شارع عبد المقصود خوجة
جدة - الروضة

00966-12-6982222 - تحويلة 250
00966-12-6984444 - فاكس
                  البحث   

مكتبة الاثنينية

 
الفصل الثالث عشر
وهكذا تبخرت الأحلام التي ظلت تتصاعد في أذهاننا منذ سمعنا عن المدرسة في المدينة إلى هذه اللحظة التي كشف لنا فيها المدير العام أن التمريض مهنة شريفة وأن المجتهد سوف تكون له وظيفة (ممرض ممتاز).. فهي مدرسة تمريض.. لا أكثر.. لا أكثر إطلاقا..
وعند خروجنا من مكتب هذا الرجل، أحسست بأني أختنق وأكاد أجهش باكياً، أدركت لأول مرة أن الأمل العريض الذي توهمت أني سأحققه في المدرسة التي توهمنا أنها مدرسة الطب، قد تهشَّم وتناثر، وضاع... وأن كل ما سوف أصل إليه هو أن أصبح ممرضاً.. ولم أكن أجهل معنى كلمة (ممرض) إذ رأيت في مستشفى المدينة رجالاً يقومون بخدمات لا تختلف عن أعمال الخدم... وكل ما يتميزون به هو أنهم يضعون على رؤوسهم طواقي بيضاء، بل رأيت أحدهم ذات مرة وهو يحمل (قصرية فضلات تفوح منها رائحة).
ومع تيسير أفندي مشينا إلى مبنى آخر عند المدخل حيث وقفنا ومعنا أبناء مكة.. أمام الدكتور خيري بك وهو كما قال المدير العام.. مدير المدرسة.. كان رجلا قصير القامة بشكل ملحوظ أشيب الشعر خفيض الصوت عندما يتكلم... وقد نهض عن مكنة أو جهاز كان ينقر عليه بإصبعه لم يسبق أن رأيت مثله قط، وكانت على المكتب مجموعة من الكتب الضخمة.. نهض ورحّب بنا بوجه بشوش... وصافحنا بحرارة ثم انتقل بنا إلى منضدة كبيرة عليها مجموعة كتب.. أخذ يعطي كل واحد منا كتابين وقلم رصاص وهو يقول:
:ـ حاولوا أن تقرأوا أي كتاب من الكتابين... وأشّروا بالقلم على الكلام الذي لا تفهمونه. وفي الفصل غداً صباحاً أشرح لكم الموضوع إن شاء الله.
ثم وجه الكلام إلى تيسير أفندي حيث قال:
:ـ وزّعهم على (قواويش المرضى)، وكل منهم يجب أن يعرف إنه سوف يكون المسؤول عن المرضى في هادا القاووش بعد جُمعتين (يقصد أسبوعين).
وغادرنا مكتبه، وفي نفسي أن أعرف ذلك الجهاز الذي ينقر عليه بأصابعه، ولكني شغلت بمخاوفي من (القاووش) الذي سوف أكون مسؤولاً عنه وبالمأساة التي أصبحت أرى في خيالي كل ما يتجمع فيها من حقارة وذل، وجال في نفسي أني قد عشت تلك الطفولة البائسة فعلاً بكل فجائعها، ولكن الجوع والحرب لم يكن فيهما الذل والهوان... لم يحدث قط أني بعمل خادم... يحمل قصرية الفضلات مثل ذلك الممرض الذي رأيته في مستشفى المدينة... واضح أن هذا القاووش سيكون فيه عدد من المرضى الذين يجب علينا خدمتهم... ترى ماهو الواجب الذي سوف أقوم به لخدمتهم؟
ومشينا خلف تيسير أفندي، الذي توقف أمام غرفة دخلها وخرج منها مع رجل سوري الملامح، علمنا أنه رئيس الممرضين ومع هذين، قمنا بهذه الجولة التي عرف فيها كل منا (القاووش) الذي سوف يكون مسؤولاً عنه.. وقد انتهت بأن دخلنا غرفة رئيس الممرضين هذا الذي سلّم كل واحد منا (ورقة مطبوعة عليها أسماء أيام الأسبوع) أو أرقام... وهو يقول:
:ـ هذه اسمها (طَبَلة) (بالباء المفتوحة)... تعلّق على كل سرير، وهي التي لابد أن يراها الدكتور كل صباح... وأنتم تقيدون فيها (درجة الحرارة وعدد النبض..) ومدّ ذراعه وطلب من أحد طلاب مكة أن يضع يده على الرسغ وسأل: هل تحس بالنبض؟
هذا هو الدليل على حركة القلب..
