الفصل الأول |
الإحساس بالسعادة، بالنسبة لأي طفل في حوالي العاشرة من العمر لابد أن يكون نتيجة للنقيض من مشاعر البؤس، أو على الاقل مشاعر الحرمان من المباهج المألوفة لدى الآخرين في سنّه. وحين أقول اليوم، إن الفترة القصيرة التي قضيتها تلميذاً في تلك المدرسة (الراقية الهاشمية)، التي أخذتني إليها أمي ذات يوم بعد استئذان الشيخ العريف محمد بن سالم... إن هذه الفترة كانت هي التي أحسست فيها بالسعادة، بمفهوم يختلف كلياً عن الاحساس بها في تلك المراحل التي بدأت يوم نقلنا قطار التهجير من المدينة المنورة، إلى تلك المدن من (الشام)، لنعايش (الجوع، و (الحرب)، ورحيل الأهل واحداً بعد الآخر، بحيث انتهت الرحلة إلى العودة مع الأم، على (جمل)، تستوقفه في ساحة ما كان يسمى (الإستاسيون)، لتتوضّأ، وتصلي ركعتي الفجر، ثم تلصق وجهها بالتراب فتعلق منه ما يملأ فمها.. وترفع يديها وهي تردد (الحمد لله)... وأتجاوز الواقع، لو قلت إني فهمت يومها أو لحظتها السبب الذي جعلها تحمد الله على انها لعقت من تراب الأرض في ذلك الصباح، ولكن اليوم... ونحن نشهد متناقضات، قضية الانتماء إلى الأرض، أجد من حقي أن أقول إن ما فعلته أمي... ان تصرفها الذي لم أفهم منه شيئاً، في تلك اللحظات من الفجر، هو (الجوهر) من مضمون الانتماء إلى الأرض.. لقد دفنت في حَلب وقبلها في حماه من مدن (الشام)، من تُوفي من أهلنا، ولاشك أبداً، في أنها قد أيقنت أنها عندما تعود إلى المدينة، لن تجد في البيت، أحداً من أولئك الذين أُهيل عليهم التراب هناك... ـ وهي قد شهدت الموتى الذين تساقطوا على الأرصفة وعرض الشوارع في حلب، وشهدت رؤوسهم وأقدامهم مكدسة في تلك العربات، تنقلهم إلى حيث يهال عليهم التراب، دون أن يبكيهم أحد، أو يمشي في جنازتهم مخلوق. |
ورغم كل ذلك وطوال الفترة، التي لم يعد هناك أي شك لدى الناس، في حلب)، وفي غيرها من مدن الشام، ان الأشراف الذين ثاروا على الدولة العثمانية، ووراءهم الإنجليز قد انتصروا، وأن فلول الجيش التركي تتخلى عن مواقعها، متجهة إلى المدن التركية المجاورة.. وعلى الاخص بعد أن وقّع مصطفى كمال وثيقة أو وثائق الموافقة على التخلّي عن آخر موقع كانت تحكمه الدولة العثمانية ـ من الأرض العربية... رغم أن أمي بالذات لم تكن تجهل، أن المدينة المنورة قد أصبحت تحت حكم الأشراف، ولم يبق فيها للدولة العثمانية أي أثر، فقد عاشت حلمها الذي لم تستيقظ منه، إلا في تلك اللحظات التي صلّت فيها ركعتين صلاة الفجر، ثم أزاحت عن وجهها الحجاب وهي تسجد ثم تلعق التراب من الأرض، ثم تنهض وترفع يديها، وهي تردد: (الحمد لله... الحمد لله). |
