شارع عبد المقصود خوجة
جدة - الروضة

00966-12-6982222 - تحويلة 250
00966-12-6984444 - فاكس
                  البحث   

مكتبة الاثنينية

 
الفصل الثامن
لا أذكر الآن ولا أدري، لماذا كنا ننتقل من بيت إلى آخر.. إذ عندما تم التسليم كنا نسكن في الساحة وهي تعتبر المنطقة التي يسكنها أكابر أهل المدينة.. ولكن بعد التسليم انتقلنا إلى بيت في بداية شارع العنبرية، اذكر انه من بيوت (الحكيم ـ أو صالح حكيم)، ويقع في مواجهة المستشفى العسكري الذي يعمل فيه المرحوم. ولكني تعلمت قيما بعد أن الذين يملكون البيوت يؤجرونها للذين لا يملكونها.
وفي هذا البيت المكون من ثلاث طبقات (يسمى الدور طبقة) بدأت أفتح عيني فأدرك الكثير من المسؤوليات التي تقع على عواتق الرجال، ومنها العمل لتأمين لقمة العيش.. وكانت المناسبة ما كان يدور بين أمي وعمي بالتركية التي لم أعد أجهل الكثير من مفرداتها عن قلقه بخصوص الراتب الذي لم يعرف مقداره بعد في حكومة (بن سعود)... من كلامه مثلاً: (في الحكومة السابقة كان الراتب يكفي لأجرة البيت والأكل ولكن المؤسف أنهم لم يكونوا في السنوات الأخيرة يدفعون هذا الراتب بانتظام، ولذلك فقد انتهت الحكومة وفي ذمتها للموظفين رواتب أكثر من ثمانية أو تسعة شهور... فكم سيكون الراتب مع هذه الحكومة... وهل سوف تصرف الرواتب بانتظام...؟!
وأجابته أمي:
:ـ هذا هو المهم.. حتى ولو كان أقل من الراتب في الحكومة السابقة.. استلام كل شهر بانتظام يمكن أن يكفي بالتدبير. ثم نحمد الله، فكل شيء أصبح رخيصاً جداً.المجيدي الواحد يكفي المقاضي ويزيد.
وتذكرت أني أصبحت أقوم بحمل (الزنبيل الصغير) وتناولني أمي المجيدي الواحد، لأقوم بشراء (المقاضي) وهي المواد الغذائية التي يحتاجها البيت في اليوم الواحد، من سوق الخضرة القريب من المنزل، وفي البيت إضافة إلى الأم والأب والأطفال الثلاثة ـ وأنا أحدهم ـ أمي بشرى وأمي (باجي) وهي القادرة على طهو جميع الأطباق التركية الشهيرة التي فوجيء بها سليمان شفيق باشا على مائدتها الذي كان في رفقة رجال بن سعود... واسماعيل، ومحمد علي، وهؤلاء غير الضيوف من السيدات اللائي كن يجئن أحيانا (بلا موعد) لما يسمّى (القيلة) وهي المجيء في وقت الضحى، والجلوس إلى وقت الغروب.
وقد كان الرخاء في هذه الأيام، بعد أن انتهى الحصار ظاهرة لا أذكر أنها تكررت بعد ذلك في المملكة حتى اليوم.
كنت أنطلق بالزنبيل والمجيدي في يدي إلى العم عبدالقادر حافظ في السوق.. فأتزوّد منه بعدد من أنواع الخضروات، ويكرمني معها بكمية (من الورد، والدوش، والنعناع.. والنوامى)، وأحياناً بكوز من (الطلع)، وكل ما يأخذه من المجيدي لا يزيد عن ثلاثة قروش... والمجيدي يساوي عشرين قرشاً.. ويرفع صوته عالياً ليقول للجزّار بالقرب من دكانه.
:ـ أعطيله أحسن لحم للخضار اللي في الزنبيل
وكانت الأقة هي الوزن المألوف، فآخذ أقتين بعشرة قروش... ومن البقال بالقرب منه أشتْري الأشياء الأخرى ثم أعود إلى أمي وفي يدي ثلاثة أو أربعة قروش.