ثم توقف عن الكلام لحظات قال بعدها:
:ـ هذه معلومات قليلة تعطيكم فكرة عن عملكم مع المرضى... أتمنى لكم التوفيق والنجاح...
وأعدنا إليه الأوراق المطبوعة، وخرجنا لنقضي أول أيامنا في مدرسة الطب، التي أصبحت الآن مجرد (مدرسة تمريض)...
* * *
وكما سبق أن قلت أني كنت في غرفة ذات ثلاثة أسرة ومعي فيها فهمي الحشاني، ومحمد شريف، ولاحظ فهمي أني غاضب أو متألم وحزين ولم يكن يجهل الأسباب... لأنه هو ومحمد شريف أيضاً لم يكونا يتصوران أن النهاية هي هذه المدرسة... والتفت فهمي إليّ وهو على سريره ليقول:
:ـ ستكتب لهم في المدينة طبعاً.
:ـ سأكتب لهم أنهم لم يكونوا يجهلون أنها مدرسة تمريض.. فكيف هان عليهم... وعلى أمي بالذات أن أعمل ممرضا... خادماً للمرضى؟
يظهر أنها رأت أني أصبحت ثقيلاً عليها وعلى عمّي... ثم عندها الآن بنتها وابنها.. تستغني بهما عني..
:ـ لا يا عزيز... أنت غلطان... همّ اللي في ذهنهم أنت خلاص أصبحت رجّال... وكل رجل لازم يشتغل عشان يعيش... يعيش هوّه وعياله بعد ما يتجوز.
:ـ بس يمكن أتعلم أي صنعة... يمكن أرجع المدرسة الراقية اللي سمعت فتحوها وآخد الشهادة وأتوظف في وظيفة أحسن من وظيفة (ممرض ممتاز) اللي بشرنا المدير العام بها إذا اجتهدنا ونجحنا.
ولم تطل سكنانا في غرف هذا الطابق السفلي من مبنى الإدارة... كانت الغرف ضيقة والأسرة تكاد تكون متلاصقة.... وكان من زملائنا الذين التحقوا بالمدرسة من أبناء مكة، زميل لا يكبرني كثيراً، أو ربما كان في سني، اسمه (عبدالله منديلي) وقد فهمنا انه (شريف) وأن عائلته من العوائل المعروفة بمكة... زارنا هذا الزميل في غرفتنا، ورأى أنها كالعلبة وأن بعض حوائجنا ملقاة على الأرض أو فوق الأسرة، لأن الدواليب الخشبية الموجودة صغيرة... وضحك وهو يقول:
:ـ هادي كأنها حبس ما فيها غير هادا (المِنْور)... غرفتنا مع محمد نور آشي وحسن حامد أوسع وفيها شبابيك على الشارع...
ووجدتني أسأله:
:ـ إنتو أبناء مكة...
:ـ إيوه نحن أبناء مكة، وانتو أبناء المدينة وبس إنتو فين اتعلمتوا.. في المدارس ولاّ في الكتاتيب زينا؟
:ـ ليه انتو ماعندكم مدارس زي المدرسة الراقية في المدينة؟
:ـ فيه، مدرسة كان اسمها الرُّشدية... لكن أهلي ما دخلوني فيها.. عشان كلنا عارفين إنو اللي يدخلوها لازم يسيروا عساكر السلطان.
