الفصل الحادي عشر |
وسمعنا فجأة صوت العم فالح الناخودة مرتفعا ينادي (الدكتور فهمي) وجماعته، والتفتنا نحو الصوت لنراه وعيناه تبحثان عنا. |
وأسرع السيد فهمي، وظللنا حيث نحن على مقاعد خشبية طويلة ولكن بلا ظهور، وطبعا بلا أي شيء يفصل بين الخشب والجالس عليه... وعندما عاد فهمي، أخبرنا أن العم فالح يقول أنه استلمكم من أمير رابغ... ولابد أن يسلمكم إلى أمير جدة... وبيده ورقة فيها حكاية أننا انقطعنا في رابغ وهو قد سلمنا إلى العم فالح ليقوم بتسليمنا إلى أمير جدة. |
وأحسسنا أننا في ورطة لا نعرف شيئا عن نهايتها وفاجأنا فهمي وهو يقول: |
:ـ هيا نمشي مع العم فالح... الرجل في انتظارنا.. |
وقلنا نسأله: |
:ـ وأين نترك أشياءنا وفيها كل ما بقى لنا بعد هذه الرحلة؟! |
وهنا قال محمد شريف: |
:ـ أنا تعبان من الحر... وما هو ضروري أروح معاكم... خلوا كل شيء عندي. واتفقنا... وأخذ بعضنا يصلح من هندامه وينظم لف رأسه بالشال الغباني، كما كانت العادة في تلك الأيام.. |
وعندما بدأنا نمشي خلف العم فالح استوقفنا جميعا شاب سوري الملامح وسألنا إلى أين نحن ذاهبون؟ |
وأجابه العم فالح: |
:ـ إلى الأمير... أمير جدة... استلمتهم من أمير رابغ والأمر اللي عندي إني أسلمهم لأمير جدة والتفت إلينا الشاب متسائلا: من نكون وما هي حكايتنا. |
وتصدى له فهمي قائلا: |
:ـ لكن انت مين؟ |
:ـ أنا مندوب مدير الكرنتينا... سمع المدير انكم وصلتم بالسفينة.. يعني بالبحر.. وكل واحد يصل جدة بطريق البحر لازم (يِتْكَرتنْ). |
وسأله فهمي: |
:ـ يعني إيه يتكرتن؟ |
:ـ يعني ما يدخل جدة إلا بعد يومين أو ثلاثة أيام: |
:ـ ليه؟ |
:ـ علشان يتأكد انه غير مصاب بالكوليرا... كثيرين من اللي من الهند بيكونوا مصابين بهادا الوباء والعياذ بالله. |
وهنا سمعنا العم فالح ينادي قائلا: |
:ـ راح الوقت يا جماعة.. أخاف يكون الأمير قام من المجلس. |
وهنا تصدى له الشاب السوري يقول: |
:ـ مستحيل إلا بعد ما يتكرتنوا. |
وتدخل محمد شريف الذي كان جالسا متوكئا على أحد لفات الأفرشة.. تدخل يخاطب الشاب السوري: |
:ـ لكن يا أخينا نحن من أهل المدينة... ما معنا أي هندي... كلنا جايين من رابغ، ورايحين مكة علشان مدرسة الطب. |
وكانت المفاجأة أن الشاب السوري ما كاد يسمع أننا (رايحين مكة لمدرسة الطب) حتى تحلل وجهه وابتسم وهو يتساءل: |
:ـ انتو طلاب مدرسة الصحة؟ أهلا وسهلا ومشى أمامنا وهو يقول: |
:ـ اتفضلوا.. اتفضلوا، الدكتور يمكن يحب يتعرف عليكم. |
وعاد صوت العم فالح ينادي، وينذر بأن يكون قد غادر المجلس.. فمشى نحوه الشاب السوري مندوب الكرنتينا، وهو يقول: |
:ـ خلاص الجماعة كلهم عند الدكتور مدير الكرنتينا... وقول لأمير جدة إنك سلمتهم للدكتور. |
وهنا قال العم فالح: |
:ـ تعطيني ورقة باستلامهم... وإنهم عند مدير الكرنتينا. |
ولم يتردد الشاب السوري، في الصعود ركضا وعاد بالورقة المطلوبة.. ثم قال |
:ـ اتفضلوا.. الدكتور ينتظركم. |
* * * |
وعندما دخلنا مكتب الدكتور الذي رأيناه فخما يطل على البحر.. نهض مرحباً، فصافحناه واحداً بعد الآخر... وقصصنا عليه تفاصيل رحلتنا.. وقام فهمي بتقديم كل منا، واسمه واسم أبيه إلى أن قال: |
