أمي توشك أن تضع طفلا.. |
كانت الأحاديث الهامسة التي أخذتُ اسمعها تدور بين (مَنَكْشة) و (أمي باجي) بالتركية التي لم يعد يصعب عليّ فهمها، عن أن أمي سوف تضع طفلاً، وان البحث جارٍ عن (داية) يعتمد عليها بمعرفة المستشفى العسكري... كانت هذه الأحاديث تلعب أو تعبث بمشاعري، ولعليّ لا أخفي اليوم أن أهم وأقسى ما كان يجعلني أتَلوّي، وأتاوه من صدرٍ مشحون بالمخاوف والهواجس، وهو (قلب) أمي، الذي لم أنس قط، أني كنت الوحيد فيه، ثم جاء زواجها فشاركني فيه هذا الرجل الذي تعودت أن أسميه (عمي)، والذي كثيراً ما أحسست أن ما يحيطني به من رعاية وعطف وحنان يفوق ما أجده عند أمي نفسها، ولكن الآن، وهذا الطفل القادم خلال شهرين، أراه مستقراً في بطنها المنتفخ، فكيف يعقل أن أظل الوحيد في قلبها؟؟؟ لا شك انه الذي سوف يزيحني عن هذا القلب، ليستقر هو وحده فيه... ولم يكن يسعني أن أدرك أنه سوف يكون أخي... وهنا تعود بي الذكرى إلى أخي ـ عبدالغفور ـ الذي مات في حماه... وفي هذه الذكرى انها قد بكته كثيراً، وحزنت لفقده، بل بلغ بها الأمر أن أغضبت والدها ـ جدي ـ (أحمد صفا) ـ لأنه قسا عليه، حين ضاق ببكائه وعويله، قسوة، اعتقدتْ أمي أنها كانت السبب في موته... وأجد نفسي أتساءل:ـ ترى ما الفرق بين عبدالغفور، وبين هذا القادم بعد شهرين... كلنا نجيء من بطنها... وأقرر بما يشبه محاولة التخفيف من وقع الهواجس، أن الذين يجيئون من بطن واحدة اخوان على كل حال، فما الذي يخيفني أو يشحن صدري بهذه الهواجس والأفكار... ثم كان مما استغرب له اليوم، اني لم أجرؤ على أن أسأل أمي نفسها عن صحة ما يدور من أحاديث هامسة بين مَنَكْشة و (أمي باجي)... وليس ذلك لأني لم أكن أصدق أنها ستلد هذا الطفل، وإنما على الأقل لاكتشاف شيء لم يسبق لي قط أن أسأل العجوزين، لأني قدرت انهما لا تتهامسان أمامي، وباللغة التركية التي تحسبان أني لا أفهمها، الا لأنهما قد أُمرتا بأن تخفيا عني هذه الأخبار.. |
وفي هذه الأيام، ـ بعد دخول المدرسة بعد الكتاب.ـ ومع هذه الهواجس اعتدت أن أطيل الجلوس في الحديقة الصغيرة وقتاً يطول، إلى أن أسمع آذان صلاة المغرب، ويدهشني أن يغيب عني محيا الفتاة التي سميتها بيني وبين نفسي (بنت المِنْور).. وهي بنت الخالة (أم الفرج)... ولكن في يوم من هذه الأيام، وأنا في مكاني في الحديقة، ومع هواجسي ومخاوفي أشرق وجهها في (المِنْور)... وقد بدا عليه الذبول والاعياء... سألتها: |
:ـ. انتى فين من زمان ما اشوفك؟؟؟ |
:ـ. أنا كنت وجعانة.. وما قمت من الفراش الا اليوم.. |
:ـ. ثم، قبل أن أقول شيئاً قالت: |
:ـ. اسمع... ليه ما تجينا تشوف أخويا على.. وتلعب معاه، بدل ما تقعد لوحدك؟؟ |
وابتهجت للدعوة.. وأسرعت أقول: |
:ـ. طيب.. بس لازم أقول لأمي... يمكن ما ترضى. |
:ـ. إيوه أخبرها... وما تقول (لا).. هيه جاتنا مرتين وأنت في المدرسة. |