:ـ واتعلمت إنت في الكتّاب؟
:ـ في الكتاب وفي الحرم على المشايخ الكبار.... وأما الخط والإملاء، فأنا اتعلمت حسن الخط من الخطاط (أديب أفندي) وخطاط تركي في باب زيادة.
:ـ لكن ما الذي يجعلك تنام معنا؟ وأنت من أبناء مكة، ولك بيت فيها.
:ـ هادا شرط القبول في هادي المدرسة كل تلميذ يجب أن ينام فيها ـ يسموّها مدرسة داخلية.
وبينما كنا في هذا الحوار عن غرفتنا الضيقة وغرفته الواسعة مع محمد نور آشي، وحسن حامد، وأن فيها شبابيك تطل على الشارع، دخل علينا تيسير أفندي وفي وجهه تعبير عن الجدية والاهتمام ليقول:
:ـ جهزوا أنفسكم للانتقال من هنا...
:ـ إلى أين
:ـ إلى القبان
ولم نكن قد سمعنا بهذا المكان الذي قال إنه القبّان ومعلوماتي المحدودة، تقول أن القبان هو نوع من الموازين توزن به الأشياء الثقيلة فدار بذهني أنهم قرروا، أن يقوموا (بوزننا) ربما لأسباب علمها عند الله، ربما لعلّهم يريدون أن نتعلم طريقة الوزن بهذا القبان، لنقوم بوزن ما قد يستوردونه من السلع الثقيلة، وفي نفس اللحظة تذكرت أن لقب مدير مدرستنا هو (القباني) مما يذكّر بأن أباه أو جدّه كان يقوم بأعمال الوزن بالقبان للبضائع والسلع في دمشق... وقلت في نفسي:ـ سبحان الله كان أبوه أو جدّه هكذا، وأصبح هو دكتوراً ومديراً لمدرسة الصحة.
وبدأ أن زميلنا (المنديلي) وكان مايزال جالساً على مكانه، قد لاحظ أني مشغول الذهن بحكاية القبان الذي نجهز أنفسنا للانتقال إليه، فرفع صوته مازحاً يقول:
:ـ إيه؟.. إنت سارح... إيش اللي بتفكر فيه؟
وتنبهت فقلت:
:ـ أنا بافكر في هادا اللي قال تيسير أفندي إننا سننتقل إليه... هوه إيه؟ وكمان مستغرب إيش اللي يخلينا كلنا ننتقل إليه؟
:ـ إنت إيش تظن هادا القبان؟
:ـ إنت لابد تعرف إنّو ميزان البضايع التقيلة.
وضحك عبدالله، بل استغرق في الضحك، بينما دخل علينا في هذه اللحظة فهمي، ومحمد شريف اللذين اصبحا يستأذنان ويخرجان معاً وقد لا نراهما الاّ قبيل الغروب.. ووقف فهمي يسألنا:
:ـ عسى خير؟ هادا بيضحك على إيه؟
:ـ عليّ أنا علشان أنا اللي عارفه هوه إن القبان هو الميزان، وتيسير أفندي جانا وقال لازم نجهز أنفسنا للانتقال إليه... يا ترى رايحين يعلمونا كيف نشتغل على الميزان. وعلى غير عادة فهمي الحشاني رأيت وجهه يتغير ويتساءل:
:ـ تيسير أفندي بنفسه اللي جا وقال ننتقل إلى القبان؟
وتدخل محمد شريف ليقول:
:ـ يا تُرى إيش السبب؟ وفين هادا القبان؟
وعاد المنديلي إلى الضحك ليقول:
:ـ يا جماعة.. القبان مكان في المدّعى اسمه القبان.. والكُبار يقولوا إنّو كان (دار أبو سفيان).. وفيه مسجد صغير كان أبو سفيان يصلّي فيه بعد ما أسلم.