:ـ وهذا اسمه عزيز ابن الدكتور ضياء بك.. وارتسمت على وجه الدكتور معالم الدهشة وهو يقول: |
:ـ ولكن هادا طفل.. كيف وافقوا على قبوله؟ |
:ـ هوه صغير فعلاً.. وأنا الوصى عليه.. لكنه شاطر جداً.. وفي الامتحان في المدينة هو الأول... وكان الثاني (حسن حامد) وأشار إليه (ولم يكن طفلاً.. كان أقرب إلى مرحلة الشباب).. ثم قال: |
:ـ أما أنا فقد كنت الخامس... وكنت موظف في المستشفى... مضمد ومساعد تضميد.. وأبتسم الدكتور وهو يقول: |
:ـ الليلة تناموا في المستشفى.. ولابد بكره إلى مكة.. على الجمال.. ولكن يمكن كل إثنين على جمل.. المسافة إلى مكة يومين: |
وتساءل عبدالحميد ربما لأول مرة: |
:ـ في الشقادف زي لما سافرنا من المدينة؟ |
ضحك الدكتور وهو يقول: |
:ـ ما في شقادف كلها يومين.. تمشوا في الليل وتستريحوا في النهار. وقبل ما تمشوا أنا أخبر محمود بك إنكم وصلتوا لأنه هو والدكتور خيري بك بينتظروكم من زمان. |
ولم نكن نعرف من هو محمود بك، ومن الدكتور خيري بك، لم يجد أحد منا ضرورة للاستعلام... وأكرمنا الدكتور بالشاي الذي توهمنا ونحن نشربه أننا سوف نعيش هذا المستوى الفخم ونعامل هذه المعاملة الكريمة في المدرسة الطبية. |
قال الدكتور للشاب الذي فهمنا أنه الكاتب أو السكرتير عند الدكتور. |
هيا.. روح مع الجماعة إلى المستشفى.. يناموا الليلة.. وخبر مأمور الإدارة يستأجر لهم الجمال.. كل اثنين على جمل... |
* * * |
ومشينا مع الشاب سكرتير المدير إلى المستشفى ورأينا الكثير من عمران جدة وحوايرها في مشوارنا الذي لم يستمر اكثر من نصف ساعة، مع زحام الحجاج الذين قال لنا الشاب أنهم قد انتهوا من الحج وهم في انتظار البواخر التي ستحملهم إلى بلادهم، وهي جاوة والهند أو مصر وسوريا. |
وقادنا الشاب إلى غرفة على بابها لافتة تقول (مأمور الإدارة) الذي قال عندما رآنا واقفين أمامه: |
إيش الغداء اللي يكفيهم؟ هادول ما شاء الله طابور... كان لازم ندبح لهم خروفين. |
قال هذه الكلمات دون أن يرحب بنا، ثم نهض وخرج من الغرفة ينادي شخصاً بصوت منفعل... وبعد قليل عاد إلى الغرفة ليقول: خلاص... غداكم كباب... هيا اتفضلوا دحين روحوا (القاووش) اللي رايحين تناموا فيه. |
وقادنا الشاب الذي مازال يرافقنا إلى (القاووش) الذي قال مأمور الإدارة اننا سننام فيه.. والتفت إلى فهمي الحشاني، يقول: |
لا تاخدوا عليه.. هوه طبعه كده.. ما يعرف غير يصيح وينفخ في كل واحد يراجعه. |
ودخلنا (القاووش)... وهو عبارة عن عنبر أو قاعة واسعة، لها نوافذ تطل على فناء واسع.. حمدنا الله إذ استقبلنا هواءٍ ناعماً خفف من ضيقنا بالحر الشديد. وفي هذا العنبر عدد من الأسرة الحديد الصدئة كل ما عليها الألواح الخشبية التي يستحيل أن نستلقى عليها... وحمدنا الله على أننا مازلنا نحتفظ بلفات اللحف والمخدات والسجاجيد.. |
وأخذنا نتسابق في اختيار الأسرة القريبة من النوافذ طلباً لذلك الهواء الناعم الرقيق.. وقد حرص فهمي أن أكون على سرير بجانب سريره.. وبسطنا عليها اللحف والسجاجيد، واستلقى كل منا وهو يتنفس الصعداء وتثقل اجفانه الرغبة في النوم الذي حرمنا منه منذ كنا على سطح السفينة (أم الخير)... التي ما كادت تمر ذكراها بذهني حتى قلت لفهمي... كان لازم نودع العم فالح ونصافحه قبل ما نقابل مدير الكرنتينا... وسمعها آخرون بالقرب منا.. فقالوا: |
