقل إلى السلك العسكري برتبة (مفوض ثالث)...
وقال وأنا أقف أمامه:ـ
:ـ لابد أن ترتدي (البدلة) وسوف تستلم من يوسف جمال (القايش) والمسدس وسيقوم بتدريبك على الحركات العسكرية.
وأضاف:ـ
:ـ لا توجد في المستودع بدلات... لابد أن تدبر لنفسك بدلة... إذا لم تجد في السوق قماش (كاكي)... يمكن أن تفصل بدلة من أي قماش آخر.
المهم أن تكون مستعد قبل يوم السبت.
وهكذا بدأت مسيرة مستقبلي الطويل في الشرطة... وهو مستقبل يطول الحديث عنه كما تطول تفاصيل الكثير من الأحداث التي واجهتها وعانيت مشاكلها في هذه المسيرة التي أحمد الله سبحانه على أنه قد أعانني على أن أخرج من انفاقها قادرا على أن أكتب هذه الفصول.
 
طباعة

تعليق

 القراءات :1268  التعليقات :0
 

الصفحة الأولى الصفحة السابقة
صفحة 86 من 86

من اصدارات الاثنينية

وحي الصحراء

[صفحة من الأدب العصري في الحجاز: 1983]

الاستبيان


هل تؤيد إضافة التسجيلات الصوتية والمرئية إلى الموقع

 
تسجيلات كاملة
مقتطفات لتسجيلات مختارة
لا أؤيد
 
النتائج