ولم أفكر طويلاً أو أتردد، بل نهضت من مكاني.. وأسرعت إلى أمي.. وأخبرتها اني أريد أن أذهب إلى بيت (الخالة أم الفرج) لألعب مع ابنها (علي). |
ولكم كان سروري وفرحتي بما سمعتها تقول: |
:ـ. طيب.. روح.. يودَيِك اسماعيل... ولما تبغا تيجي.. خليهم ينادوا اسماعيل من (المِنْور). |
ومع اسماعيل خرجت، وكان بيت (الخالة أم الفرج) في عطفة نستدير معها إلى باب البيت. وقد وجدنا الباب مُشرعا... وفي الدهليز تلك (المِسْرجة) التي توضع عادة لاضاءة الطريق لمن يجيء ويدخل من الباب... ولا أدري كيف أحسُّوا أني جئت فإذا بها هي، وإلى جانبها علي يستقبلاني عند أول السلالم إلى الدور العلوي. وفي المجلس الذي مشيا معي اليه، كانت الخالة (أم الفرج).. واثنين من أبنائها الكبار.. أكبرهم عرفت فيما بعد أن أسمه (حمزة) وهو الذي يعول أمه وأخويه وأخته... ويصعب أن أتجاوز وصف هذا المجلس، فقد كان ما فيه من أثاث حنبل مترىء، وطوَّالتين ومساند في أغلفة ممزّقة من الدُّمُسك القديم.. كانت الخالة، والأبناء حول طبلية من الخشب، عليها صينية مملوءة بالأرز المطبوخ... وعدد من الأرغفة... وكوم من الفلفل الأخضر... ووعاء فيه سلطة مكونة من (الخل) والفلفل والملح... وما أسرع ما عادت بي الذكرى إلى أيامنا ـ أمي وأنا ـ في حماه وحلب... وفي حلب بالذات التي عانينا فيها من الجوع إلى الحد الذي كنا لا نأكل معه الا تلك الوجبات من خبز الشعير والِكرْسِنّة نغمس اللقمة في عصير الرمان الحامض والملح، التي يسمونها (زنَّانة).. وقبل أن أسمع كلمة من الخالة (أم الفرج)، كنت أجلس وإلى جانبي (بنت المِنْور) ومن الجانب الآخر أخوها (علي)، والعجيب اني لم انتظر أن يعزموا عليّ بالأكل بل أخذت أطرف ملعقة ملأتها بذلك الأرز.. حشوت بها فمي... ثم ملأتها من (السلطة)... سلطة الخل والفلفل... وشرعت (أبُلِعْ) بها لقمة الأرز... وحين رأيتهم يأكلون (الفلفل الأخضر) مددت يدي وأخذت أقضم منه... وأستمر في الأكل... وكأني لم أذق طعاماً ألذ وأشهى من هذا الطعام... لاشك في أنهم قد دهشوا، لاقبالى على الأكل بهذا النهم... وليس في ذهن أحد منهم أنى آكل ذكريات أيام الجوع التي عشتها في حلب... وانى مع كل لقمة استعيد الكثير من مراحل تلك الحياة، وانى أحن اليها وكأني أتمنى أن تعود... وان لا أفارق يد أمي، حين تخرج معي لقضاء حوائجها، ثم صدرها في فراشنا، في تلك الليالي، التي تدوى فيها وتزلزل البيت أصوات الانفجارات والمدافع ومعها زخات الرصاص التي لا تتوقف طول الليل... وانتهى العشاء، ونهضت (بنت المِنْوَر) ورفعت ما على الطبلية... ونهض علي، ورفع الطبلية نفسها... وأخذت مجلسي، أخيراً بجانب الخالة: (أم الفرج).. التي أخذت ترحب بي، وتسألني عما إذا كان (اكلهم) قد أعجبني وقبل أن أجيب قالت (بنت المِنْوَر) |
:ـ. ايوه يا أمي الأكل عجبو... أنا شفته بياكل الفلفل... لَهْلَبْ فَمُّه.. ولكن برضه كان بياكل.. |
وهنا فقط تكلم (حمزة) ليقول: |