ولم نمض في هذا المنزل القريب من منطقة سوق الخضار مع أنه على الشارع العام الذي ينتهي إلى (الأستاسيون) سوى فترة قصيرة، حتى سمعت من عمي وهو يتحدث إلى أمي أن الحكومة فتحت مدرسة للصحة في مكة وقالت أمي يمكن أن تكون مدرسة للطب، وأضافت: ليتهم يقبلون التحاق عزيز بها... هو صغير فعلاً، ولكنه (رجال) ما ينخاف عليه... هل يقبلونه؟؟... وقال عمي: لا أظن أنها مدرسة للطب...ولكن لا مانع من التحاق عزيز بها، فقد طال انقطاعه عن المدرسة طول أيام الحرب. وهذا إذا قبلوه لأنه صغير، واستوعبت الحديث، والتزمت الصمت من جانبي، ولكني أحسست أنه لم يعد مما يشرفني أن أعاود اللعب في الشارع.. وتساءلت بيني وبين نفسي: هل أستطيع أن أقرأ وأكتب كما كنت قبل أيام اللعب والانقطاع عن المدرسة.
وقبيل الغروب من ذلك اليوم دخلت الغرفة المخصصة لي وتناولت حقيبة المدرسة وأخذت أقلب صفحات الكتب والكراريس وفوجئت بأن الكثير من مادة (الحساب، والهندسة) لا أذكر منها شيئا... بدت لي كأنها ألغاز... فكيف أسترجع ما تعلمته منها على يد (السيد حسين طه)... ثم أين السيد حسين الآن... مادامت المدرسة ماتزال مغلقة. هل أذهب إليه في بيته الذي أعرفه حيث سبق لي أن ذهبت إليه مع أخيه وزميلي في الراقية (السيد عبدالرحمن) ؟... ولكن ماذا يستطيع أن يفعل... ثم لابد أنه يكون مشغولاً مع أبيه (السيد طه)... ولف ذهني نوع من الحيرة والأسف.. بل والإحساس بالذنب.
وعندما جاءت أمي بشرى تناديني لوجبة العشاء ورأت أمامي الكتب والكراريس وقفت أمامي.. وهي تقول:ـ
:ـ يعني خلاص.. ما في كبوش؟... ولا مدفع؟ ولا كورة التزقير ولا كَبتْ؟!؟
ووجدتني أقول لها:ـ
:ـ خلاص... أنا رايح مدرسة الطب في مكة...
قلت ذلك بطريقة عفوية وتلقائية بحيث دهشتُ أنا نفسي لما قلت دون تفكير أو قرار أو إحساس بالرغبة... ونهضت معها وأنا أسمعها تقول:
:ـ إيوه كدة... إن شاء الله ـ يا رب ـ ترجع لنا من مكة وأنت دكتور زي عمك تمام يا رب.. يا رب.
وتطوعت هي، وقد سبقتني بخطوات نحو المائدة ترفع صوتها بفرحة وعلى وجهها ابتسامة وضحكة.. تقول:ـ هيا هاتو البشارة.. عزيز رايح يسير دكتور زي عمّه تمام... رايح المدرسة اللي قال إنها مدرسة الطب في مكة.
وعندما أخذت مقعدي على المائدة وأخذت أجيل النظر في وجهي أمي وعمي... رأيت الدهشة والتساؤل مع مانمّ عن شعور بالفرحة.
وبدأت أمي الكلام متسائلة:ـ
:ـ صحيح يا عزيز تبغا تروح مدرسة الطب في مكة؟
:ـ إيوه صحيح يا أمي... بس عمي قال: يمكن ما يقبلوني لأني صغير.
:ـ أنت صغير في السن... ولكن رجّال:
وقال عمي:ـ
:ـ صحيح إنت صغير... لكن رجّال... وهمّ عاملين جماعة.. هي اللي تقبل اللي ينجح في الاختبار وهادي الجماعة فيها عمّك يحيى بك ومحمود بك وعزمي أفندي المحاسب كمان.
وتساءلت:ـ
:ـ يعني فيها إمتحان؟
:ـ لابد فيها امتحان وعشان كدة لازم تراجع الدروس اللي تعلمتها في المدرسة.
* * *
وشرعت أراجع الكراريس والدفاتر، وأضع علامة على المواضيع التي شعرت أنها ضاعت... تلاشت من ذهني تماما.