وأخذت أضحك بدوري وأقول:
:ـ فهمت... فهمت... أنا سمعت اليوم في الصباح إنهم رايحين يقوموا بأعمال ترميم في هادا القسم... اللي أمر بيها خيري بك ـ يعني لازم يكون مكاننا هادا خالي من التلاميذ لعمال الترميم.
* * *
وفي صباح اليوم التالي كنا قد جهزنا أنفسنا للانتقال إلى القبان.. أو كما قال المنديلي إلى (دار أبي سفيان). وقبل أن نتناول فطورنا الذي نذهب لتناوله مجتمعين في عنبر من الخشب والورق المقوّى عرفنا فيما بعد أنه صناعة ألمانية. منذ عهد الدولة العثمانية ـ وكان الفطور في العادة: البيض المسلوق وقطعة وافرة من الجبن البلدي والزيتون والخبز الصامولي والشاي يقوم بملء أكوابه من البرّاد مع السكر من إناء يحمله وهو يحرص على أن يكون وافراً لا نحتاج إلى المزيد منه رجلّ سوري أقرب إلى الشيخوخة... قبل أن نتناول هذا الفطور دخل علينا مأمور أو مساعد مأمور الإدارة وهو: (السيد أحمد الدّباغ) ليقول:
:ـ فين حوايجكم ؟؟.. هيا كل واحد يمشي ويحط حوايجه في العربة الواقفة قدّام الباب.
ولم نتردد أو نتمهل في الحركة إذ أخذ كل منا يحمل نفس اللفّة ـ وهي التي جئنا بها من المدينة ـ وضعناها في عربة مكشوفة (كارُّو).. قام قائدها بتربيطها جيداً.. وما كدنا نفرغ من ملاحظة حتى إقتعد مكانه للقيادة وانطلق.
وقبل أن نتساءل: كيف؟ وما هو الطريق إلى القبان عاد السيد الدباغ إلى الظهور وهو يقول:
:ـ بعد ما تفطروا.. أنا اللي أروح معاكم القبان.
* * *
ووجدنا القبان الذي ندخله من بوابة واسعة بعد صعود عدد من السلالم الطويلة من الحجر الأسود بعرض البوابة الواسعة.. ووجدناه مكاناً جميلاً في مواجهة الداخل المسجد الصغير الذي ذكره المنديلي ثم وإلى يمين الممر الواسع أو ما يسمى (الدهليز) حديقة وبركة ماء ممتلئة ليست كبيرة لكنها تتناسب مع الفناء حولها. وفي الصدر من هذه الحديقة وعلى الجانبين أبواب فتح كلاً منها السيد أحمد ونحن نمشي خلفه. وهو يقول:
:ـ هادي تلاته قاعات.. وكل قاعة فيها الأسرّة بعددكم... وكل سرير زي ما إنتو شايفين عليه فراش نظيف وشرشف... يعني ما شاء الله آخر سلْطنه..
ولاحظنا من جانبنا أن في القاعة الواسعة عدداً من الشبابيك تطل على الحديقة.. يواجهها في أعلى الجدار عدد من (المَناَوِر المغلقة بدُرف من الزجاج، ولكنها عالية لابد لفتحها من سلّم).. ثم لفت نظرنا عدم وجود دواليب نضع فيها حوايجنا.. ولكن قبل أن نسأل السيد: أين نضع هذه الحوائج والأشياء قال:
:ـ. فوق ... قبل ماتدخلو السطح ، تلتقوا غرفه فيها دواليب تحطو فيها هادي الحوايج . ثم أخذ يتجه نحو باب القاعة للانصراف ! ولكنه توقّف ووضع كفه أو إصبعه على صدغه وكأنه يتذكر ثم قال:
:ـ النوم في الليل في السطح عشان الدنيا صيف وحر ـ وفيه أسرّة بعددكم وكل سرير عليه ناموسيه.. عشان الناموس هنا أكثر من (جياد...) وعندكم أربعة خدم همّ اللي ينصبوا الناموسيات في الليل ويطبقوها في النهار وهم كمان اللي يملوا الشراب بالماء النظيف من (بزبوز) الحنفية الكبيرة اللي في البستان ـ يقصد الحديقة ـ. وكمان يمكن ترسلوهم السوق... والمدّعى كلها زي ما شفتوها و زيها المسعى... كلها سوق والدكاكين على الصفين مليانه من خيرات الله.