والسعادة التي أحسست بها في الفترة القصيرة، التي قضيتها في تلك المدرسة هي سعادة الإحساس بأني بدأت مرحلة جديدة في الحياة... وأهمها أني أصبحت في عداد هؤلاء التلاميذ الذين كان بينهم من يكبرني سناً، ولكني لا أقل عنهم نشاطاً، وممارسة لكثير من تصرفات (الشقاوة)، التي نبرع في اخفائها والتستر عليها فلا نتعرض لمثل تلك (العلقة الرهْيبة)، التي أكلناها جميعاً بسبب تلك العقربة، التي قام بلعبتها (أبو الفتوح)، ومارس مثيلاتها، مع بعض الزملاء، إذ كان يخرج من جيبه صرصاراً حياً يضعه على ظهر أحد الزملاء، فلا يكادون يرونه حتى يتسابقون إلى إزاحته، ولكن بخفق ظهر الزميل مع عاصفة من الضحك.. وقد يشكو الزميل هذا الموقف إلى (المراقب)... فإذا سئل أبو الفتوح، كان ينكر اللعبة، ويطلب ما يثبت الدعوى... ولا سبيل... إذ يكون الصرصار، قد قتل ودهسته الأقدام، أو اختفى، وهو يهرب من الأيدي الهاوية على ظهر الزميل. |
ولم يكن يسعني ـ في تلك السن ـ أن أدرك شيئاً من الهمس الذي أخذ يدور بين كبار التلاميذ خلال ساعة تناول وجبة الغذاء، عن الأخبار التي يسمعونها من البدو الذين يجيئون بقوافل السلع من ينبع، أو غيرها... وهي عن (مناوشات) بين قبائل الشريف، وقبائل أخرى، وعن مواقع. في مكان ما، اسمه (تربة)... ولم تكن هذه الهمسات، تخلو من كلمة (حرب)... |
وكلمة (حرب) هذه هي التي لا أجهل انها التي عشت طفولتي معها منذ ذلك الصباح الذي خرجنا فيه من بيتنا في زقاق القفل، إلى (البابور). إلى أن عدنا (أمي وأنا) وقد فقدنا كل الذين دُفنوا من الأهل في حماه وحلب من أراضي الشام... |
ومع ذلك فان الكلمة نفسها قد لا تعني شيئاً مما أعرف، لأني أصبحت أعرف أيضاً أن من قبائل البدو، حول المدينة قبيلة اسمها قبيلة (حرب)... فلعل الكلمة التي سمعتهم يتهامسون بها هي عن هذه القبيلة، التي كثيراً ما ترددت أخبار قطعهم الطريق على الحجاج الذين يقدمون من مكة لزيارة المدينة المنورة. |
ولكني ـ مع ذلك ـ تساءلت،: (من أين لكبار التلاميذ هذه الأخبار؟؟)... ولم يكن صعباً أن أدرك انهم يسمعونها من آبائهم... من أهلهم... ما الذي يمنع أن أسأل أنا أيضاً (عمي) الذي كنت أرى أن ضيوفه من رجال يبدون من مظهرهم وأرديتهم المتميزة، انهم من (الكُبارية) كما يسمون في المدينة المنورة؟؟؟. |
ومع انه رحمه الله، لم يكن يضيق ببعض ما أتحدث به عن المدرسة، والأساتذة، فإن ما رسّختْه أمي في نموذج سلوكي معه، ومع الكبار، هو أن ألتزم الصمت المطبق إذا كنت في مجلسهم... ولا أفتح فمي بكلمة واحدة، إلا إذا طلبوا مني أن أقول شيئاً عما يبدو لهم أن يسألوني عنه من مواضيع تافهة، مثل تواجد (الخِربزْ، والضِّميري) في سوق الخضرة؟ وعمّا إذا كنت أرى أحداً من أبناء أحدهم في المدرسة... وقد يكون السؤال الأهم، هو عما إذا كنت قد مُنحت شهادةً من الشهادات التي تمنح للمتميزين في دراستهم كل يوم خميس؟ وهي (التلطيف... والتحسين... والإمتياز) إلخ... وكان عليّ أن أجيب باختصار، وبصوت خفيض مراعاة (للأدب) في مجلس الكبار). |
وأمام هذا الحشد من (الأصول في آداب السلوك)، ومع ما ظل يدور في نفسي عن تلك الأخبار التي يتهامس بها الكبار من التلاميذ في قاعة تناول وجبة الغذاء، لم أجد بُدّاً من أن ألتمس مساعدة أمي... فهي التي تستطيع طبعاً أن تسأل عمّي، أو أن تنصحني بالطريقة التي أتقدم إليه بالسؤال. |
ولم تخيب أمي رجائي في محاولة اكتشاف الموضوع الذي يدور حوله التهامس، وفيه كلمة (الحرب)، حيث قالت، بعد أن حذرتني من أن أخوض في مثل هذه (المسائل)، لا في المدرسة ولا في غيرها... قالت:ـ |