ومضت أيام لا أخرج خلالها من باب الشارع إلاّ إلى سوق الخضرة القريب. كان إحساسي باحتمال عدم قبولي لصغر سني، يجعلني أقف أمام المرآة وأرفع قامتي على رؤوس أصابع رجليّ... ثم أتنهد لأني أرى نفسي صغيراً فعلاً.
ومع أن الحديث عن هذه المدرسة انقطع فترة من الزمن بحيث بدا لي كأنهم انتهوا من قبول من قبلوهم وأنه لم تعد هناك ضرورة لتفكيري بها... إلاّ أني ومعي أمي و (أمي بشرى) فوجئنا بعمي عندما جاء لتناول الغذاء، ينظر إلينا مبتسماً ليقول:ـ
:ـ الجماعة وافقوا على انهم يقبلوا عزيز ولو أنه صغير في السن إذا نجح في الامتحان... وأضاف والامتحان...
وهنا وجه كلامه إليّ شخصياً وقال: الامتحان يوم السبت.. يعني ما عندك غير الليلة ويوم الجمعة وليلة السبت هيّا وريني شطارتك.
ثم أضاف يقول:
:ـ ترى اللي طلبوا يروحوا هادي المدرسة أكثر من خمسة وعشرين ولد... كلهم أكبر من عزيز... وفيهم كبار... رجال زي فهمي الحشاني اللي بيشتغل مضد عندنا وواحد اسمه محمد شريف وصالح طاهر.
وما لا أنساه طول العمر.. اهتمام أمي وعمي بقضية نجاحي.
أمي وضعتني أمامها وأخذت تملي عليّ نصوصاً من الكتب الدراسية... من مختلف المواضيع.
أما عمي فقد انتهز فرصة بعد تناول العشاء فأخذني إلى غرفته... وأخذ يطلب مني أن أكتب ارقاماً متتالية عمودياً ثم يقول لي أجمع هذه الارقام ولكن بسرعة وبدون خطأ...
ثم طلب أن أكتب رقماً من الآحاد حتى الألوف.. وتحته رقمان.. وطلب أن أضرب... وأعطيه نتيجة الضرب ثم قال:
:ـ هل نسيت جدول الضرب؟؟
ولم اكن قد نسيته.. فكلما سألني عن حاصل ضرب رقمين من الجدول... كنت أُسرع في الاجابة.
وبقيت القسمة... وهذه هي التي لم أنجح فيها.. وهي التي كنت أبسط يدي ليضربني بالمسطرة السيد حسين طه رحمه الله.
وضحك عمي عندما رأى ارتباكي في عملية (القسمة) ثم ترك الورق كله ونهض ونهضت معه أمي وهو يقول:
:ـ الله يختار ما فيه الخير... أظن أنك من الناجحين إن شاء الله.
والتفتت إليّ أمي وأخذت بيدي إلى الحمام. وبعد الاستحمام بالماء الدافىء مشت معي إلى فراشي وبعد أن استلقيت جلست على طرف السرير، ومسحت رأسي بيدها، وحين رفعت نظري إلى وجهها ـ رأيت في عينيها دموعاً واحمراراً وأذكر أن هذه ربما كانت المرة الاولى بعد زواجها التي جلست فيها على حافة السرير بجانبي ومسحت رأسي، وامتلأت عيناها بالدموع... وقبل أن تنهض انحنت على وجهي وقبلتني قبلات متعددة على جبهتي، وخدي... ومشت عني... وعنقها يلتفت إليّ وهي تقول:
:ـ تصبح على خير.. ورفعت كفيها إلى السماء.. وهتفت..
يا رب.. يا رب
ولعلّ من أغرب تصرفات المرء أن يغلبه التفكير والاهتمام بما هو مقدم عليه، فينام بدلاً من أن يسهر... إذ فوجئت بأمي رحمها الله هي التي توقظني مع ضوء الفجر وقد وجد مجاله في الغرفة التي أنام فيها.
أخذتني هذه المرة بيدها ووقفت تراقب وضوئي للصلاة وهي تكرر كلما أتممت حركة مثل غسل اليدين إلى المرفقين... تكرر... تمام.. تمام