وتقدم منه فهمي الحشاني، وهويقول:
:ـ الدوام في المدرسة في مبنى المديرية؟
:ـ وهيه دي مسألة يبغالها سؤال؟. كل واحد فيكم لازم يكون في الفصل قبل الساعة إتنين ـ يعني بعد صلاة الصبح تبدأوا تجهزوا أنفسكم وتيجوا المدرسة عشان تفطروا زي العادة، وبعد الفطور تكونوا في الفصل.
* * *
بعد انصراف السيد الدبّاغ ومع اقتراب المساء أخذنا نتجوّل في القاعات الثلاث ثم في الحديقة، استوقفتنا البركة التي لم نكن ندري كيف تمتليء بالماء. ولا شك أنه ماء يتجدد ونظيف ولم نر على سطحه مايسمّى (الخوبان) لعلّه ما يسمى بالفصحى (الطُّحلب)... وجاء المنديلي وفي يده عصاة طويلة، أدركنا أنه يريد أن يعرف بها عمق هذه البركة عندما أدخلها في الماء ثم أخرجها وابتسم وهو يقول:
:ـ يمكن نتروش فيها كلّنا هادي البركة ؟.. ونوقف على أرضها وما نغرق وانتبه الآشي وفي نظراته دهشة واستغراب ثم قال:
:ـ يعني ناوي تتروش فيها؟
:ـ بس أخاف من السيد الدباغ لو قال لواحد يروح يبلّغ المدير أو تيسير أفندي.
وارتفع صوت محمد شريف الذي كان يقف في الحافّة المقابلة من البركة يقول:
:ـ أنا اللي يبلغ السيّد، وغير السيّد.. ترى خليك عاقل... وتحمد الله على إننا بنشوف هادي البركة وهادي الأزهار والأشجار.
والتزم المنديلي الصمت، ثم انسحب والعصا في يده، في إتجاه باب المدخل أو هو المخرج فمشيت معه. خرجنا إلى الدهليز الفسيح، وفي باب ذلك المسجد الصغير المغلق، ثم باب آخر رأينا عبر قضبانه من الحديد المدهون بلون أبيض، حديقة أخرى... بدت لنا أجمل من حديقتنا... ولكن لا سبيل إلى الدخول لأن الباب محكم الاغلاق... فاقتربنا منه والتصقنا به لنستوفي رؤية ما وراءه... كانت الحديقة نظيفة، وأشجارها قصيرة، قال المنديلي إنها أشجار الليمون، وهناك أحواض منسقة فيها مجموعة من النباتات المزهرة عرفنا منها ما يسمى (ورد الليل) و (تفاح الوَجَنْ) و (النرجس) ونبات متسلق على جذوع أشجار الليمون يعرف بأنه يسمى (حبيب الصباح) لأنه يعطي أزهاراً تتفتح في الفجر.. ثم تذبل في الضحى... وأخذنا ندير نظراتنا بقدر ما يسمح التصاقنا بالباب، فرأينا بركة ماء بيضوية الأستدارة لا ترتفع عن الأرض أكثر من متر واحد تقريباً، وفي وسطها نافورة يتدفق منها الماء برفق وبطء... ودار بذهني أن أسأل ماذا في هذا المكان ؟ من الذي يعمل فيه؟... ولعل ذلك قد دار بذهن المنديلي أيضاً ولكنه لم يتكلم إذ ربما كان مبهوراً بما يرى.
تراجعنا عن الباب، لنفاجأ بمن يفتح باب المسجد ويخرج منه رجل هو كما فهمنا فيما بعد، البواب المكلف بالباب الكبير الذي لا يفتحه إلاّ لمن يريد الدخول أو الخروج من الموظفين.