:ـ. مادام الأكل عجبك... هادا أكلنا وعشانا كل يوم... تعال واتعشى معانا... وشوفنا كلنا فرحانين بك. |
ولم أعرف بماذا أجيب... ولكني ماازال أذكر حتى اليوم.. اني جعلتها عادة ان انتهز فرصة انشغال أمي بزائراتها، بين وقت وآخر، لأخبرها أني ذاهب إلى بيت الخالة (أم الفرج) فتأذن لي... فانطلق وحدى... وأتناول ذلك العشاء الذي لم يتغير قط... الأرز المطبوخ بقليل جداً من السمن... وسلطة (الخل والفلفل)... والفلفل الحراق الأخضر... الذي يلهب فمي وحنجرتي، ولكني أجده ألذَّ ألف مرة من كل ما في البيت من ألوان تجيد طهوها (أمي باجي)... ولا أستطيع التعليل حتى اليوم... أتراها الذكريات، التي أعيشها من جديد مع هذه الوجبات البسيطة أم هي (بنت المِنْور) التي استردت عافيتها فأشرق محياها بجمال أعترف انه قد أنساني (بدرية) بل أنساني حتى الآخريات اللائي كن يزرننا مع أمهاتهن (الهوانم). |
ولا أحتاج أن أقول إني لم انقطع عن المدرسة، بل كنت حريصاً على أن أذاكر كل مادة. بحماس واحتدم بالغين... فإذا كان البيت مزدحماً بالزائرات... أو الزائرين، فأني ـ بعد أن أتناول وجبة عشائي في بيت (بنت المِنْور) أو في بيتي، انسحب إلى أي ركن بعيد عن الضجة والازدحام وأعكف على المذاكرة وعمل الواجب، ولا أنام الا بعد أن أكون متأكدا من أني قد استوعبت المواد المطلوبة مني في اليوم التالي... وهنا لا يفوتني أن أذكر أن (علي) أخو (بنت المِنْور) لم يدخل المدرسة الراقية كما سبق أن قالت أخته... وفهمت أن أخاه الكبير (حمزة) فضل أن يصطحبه في العمل ليضيف إلى دخله من أعمال البناء التي أذكر أنهم كانوا يسمونها (الحجر والطين)... كانوا كلهم يتعاونون على تأمين لقمة العيش بالعمل... وكأنهم ينتزعونها من أشداق الفقر الذي ظل ينهش حياة أغلب الناس في المدينة بعد تلك الحرب... وبعد عودتهم من هجرتهم إلى الشام... ومن جانبي، ظلت علاقتي بهم متصلة لا أنقطع عن مشاركتهم وجبة العشاء، وعن زيارتهم حتى بعد أن تركوا سكنهم في مقعد بني حسين، إلى سكن آخر... بل حتى بعد أن كبرت، وأخذت أدخل مرحلة المراهقة والشباب. |
* * * |
طوال الفترة التي عشتها وعاشها معي كل أفراد المنزل، بل و (الخالة أم الفرج) التي أصبحت تزورنا يومياً تقريباً، في انتظار أن تضع أمي طفلها، كانت هواجسي لا تنقطع، وان كانت تتراجع يوماً بعد يوم، مع مشاعر الفرحة التي تشيعها الخالة (أم الفرج) وابنتها في انتظار يوم الولادة، الذي أصبح واضحاً انه يقترب... وكانت الخالة (أم الفرج) هي التي أرشدت عمي إلى (الداية) التي قالت انها أفضل داية في المدينة في تلك الأيام. |
أما أمي، رحمها الله، فلم تخفِ ارتياحها كما لم تهمل أو تتخلى عن رعايتها لي التي كانت تظهر عندما تجدني منصرفاً للدراسة والمذاكرة وعمل الواجب... كانت تجلس إلى جانبي... وتعنى بمراجعة ما تعرفه من المواد التي أدرسها... ثم تربت على كتفي، وقد تضمني إلى صدرها... ولكن دون أن تشير إلى انها سوف تلد طفلاً... كأنها كانت تعلم أو تشعر بأني أدرك الواقع... ولعلها كانت تنتظر أن أسألها أنا... وإذ لم يحدث أن جرؤت على السؤال، فقد فضلتْ التزام الصمت. |