وبعد الصلاة كان الذي يغمر ذهني وأذهان من في البيت جميعهم الذهاب إلى الامتحان.
وقبل أن يخرج عمي إلى عمله في المستشفى العسكري وموقعه يقابل البيت الذي تسكنه.. أعطى اسماعيل تعليمات اصطحابي إلى المستشفى والغرفة أو المكان الذي يأخذني إليه..
كان مما أمتلكه من بقايا أيام الدراسة مرسمة وقلم بوص أتمرن به على مادة (حسن الخط)... وقد حرصت أن يكون في جيبي... ومشيت مع عم اسماعيل ويدي في يده ودخلنا بوابة المستشفى الكبيرة، وما هي إلا خطوة أو اثنتين، حتى رأينا (فهمي الحشاني) الذي كنت أعرفه وأعرف أنه يعمل (مضمداً) أو مساعد مضمد في المستشفى... وقف مندهشاً وهو يسأل عم اسماعيل:
:ـ مجروح؟... مضاربة؟
ولم يقل عم اسماعيل شيئاً لأنه لا يجيد العربية ولكنه استطاع أن يسأل فهمي:
:ـ إمتهان... إمتهان فين؟
والتفت فهمي إليّ وهو يقول:
:ـ أنت جي للامتحان.. تبغا تروح معانا مدرسة الطب.
:ـ ايوه أنا جي للامتحان... وإن شاء الله اروح مكة إلى مدرسة الطب.
:ـ بس إنت صغير يا عزيز... يمكن ما يقبلوك.
ولم أجد جوابا... ولم يقل من جانبه شيئاً ومشى أمامنا إلى ساحة مشجرة فيها أبواب غرف عديدة وقف عند أحدها... وطرق الباب، وما كاد يفتح حتى دخلنا هو وأنا بجانبه لنرى مجموعة من الذين فهمت أنهم يريدون الذهاب إلى مدرسة الطب وقد جاءوا للامتحان.. كانوا جميعاً جالسين على كراسي مصفوفة على طول القاعة، وكان في صدر القاعة باب مغلق يقف عنده عسكري... صامت ينتظر أن يؤمر.
وما هي إلا دقائق حتى فُتح الباب، وكان الذي فتحه رجل كبير في السن، عرفنا فيما بعد أنه (المحاسب) وهو الذي يتولى امتحاننا في الحساب.
* * *
وانتهى الامتحان...بدخولنا واحداً بعد الآخر... وربما كنت الخامس أو السادس ـ وكالعادة كان كل منا يسأل الآخر بماذا أجاب... وكيف كان امتحان الحساب.؟؟ وكان هذا الامتحان بالذات هو الذي جعل أكثرنا يشك في النجاح؟
وكان الذين نجحوا ـ وأنا منهم ـ أربعة وعشرين شخصاً... لابد أن نسميهم طلاباً.. عرفت منهم عبدالحميد ابو الطاهر، وكان زميلي في المدرسة الراقية ـ ولكنه ظل في القسم التأهيلي عندما انتقلت إلى (أولى راقية)... ولم يكن الفارق في العمر بيني وبينه كبيراً.
كما كنت أعرف فهمي الحشاني بطبيعة عمله في المستشفى.. ولم يحدد لنا يوم السفر إلى مكة.. ولكن قال لنا المحاسب.. وهو يعرف العربية بدون لكنة تركية.. قال:
:ـ جهزوا أنفسكم.. كل واحد لحاف ومخده وبطانية ـ وأكل) بقسماط، وجبنه، وحلاوة طحينية وكمان رز وعدس ودلة سمن ـ لابد كبار السن منكم يعرفوا يطبخوا... أو تفضلوا تأكلوا النواشف إلى أن تصلوا مكة... ولا تخافوا من المشي في الليل. ترى الطريق أمان... ما عاد فيه اللي يقطعوا الطريق.
ولم يطل انتظارنا ليوم السفر فقد استيقظت أحد اصباح أيام الانتظار هذه لتقول لي (أمي بشرى) وعينها دامعة..
:ـ هيا يا عزيزي شوف الجمال... والشقادف مرصوصة قدام باب المستشفى.. يعني اليوم يمكن تسافروا بإذن الله.