أقبلنا نريد دخول المسجد لنرى ما فيه، ولم يمانع البواب، ولكنه قال إنه مظلم، وعلينا أن ندخله في النهار وفهمنا منه، أنه نادراً ما صلّى فيه أحد لأن الباب الكبير مغلق دائماً.. ثم أنه هو قد اعتاد أن ينام فيه بعد الظهر.. مع أنه خال من أي نافذة ما عدى (مِنْورين مرتفعين بارتفاع مبنى القبان).
بعد الغروب، وقد أخذ الظلام يزحف وينتشر في القبان، رأينا ثلاثاً من الخدم يدخلون من الباب وفي يد كل منهم (فانوس هندي) كبير وجديد، وقد أشعلت فتيلته الكبيرة ليضئ مساحة واسعة، من الممشى إلى القاعات الثلاث. كما يضيء كل قاعة إلى الحد الذي يتيح لنا أن نرى ونعرف وجوه بعضنا، ولكنه لا يساعد على قراءة المواضيع التي كان الدكتور خيري القباني، مدير المدرسة قد نبهنا إلى ضرورة قراءتها لنسمع منه في الفصل، شرحه لها.
ولم نجد من نلجأ إليه لحل هذه العقدة، فاضطرنا إلى أن نقضي الوقت في الحديث والتعليق على هذا المكان... الذي لفه الظلام فلم نعد نرى شيئاً عبر النوافذ المطلة على الحديقة.
مع أني نادراً ما خفت من الظلام أو أحسست بشيء من الرهبة أو الرعب، ولكن الظلام الذي افترس المكان والحديقة وأشجارها كان رهيباً، داخلني معه شيء من الخوف وإحساس بالترقب كأن شيئاً مجهولاً يمكن أن يفاجئنا في أي لحظة بما لا يعلمه إلا الله.. ثم كانت هناك مشكلة حاجتنا للعشاء.. حيث كنا في مهاجعنا في مبنى مديرية الصحة كان المعتاد أن نجتمع في قاعة ذلك المطعم حيث يقدم لنا الرجل الطيب العشاء الذي يختاره لنا، وهو في الغالب نفس الألوان التي يقدمها في وجبة الغذاء، أما هنا فإننا لا نجد حتى هذه الساعة من المساء ما يدل على أننا سنجد شيئاً نتعشى به، وأخذنا نتحدث عن هذه المشكلة، ونتبادل النكات والضحكات ونتساءل: ترى هل قررت إدارة المدرسة أن (لا عشاء) ما دمنا في القبان؟
ولكن قبيل سماعنا أذان العشاء يرتفع من مآذن الحرم الشريف، رأينا السيد أحمد الدباغ وخلفه اثنان يحملان العشاء الذي لا أخفي أننا فضلناه عن وجبة العشاء التي تقدم لنا عادة في العنبر أو المطعم في جياد.
كان السيد أحمد رجلاً أحسسنا أنه يحنو علينا ويحاول جهده أن يخفف عنا ما شعرنا به من الوحشة في مقامنا في القبان.. كان العشاء مكوناً من الفول الغارق في السمن البلدي، والمطبق بنوعيه المالح المتخم بالبيض ومفروم اللحم، والحلو المحشو بالموز وربما القشطة والجبن الزقزق والأنواع التي لم نذقها منذ قدومنا إلا في هذه الليلة من مقامنا في القبان برعاية ذلك الرجل الكريم، وهي رعاية تختلف تماماً عن رعاية مجموعة المسؤولين في مديرية الصحة، وكلهم من سوريا... ولعلها المرة الأولى التي جال في نفسي إحساس بالمواطنة لم يسبق أن أحسست به من قبل.. إحساس ترسخ في ضميري حتى اليوم.. مضمونه أن المواطن ـ (ابن بلدي) هو الذي تربطني به علاقة قد لا تكون الحب أو الود، ولكنها مع ذلك، اتصال علاقة مقررة كامنة في أعماق النفس، ومن هنا ربما كانت هي العلاقة الوحيدة التي تستغني تماماً عن مشاعر الحب في مفهومه الشائع المألوف والمعروف.