وفجأة، بالنسبة لي في ذات ليلة، بعد صلاة العشاء، رأيت الخالة (أم الفرج) تجيء وإلى جانبها عجوز عرفت انها (الداية) التي اختارتْها ووافق عليها المختصون في المستشفى العسكري... وهذا لم يكن له تفسير الا أن الطفل المنتظر، آتٍ في تلك الليلة... ودخلت (الداية) ومعها أمي التي كانت تتوجع في صمت، إلى الغرفة التي أعدت لاستقبال الطفل ودخل معهما (عمي).. ومَنَكْشة وأمي (باجي)، وهما تحملان أواني الماء الدافيء، وكميات كبيرة من (القطن الطبي)... ولم يسمحو لي بالدخول معهم، فهبطت إلى الدور الأوسط حيث (المجلس) الذي نستقبل فيه الضيوف... وقد وضعوا فيه سريراً صغيراً يتأرجح، مغطى بزخارف تشُبه تلك التي كانت على (الكريولة) التي تمت فيها عملية (الختان) وعملية (زحلقة) النقود التي ركبت بها الحمير، وأكلت تلك (العلقة).. وذلك السجن في المرحاض. |
جلست في الروشان، واستسلمت لأفكاري وذكرياتي، ثم لهواجسي.. ومنها تساؤلي عن هذا الطفل... ترى هل يجيء وفيه ما يشبهني، أم مثل أخي عبدالغفور، الذي كان وسيماً؟ وكانت أمي لا تنسى وسامته، وهي تتحدث عنه، حتى بعد أن انقضت على رحيله سنوات. |
ورغم أن الغرفة أو المجلس كان مضاء بلمبة (علاقي) ضئيلة الضوء، ما يغري عادة بالنعاس أو حتى النوم... فقد كنت جالساً متوفزاً بكل حواسي في انتظار ذلك الطفل.. |
ولم يطل انتظاري، فقد دخلت الخالة (أم الفرج) وهي تردد (الحمد لله.. الحمد لله) وإذ وجدتني أمامها قالت |
:ـ. يا عزيز، أحمد الله... أمك بخير... وربنا رزقَك أُختْ.. أختْ زي القمر. |
ثم خرجت... وغابت فترة، لتعود، وهي تحمل في (الَّلفة) ويسمونها (كافولة) تلك الأخت... ولانهض مسرعاً... والقى نظرة على وجه هذه الطفل، الذي أدركت ساعتها أنه اختي... واني منذ تلك اللحظة أصبحت أخاً لأخت صغيرة جميلة... قبّلتُها، وحين وضَعتْها الخالة في ذلك السرير، قالت |
:ـ. خلاص يا عزيز... أنت اللي رايح تسهر معاها الليلة... عشان أمك لازم تنام وحدها.. |
وسهرت معها فعلاً إلى الصباح... لم تبك الا مرة واحدة... عالجتها بأن حملتها من الفراش وأخذت أمشي بها في المجلس... إلى أن جاءت (أمي باجي)... وفي يدها ما أخذت تضعه في فم الصغيرة... ثم وضعتها في السرير... الذي حرصتُ على أن أمَرجِحَه إلى الفجر. |
* * * |
وبعد |
فقد انتهت بهذه الليلة مرحلة من حياتي... وانتهى أيضاً الجزء الثالث، من قصة هذه الحياة... وقد لا يضيق القراء بما بدا اسرافاً في ذكر هذه التفاصيل، التي يقول لي كثيرون ان هناك من كانوا ينتظرونها... وينتظرون أن تصدر مطبوعة بين دفتي كتاب... وهذا ما أجدني ميالاً، إلى إرجاء التفكير فيه... والخير فيما يختاره الله على كل حال. |
* * * |
|