:ـ. الناس بيقولوا، انّو فيه حرب، بين الشريف في مكة، وبين قبائل من الشروق اسمهم المتديّنة... اللي الناس بيقولوا كمان، إنهم من زمان دخلوا المدينة وقعدوا فيها سبعة سنين، وما خرجوا منها إلاّ لما جاتهم (شوطة) الجدري... |
:ـ. يعني هادول يمكن همّه اللي بيحاربوا الشريف في مكة... ويمكن يجوا المدينة كمان؟؟ |
:ـ. فال الله ولا فالك... قول الله لا يقدر. |
:ـ. ليه؟؟؟ همّه يخوفو كثير.. |
:ـ. الحكاية اللي سمعناها عنهم تخوّف كتير... قول: الله لا يقدر. |
وقلت: (الله لا يقدّر) كما طلبت. وفي صوتها هزّة رعب وتخوّف... واكتفيت بهذه المعلومات فلم أحاول أن أسأل عمّي عن شيء. قدرت انه من المسائل التي لا يجوز للصغار أن يخوضوا فيها. ولكن لم يطل انتظاري وجميع تلاميذ المدرسة لمعرفة حقيقة هذه الأخبار، إذ فوجئنا يوم الخميس بحمزة سليم، ينبّه علينا بأن نخرج من الفصول قبل الموعد المعتاد، وأن (نصطف) في الفناء بمجرد سماع (الصفيرة)... والسبب هو ان (مدير المعارف) بنفسه سيحضر ليرى جمع التلاميذ، وينصحهم. |
ولم نكن قد سمعنا عن (مدير المعارف)... ولم يسبق أن رأيناه، لأن مدير المدرسة هو السيد حسين طه (للراقية والتأهيلي) والسيد ماجد عشقي (للتحضيري). |
وسمعنا (الصفيرة)، وأخذنا نتدفق إلى الفناء، ونصطف صفين متقابلين، وهو المألوف في كل يوم خميس. وهناك (المراقب)، وإلى جانبه (حمزة سليم)... ووقفنا ننتظر بضع دقائق، لنرى السيد حسين طه، والسيد ماجد عشقي، يتقدمان الأساتذة، أحمد صقر، ومحمد صقر، ومحمود الحمصي... ويصطفون هم أيضاً في نهاية الفناء، في انتظار هذا المدير الذي هبط من الدور العلوي، ومشى نحو صف الأساتذة، حيث أفسحوا له مكاناً متوسطاً بينهم. |
كان واضحاً أنه شخصية متميّزة... بعمامته البيضاء، ولحيته التي وخطها الشيب وجّبته السوداء على ثوب أبيض... ولست أدري حتى اليوم كيف أصبنا جميعاً (بحبسة أنفاس) فالتزمنا الصمت، وعدم الحركة، وأبصارنا معلّقة بشخصه. إلى أن بدأ يتكلم بصوت ضعيف، ولكنّه مسموع،... |
كان يتكلم بالفصحى ـ كأنه يقرأ كلاماً مكتوباً ـ وكان كلامه عن ان المدرسة (يمكن أن تغلق أبوابها، ولكن بعد الامتحانات... وان جميع التلاميذ ـ في التحضيري والتأهيلي والراقية ـ يجب أن يستمروا في مذاكرة دروسهم في بيوتهم، ويمكن أن يراجعوا أساتذتهم، في بيوتهم أيضاً... وأضاف: |
:ـ حتى أنا موجود في بيتي ويمكن أن تراجعوني إذا كان الأستاذ مشغولاً، أو غائباً عن بيته. وما كاد ينتهي من كلامه حتى ارتفع صوت حمزة سليم بأمر (احترِمْ)... والاحترام أن نؤدي تحية عسكرية متقنة كأننا جنود. |
ثم ارتفع صوته مرة أخرى بأمر (انصراف إلى الفصول)... |
فتفرقنا، وانصرفنا إلى فصولنا... وكنت في الصف (التأهيلي) وهو في الدور العلوي... ومن زملائي الذين لا أنساهم، السيد عبدالرحمن طه، والسيد عبدالهادي برزنجي، والسيد ماجد مدني والسيد يوسف مدني، والسيد هاشم أو (ماجد) برّادة... ولم يكن أبو الفتوح إلى جانبي في التأهيلي، ليس لأنه رسب أو رفت، بل لأنه أباه (كان ناظر التكية المصرية) أمره بأن يظل في البيت ـ في هذه الأيام؟! |