في الحب لابد من باعث هو في الغالب التعلق بالجمال وما يدخل في معناه من الرقة، والوداعة، واللطف، وحلاوة المعشر الخ.. والحب بهذا المفهوم، أو هذا المعنى، محكوم بالضعف والضمور، ثم الزوال... بغض النظر عن رومانسية قصص الحب التي ملأت رحاب الدنيا كلها، فلا مجال للشك في أن لها نهاية ما، وهذا ما تتميز به علاقة المواطنة... إذ يستحيل أن يطرأ عليها هذا الضعف أو الضمور.. وهي مشاعر لا تنحصر في إنسان بعينه... أغرب وأعظم ما في خصائصها ان لها المقدرة على أن تحتوي الجميع.... تحتوي من تربطك به علاقة معرفة، ومن لم يسبق أن رأيته قط... قد تكون مرتحلاً في بلد ما فتسمع وأنت تتسوق أو تتنزه أو تقف في انتظار الحافلة التي تنتقل بها.. تسمع من يتحدث إلى آخر.. وتدرك على الفور أنه من مواطنيك فإذا بك تمد يدك إليه، تصافحه وترحب به.. ليرحب هو أيضاً بك.. وكل منهما لم يسبق له أن رأى الآخر قط... إنها المواطنة... مشاعرها التي تنطلق من مكمنها في النفس لا ترتبط بمكان أو زمان، وهي أشبه شيء بالغريزة التي تحكم التصرف متجاوزة حدود العقل والمنطق والإرادة.
* * *
قادنا السيد أحمد إلى السطح، حيث وجد كل منا سريره وقد نصبت فوقه الناموسية.. وما كدنا نستقر حتى أخذ النعاس يداعب أجفاننا فلا نملك إلا أن نستسلم للنوم، ولكن لا أذكر كم مضى من الوقت حين أرغمنا على أن نصحوا ونتوجس أمراً لم يكن في الحسبان.
كانت هناك أصوات أكثر من رجل تهدد وتتوعد مع شحنة من الشتائم السوقية القذرة تتردد عند كل صيحة تهديد ووعيد.
كان واضحاً أن هذه الأصوات تصدر من فتحات مقامة في السطح مرتفعة عن مستواه كالمداخن التي تقام عادة للمطابخ الكبيرة أو المدافيء في المدن التي تحتاج إلى التدفئة في أيام الشتاء.. وهذا يعني أن هذه الأصوات التي نسمعها تصدر من رجال يعيشون في غرف أو زنزانات تحتاج إلى هذه الفتحات... كثيرون من الزملاء خرجوا عن الناموسيات وجلسوا على حافة الأسرة يتهامسون في البداية ثم يتحدثون متسائلين عن هذه الأصوات، وقد ذهب بعضهم إلى أنها أصوات (للجن) الذين لابد أن يكونوا قد وجدوا في دار أبي سفيان القديمة العريقة خير مكان يعيشون فيه، كما وجدت الإدارة في مدرسة الصحة أنها المكان الذي يمكن أن يعيش فيه التلاميذ إلى أن تتم عمليات الترميم في القسم الذي كنا نرتفقه في مبنى (مديرية الصحة العامة والإسعاف).
 
طباعة

تعليق

 القراءات :955  التعليقات :0
 

الصفحة الأولى الصفحة السابقة
صفحة 84 من 86
الصفحة التالية الصفحة الأخيرة

من اصدارات الاثنينية

الاستبيان


هل تؤيد إضافة التسجيلات الصوتية والمرئية إلى الموقع

 
تسجيلات كاملة
مقتطفات لتسجيلات مختارة
لا أؤيد
 
النتائج