:ـ صحيح...صحيح... هادا كان حنون علينا. |
وقال آخر: |
:ـ كان يعاملنا كأننا أولاده. |
ولم تمض نصف ساعة تقريباً حتى دخل علينا في القاووش عدد من العمال وعلى رؤوسهم صواني الأكل... وكان هو الكباب الذي أمر به مأمور الإدارة، وكانت رائحته تفتح شهيتنا إلى حد وجدنا أنفسنا نتسابق في الجلوس على الارض المفروشة بحصير نسميه في المدينة (خصف) لأنه يصنع من سعف النخل وهذا هو الفرق بينه وبين الحصير الذي ربما كان يستورد من مصر في تلك الأيام. |
تحلقنا مجموعات حول الأطباق أو هي التباسي الكبيرة وفي كل منها عدد من الاْطباق طافحة بالكباب.. واذكر اليوم أنه كان أشهى أكلة كباب تمتعنا بها منذ كنا على (أم الخير) التي كان السمك هو الذي نجده في جميع الوجبات وهو أيضاً الذي شبعنا منه في المقهى الذي عشنا فيه أياما في رابغ. |
والواقع أن كمية الكباب ومعها خبز ((الحب)) كانت كافية مشبعة.. وسألنا العمال قبل أن يرفعوا الأطباق: |
أين نغسل أيدينا ونتوضأ للصلاة؟ |
ولاذ أكثرهم بالصمت.. إلا أحدهم الذي قال: تعالوا ومشى أمامنا... عبر ممرات متلاحقة لاحظنا أن فيها أبوابا ربما لعنابر، مثل عنبرنا... إلى أن وقف أمام باب بالغ القذارة يؤكد أنه لم يلْمس بيد تنظف ما عليه من أقذار منذ دهر طويل... وفتح الباب.. لنرى صفاً من أبواب قصيرة لا تقل قذارة عن الباب الرئيسي ثم التفت ليقول: |
:ـ عندكم الأباريق تملوها من هاديك البزابيز.. بس إن كانت الحنفية مليانة.. |
وأسرع (حسن حامد) وهو الوحيد الذي كان يترفع عن الانغماس فيما يدور بيننا من أحاديث وحكايات ضاحكة أو مزاح من أي نوع. |
أسرع إلى إبريق من الصفيح رأينا على وجهه اشمئزازه من قذارته.. ومشى به إلى صنبور الحنفية ولكن لم تسقط منه قطرة واحدة من الماء.. معنى ذلك أننا جميعا في ورطة لا سبيل إلى حلها ليس فقط بالنسبة للوضوء للصلاة، وإنما قبل ذلك لقضاء الحاجة في المرحاض. |
وأخذ بعضنا ينظر إلى حسن حامد، ليرى كيف يتصرف... وفوجئنا به يسرع بالخروج وهو يقول: |
:ـ مأمور الإدارة.. تعالوا نذهب إليه كلنا ولكن لم نستجب لدعوته وظللنا في مواقعنا، ودخل بعضنا المراحيض ولا ندري كيف سيتصرف بعد قضاء حاجته. |
وكان حسن حامد، قد خرج، وغاب فترة طويلة لنسمع اصوات ناس متعددين يتصايحون ويتشاجرون وكان صوت مأمور الإدارة واضحا وهو يقول: |
:ـ كل واحد منكم يخدم نفسه.. والماء موجود في الخزان الكبير.. كل واحد يقدر يشيل تنكه يمليها من هادا الخزان ويملي الحنفية هنا والتنك عندكم هنا في هادي الغرفة. |
وعرفنا أن لا سبيل إلى حل المشكلة إلا بتنفيذ الأمر، ودارت في اذهاننا صورتنا وكل منا يحمل صفيحة ماء يعود بها من الخزان الكبير إلى الحنفية. |
وهنا سمعنا محمد شريف يقول: |
:ـ أنت يا عمنا.. عمرك سمعت طلاب مدرسة طب يشيلو تنك موية. |
وأضاف (حسن حامد). |
:ـ بلاش (مدرسة الطب).. لكن طلاب مدرسة تهينهم جنابك؟... وإذا بنا نفاجأ بمأمور الإدارة يفرقع ضحكة صاخبة عاصفة، ويستمر فيها بحيث يعجز عن الكلام.. لنسمعه أخيراً يقول ساخراً: |