وكانت قد لفت رحمها الله اللحاف والمخدتين والبطانية في سجادة عجمي (اذكر أني ظللت احتفظ بها إلى أيام الشباب ثم لا أدري الآن كيف فقدتها).
ودخلت أمي متجهمة عابسة وهي تقول:
:ـ يعني على هادى الجمال وفي الشقادف من هنا إلى مكة.
:ـ. لكن يا ستي كيف يروحوا مكة... كل الحجاج اللي يزوروا المدينة بالجمال والشقادف، ويسافروا كمان بالجمال والشقادف.
وهنا لاح على ملامح أمي مشروع ابتسامة وانفراج حيث قالت:
:ـ إيوه يا بشرى... أنا ما أنسى الجمل اللي ركبناه من ينبع أنا وعزيز نطَّاطي.. إلى المدينة... إلى بيتنا في زقاق القفل...
إيوه يا عزيز في الشقدف، وعلى الجمل إلى مكة بالسلامة إن شاء الله.. ولما ينادوك عشان تركبوا.. عمك إسماعيل يشيل هادي اللفّة... وكمان الأكل اللي يكفيكم... وكمان فيه رز وعدس وعُكه صغيرة فيها السمن وكيس صغير فيه دقيق، وهذا غيرالبقسماط بالسمن والشاهي والسكر.. وكل شيء.
وهنا تدخل أمي بشرى تقول:
:ـ لكن فين؟... فين يشيل هادا كله... وهوّه يعرف يطبخ؟
وأجابتها أمي تقول:
:ـ عمّه ربنا يخليه وصىّ عليه فهمي الحشاني وأنا أعرفه وأعرف بيت الدهبي اللي متزوج أمه... وهو ولد طيب وكمان بيشتغل مضمد في المستشفى.. فهمي هو
* * *
وعندما سمعنا أذان صلاة العصر، كنت على أهبة الاستعداد للسفر... كان عمي واقفاً على تراس المستشفى يلاحظ وضع (الشقادف) على الجمال... كانوا فيما أذكر اليوم أثنا عشر جملاً وعلى كل جمل شقدف... وكان لابد من بسط ارضية الشقدف باللحلف والمخدة والبطانية ووضع (الخرج) على ما عرفنا ـ فيما بعد ـ أنه يسمى (الِوسْق) وهو ظهر الجمل الذي يفصل بين جناحي الشقدف الذي يرتفق كل من الراكبين جناحاً منه، ثم هناك قِرب الماء (جمع قربة) تعلق على الجانبين تحت كل جناح من الشقدف.
كل هذا كان يحدث وأنا أشاهده من الشباك بين أمي ـ وأمي سعدية ـ ونخبة من السيدات صويحبات أمي، ومنهن مريم والخالة زبيدة وأمها ـ أم الفرج ـ التي جاءتني بأختي بعد ولادتها لأقوم بأرجحتها حتى الصباح.
* * *
وهنا كان أغرب ما يدور بذهني بل ويهزني.. وهو أني سأمشي بالجمال في نفس الطريق الذي مشت فيه (الحبيبة) التي قلت أني ظللت أبكي رحيلها أياماً وليالي عندما سافرت مع أبيها وأخيها وأمها. أجل هذا هو الطريق الذي مشت بها الجمال فيه.. كلاّ. لم يدر في خلدي خيال سخيف أني يمكن أن أراها فقد رحلت منذ شهرين أو ثلاثة ولكن لاشك أني سأرى جميع المناظر التي وقعت عليها عيناها.. عيناها... ألا ما كان أجمل عيناها... الأهداب التي تصل إلى الوجنتين عندما تغمضهما... وتلقى ظلا على وجنتيها الورديتين عندما تفتحهما وتنظر إليّ، ونحن نتحدث إلى بعض بعد الغروب حيث تسمح لها أمها بأن تظل مع أخيها نلهو بالحكايات التي نسمعها من (أمي بشرى) وأحياناً من (أمي باجي) الطاهية بلكنتها التركية التي نفهمها ونستغرق في الضحك حين تصف لنا بعض القردة التي كانت تشاهدها في سراي (الباديشاه) أو حين نحاول لعبة (الضومنة) التي تعملنا بعض قواعدها من الكبار..