وبدأنا نتساءل عن (الحكاية) ؟؟. ماهو السبب... فاقترح أحدنا أن نسأل (الكبار) وهم تلاميذ الراقية، الذين كنا نسمع ما يتهامسون به في قاعة وجبة الغذاء. |
من جانبي... لا أخفي أني فرحت جدّاً، بأننا نستقبل أيام عطلة طويلة، لأن مدير المعارف، لم يحدد اليوم الذي تفتح فيه أبواب المدرسة... وكانت في ذهني (لعبة) (الكبوش)... إلى جانب (التزقير) ـ التي لا أشترك فيها لأني دون السن ـ ثم (لعبة البربر) و (الكَبَتْ)... وكلها كانت أمي تسمح لي بأن أمارسها، (في العصر) إلى أن نسمع صوت الأذان في المغرب... فأسرع إلى البيت، وفي حسابي، إنها ـ رحمها الله ـ تنتظرني لتقوم بعملية تحميمي... وهي العملية التي أحمل همّها طوال ساعات العصر واللعب، لأنها كثيرا ما يصاحبها مصع الأذنين... وحتى التهديد بالضرب بما يسمى (سيف المنسج) الذي تضعه إلى جانبها... وكل ذلك حين ترى قَدَمَيّ وساقَي، وقد غمرها التراب والوحْل من أرض الشارع، وعلى الأخص إذا كانت الساحة الصغيرة أمام كل بيت، قد (رُشت) بالماء كما هي العادة للتخفيف من تصاعد الغبار... وهي مهمة تقوم بها (الجواري) في الغالب. |
أمّا (القشاع)، بين (عيال) الساحة التي نسكن فيها، و (عيال المناخة) فهو مرحلة لابد أن أروي تفاصيلها، وطريقة ممارستي لها ـ ومعي أختي التي كانت شديدة الذكاء، وكانت رغم صغر سنها عني، تجد ألف طريقة لتخرج معي يوم (القشاع)... ولكن لابد من إرجاء هذا الحديث عنا إلى أن نصل إلى مسيرة الأحداث، بعد ذلك اليوم الذي أعلن فيه (مدير المعارف) خبر، أو أمر إغلاق المدرسة أبوابها، إلى أجل غير محدود. |
ومع هذه الفرحة بالإنفلات واللعب، الذي أعددت نفسي له، وجدت نفسي مشغول الذهن بسبب إغلاق أبواب المدرسة، التي سبق أن قلت إنها التي أحسست في أيامها بتلك السعادة وأعني سعادة الخروج من مرحلة الطفولة إلى مرحلة تقترب من الرجولة، ومن أن تكون لي شخصية غير شخصية الطفل الذي تدللـه (أمي باجي) والدادة (مَنَكْشة) والذي ينتظر في الحديقة الصغيرة (بنت المنور)، وقد تطورت علاقتي بأسرتها إلى حد أن لا يفوتني دائما عشاء (الرز الأبيض وسلطة الخل المملح، والفلفل الأخضر). |
وما كدت أدخل المنزل في ذلك اليوم، حتى أسرعت إلى أمّي أقص عليها كل (الحكاية) وأخبرها أن المدرسة سوف تغلق أبوابها بعد الإمتحانات التي لا تتأخر عن أسبوعين قادمين... وأن الذي أخبرنا بذلك هو (مدير المعارف) بنفسه.. ولم أغفل أن أصف هذا المدير وشخصيته المهيبة وحكاية أننا وقفنا صّفين في فناء المدرسة الخ.. |
استغربتْ من جانبها، وعلقت بكلمة واحدة هي:ـ |
:ـ. لازم فيه شي... ولمّا يجي عمك يمكن نفهم منّو |
وجاء عمّي في موعده المدد، على حصانه الأبيض... وصادف أني كنت في طريقه إلى الدور العلوي من المنزل... فمسح رأسي بيده، وهي حركة الحنو التي تعودتها منه... وعلى مائدة الغذاء فتحت أمي الموضوع، وفي صوتها رنّة استغراب ودهشة... وقد فتحت من جانبي أذنيّ متلهفاً على اكتشاف هذا الحدث، الذي لم أستطيع أن أعرف له سببا. |
|