:ـ مدرسة طب؟.. إنتو طلاب مدرسة طب؟.. مين اللي ضحك عليكم وقال لكم (مدرسة طب) ؟! |
ووقف حسن حامد إلى جانب (محمد شريف) كأنه يحتمي به إذا أشتبك مع مأمور الإدارة والفريق من الأشخاص الذين جاءوا معه، ولا ندري إن كانوا عمالاً أم موظفين ثم قال حسن: |
:ـ إسمع.. الحكومة في المدينة هي اللي قالت إنها مدرسة طب.. وهيه اللي سفرتنا إلى مكة.. ولازم تعرف نحن مين؟! |
لازم تعرف اللي زينا ما يمكن يشيل تنك موية... عمرنا ما اشتغلنا سقاية. وارتفع صوت محمد شريف ليقول: |
:ـ وكمان يا جناب المأمور إنت مسؤول عن راحة كل واحد مننا.. إنت موظف واسمك (مأمور) يعني تسمع الأوامر وتنفذها. |
واحتدم مأمور الإدارة وتقدم من محمد شريف خطوة كأنه يهم بصفعه فتصدى ولكن سرعان ما تدخل فهمي الحشاني وهو يقول: |
:ـ صلوا على النبي يا جماعة... المسألة بسيطة.. أنا عندي حل.. ثم التفت إلى وطلب أن اقترب منه حيث همس يقول: |
:ـ أنا عندي من فلوسي خمسة مجايدة، وعندي من فلوسك الجنيه الذهب ومجيدين ونص... ندفع أجرة العمال اللي يشيلوا التنك ويملوا الحنفية.. ما أدري كم ياخذوا.. لكن هادا هو اللي نخلص به المشكلة... |
وأسرعت أؤكد له موافقتي... قلت: |
:ـ فعلاً هدا هو الحل. |
واتجه فهمي إلى مأمور الإدارة الذي كان مايزال واقفاً، متهيج الإعصاب.. وعرض عليه الفكرة فوافق وقال إن أجرة العامل الذي يحمل تنكتين ثلاثة قروش. وهكذا تم نقل المياه واستطعنا ان نقضي الحاجة ونتوضأ للصلاة، وكان كل المبلغ الذي دفعناه لا يزيد عن مجيدين... |
وقضينا الوقت إلى المغرب في بحث الكلمة التي قالها مأمور الإدارة. وهي (مين اللي ضحك عليكم وقال لكم مدرسة طب) ؟؟. وقال فهمي الحشاني: |
:ـ الحقيقة إنهم في المدينة قالوا إنها (مدرسة صحة).. وما قالوا (مدرسة طب).. لكن كلنا فهمنا إنها مدرسة طب. |
وطال الحوار بيننا حول هذا الموضوع الذي سافرنا من المدينة وكل منا يعتقد أنه ذاهب إلى مكة لمدرسة الطب.. ولم ننته إلى شيء سوى أننا سوف نعرف الحقيقة عندما نصل مكة.. وكلها يومين ونكون هناك بإذن الله. |
وبدأ ظلام الليل يتسلل إلى (قاووشنا) المحترم، وقد لفت نظرنا عدم وجود أي نوع من الإضاءة في هذا المكان وكذلك وبطبيعة الحال في دورة المياه وكدنا ندخل في مشكلة جديدة، لولا أنه أطل علينا أحد عمال المستشفى وهو يحمل (فانوساً هندياً متوسط الحجم) أضاء الغرفة، وقال أننا نجد في دورة المياه مثله.. فحمدنا الله، وأخذ النعاس يدب ويتغلب علينا... ولم يطل بنا الوقت حتى استغرقنا في نوم عميق ولم نستقيظ إلا مع بزوغ أضواء الفجر.. حيث رأينا على الارض بل وفوق بعض الذين لم يفتحوا عيونهم بعد فريقا من الجرذان تتراكض وتمرح دون ان يكون لوجودنا أي تأثير على حركتها. ألقيت نظرة نحو تلك النوافذ المفتوحة التي تهب علينا منها نسمات الهواء اللطيف الذي تعلمنا فيما بعد أنه ريح الشمال التي يفرح بها ويرتاح إليها الناس، تقابلها ريح الجنوب وهي الثقيلة المشبعة. بالرطوبة والأتربة... وأسرعنا إلى الوضوء وقضاء الحاجة، وفي أذهاننا أننا اليوم سنسافر إلى مكة. |
|