وهنا لا أدري لم ظلّ يدور في نفسي سؤال عن سبب سفرهم؟؟ وكان منطقي المحدود أنهم يسافرون إلى إستامبول، لأن الأم تركية... والأب سوري فلابد أنهم ذهبوا إلى هناك... ثم لحظات الفراق كانت لها مقدمات هي التي ماتزال تحيا في ذاكرتي حتى اليوم... فلقد باعوا كل ما في منزلهم من أثاث سوى أفرشة النوم... ولذلك فقد قرروا أن ينام الأطفال عندنا... كانت فرحتنا لا توصف... كنا نعلم انهم يسافرون غداً، ولكن أن نقضي هذه الليلة معا كان حادثاً... كالحلم. قضينا الليل كله تقريبا نلهو، نركض هنا وهناك... ومن العابنا ما يسمى الآن (الأستغماية)... لقد حدث أن كنت مغمض العينين... وكانت هي التي أمسكتها... ولا أدري بأي شعور ظللت ممسكاً بها ولفت هي ذراعيها حول اكتفي وعنقي... ثم قبلتني في وجنتي... وقبلتها بشراهة واستغراق ولهفة... وعندما وقف كل منا بعيداً عن الآخر مسافة قصيرة... رأيت في عينيها دموعاً وتدفقت من عيني دموع... وسمعتها تقول:
:ـ بكره... خلاص؟!
:ـ إيوه... بكره خلاص.
وذهبت إلى فراشها بجانب أخيها... اضطجعت على فراشي بجانبه الآخر، فهو بيننا... وساد بيننا الصمت حين أطلت أمها... وهي تقول بالتركية ما معناه..
:ـ ناموا... لأن غداً هو يوم السفر.
وسمعتها مرة أخرى تقول:
:ـ بكرة خلاص؟!
ووجدتني أنا وأخوها نقول معاً:
:ـ إيوه... بكرة خلاص.
* * *
وطالت لحظات وداع أمي والسيدات صويحباتها... وقد أدهشني ـ حتى اليوم ـ أن (أمي بشرى) هي التي كانت تبكي مع الأخريات، أما أمي فقد كانت متجهمة، وكأنها عابسة: وعندما عانقتني عناقاً طويلاً وأخذت تقبلني ثم تتركني لأهبط فالحق بالجمال وعليها الشقادف، والعم إسماعيل واقف وخطام أحد الجمال في يده... تركتني ورفعت وجهي بين يديها وهي تقول:
:ـ إنت رجّال... ومن زمان وأنت رجّال... هيا روح وفي أمان الله.
* * *
وأناخ الجّمال الجمل الذي كان يمسك العم إسماعيل بخطامه، وكان يقف بجانبه الأخ عبدالحميد أبو الطاهر ـ فعرفت أننا معا في هذا الشقدف لأننا متقاربان في السن والوزن.
ثم أنهض الجمّال الجمل وهو يقول
:ـ أمسكوا في (الوسْق).
ووقفنا لحظات... رأيت خلالها عمي واقفاً مع فهمي الحشاني ويدفع له كيساً صغيراً من الأكياس التي توضع فيها النقود تلك الأيام.
ورفع عمي يده وهو يبتسم ـ ورفع صوته يقول:
:ـ في أمان الله... خليك شاطر زي ما أعرفك.
:ـ إن شاء الله إن شاء الله.
وعند الغروب مشت بنا القافلة خطواتها إلى مكة المكرمة.... إلى مدرسة الطب..
 
طباعة

تعليق

 القراءات :775  التعليقات :0
 

الصفحة الأولى الصفحة السابقة
صفحة 79 من 86
الصفحة التالية الصفحة الأخيرة

من ألبوم الصور

من أمسيات هذا الموسم

الدكتور سعد عبد العزيز مصلوح

أحد علماء الأسلوب الإحصائي اللغوي ، وأحد أعلام الدراسات اللسانية، وأحد أعمدة الترجمة في المنطقة العربية، وأحد الأكاديميين، الذين زاوجوا بين الشعر، والبحث، واللغة، له أكثر من 30 مؤلفا في اللسانيات والترجمة، والنقد الأدبي، واللغة، قادم خصيصا من الكويت الشقيق.