ركوب الحمير.. |
ظلت يدي في يدها ونحن نخرج معا من الحديقة إلى المنزل... وقبل أن أغيب معها عن الحديثة التفتُ نحو (المِنْور) حيث كان وجه ابنة الخالة ام الفرج، مايزال يشرق وعلى ثغرها ما يؤكد انها مستغرقة في الضحك... شعرت بشيء من الغيظ.. ولكني ـ مع ذلك ـ لم انس حكاية المدرسة الراقية التي قالت ان اخاها (على) سيدخلها. |
وما كدنا ـ أمي وأنا ـ نصل إلى الدهليز، حتى وقفت وهي تقول: |
:ـ. انت اليوم رحت الكتاب بدون ما تا خد اللوح والجزو ؟؟ |
:ـ. ما ااخدت اللوح والجزو |
:ـ. ورحت الكتاب ؟؟؟ |
شعرت بغصة، وأحسست كأن الكلام يدور ويضيع في فمي... وأحسست هي من جانبها اني لا اجد ما اقوله... فرفعت صوتها كما لم يسبق ان سمعتها ترفعه وهي غاضبة قط... وقالت: |
:ـ. انت يا عزيز ما رحت الكتاب... بس قولّلي.. فين رحت؟؟ |
:ـ. رحت المناخة؟؟ |
:ـ. المناخة؟؟؟ وايش رحت تسوي في المناخة؟؟ |
وادركت أن لا فائدة من تأليف أي كلام فصارحتها بالحقيقة كلّها... فقالت: |
:ـ. طيب... ومنين جبت الفلوس اللي ركبت بها الحمير مع يحيى؟؟؟ |
:ـ. من اللي كانوا بيحطوّها تحت المخدة. |
:ـ. مين اللي بيحطّوها يا عزيز.؟؟؟ |
:ـ. الستات اللي كانوا بيزورونا بعد الطُّهار |
:ـ. لكن يا عزيز برضك بتكدب... كل الفلوس موجودة اليوم تحت المخدة.. وأنا بنفسي جمعتها وشلتهالك... هيا قوللي منين جبت الفلوس؟؟ |
:ـ. أنا كنت بأزحْلِق نص الفلوس اللي تحت المخدة ورا السرير |
ولاحظت انها تكتم ضحكة، وربما الذي زحمها بالضحك، هو كلمة (بأزحلق)... ولكنها تماسكت واحتفظت بجِدّيتها وقالت: |
:ـ. والفلوس اللي زحلقتها ورا السرير كتير؟؟ |
:ـ. نُص بالنُّص... أقسم الموجود تحت المخدة قسمين... قسم أزَحْلقه.. وقسم أخلّيه |
لكن يا ففَّم ـ والله... والله ـ ما اخدت من الدهب ولا قطعة. |
:ـ. طب وليه ما اخدت من الدهب شي... ما هي كلها هدايا لك انت؟؟؟ |
:ـ. عشان انا شفتك تلمّي الجنيهات (العسمنلي)... وهاداك الكبير: (أبو فرج الله) |
وكمان اللي اسمهم (غوازي)... وكمان عشان كل الناس ما يبيعوا ويشتروا بهادا الدهب.. |
وحتى هذه اللحظة كانت يدي في يدها... ومن جانبي لم احاول ان اسحب يدي... بل الواقع اني كنت اشعر بارتياح كبير، اذ عادت إلى ذاكرتي، تلك الأيام البعيدة في حلب وحماه... وفي زقاق القفل، تلك الأيام التي كانت تحرص فيها على ان تاخذ يدي الصغيرة في يدها وهي تخرج إلى السوق أو إلى أي مكان... والتزمتْ هي الصمت لحظات ونحن واقفين في الدهليز المظلم... ثم قالت |
:ـ. اسمع يا ولد... انت لازم تتأدب... |
:ـ. اتادب؟؟؟ يعني ايه يا ففَّم |
:ـ. يعني لازم نجازيك على كل اللي حصل منك... وهادي المرة، لازم عمّك هو اللي يجازيك. |
:ـ. عمّي هو اللي يجازيني؟؟؟ يعني انتي رايحة تقوليله على اللي حصل؟؟ |
:ـ. ايوه... انا رايحة اقوْلله، وهو اللي يجازيك... علشان تحرم تركب حمير.. وتحرم تهرب من الكتّاب. |
:ـ. طيب وليه هوهّ اللي يجازيني؟؟؟ إسماعيل يجيب لك الخيزرانة... واضربيني انتي. |
:ـ. لأ... لأ... يا عزيز... عشان العَمْلة اللي عملتها كبيرة كتير... ما يبغالها غير الجزا اللي هوّه يشوفه |
وتركت يدي... واخذت طريقها إلى السلالم... بينما ظلت في مكاني وقد داخلني من الرعب مالم يسبق ان شعرت بمثله قط... فإن عمّي هذا لم يحدث ان مدّ يده بغير هداياه من الشوكولا وقد اصبحت احبّه كثيرا... بل قد لا أبالغ اذا قلت اني اصبحت اشعر بأبوّته.. فاذا أبلغته أمي، عن (الجريمة)! فمن يضمن لي أن لا افقد حبّه وعطفه الكبير عليّ؟؟؟ ثم ما هو نوع الجزاء أو العقاب الذي سوف يوقعه عليّ؟؟؟ وذهبت إلى الدهليز حيث يجلس كل من الجنديين (اسماعيل ومحمد علي)... ولا شك اني كنت دامع العينين... رأيانى... واخذ كل منهما ينظر إلى الاخر... ودار بينهما حديث بالتركية.. لم افهم منه شيئا.. ولكن الأرجح ان محمد على كان يلوم اسماعيل على إبلاغه أمي بحكاية اللوح وجزو عمّ.. |
جلست على طرف الدكّة... كان قلبي مثقلا ليس فقط بالرعب من العقاب الذي لا اعرف نوعه ولكن النتائج التي لا بد ان تترتّب على هذا الحادث في علاقتي به... لابد انه سوف يكرهني... واذا كرهني، فقد يكره أميّ ايضا... وسرعان ما دار بذهني ان انبّهها إلى هذا الذي يمكن ان يقع،... وكرّت على ذاكرتي ذكريات الماضي بكل ما عايشناه من آلام واحزان... فنهضت مسرعا من مجلسي على طرف الدكّة... وصعدت اليها...وارتميت في حضنها ووجهي تغمره الدموع التي ظلت تنذرف منذ صعدت هي إلى الدور العلوي من الدهليز |
لا اشك في انها قد اشفقت عليّ و آلمها أن أبكي... ولكنّها بدتْ مصممة على رأيها فمسحت رأسي بيدها، وبمنديل في صدرها، مسحت الدموع عن وجهي... ثم قالت: |
:ـ. لازم يا عزيز... لازم اقول لعمّك على كل اللي حصل منك... عشان ما يسير انى اخفى عنّه أي شي... عيب...هوّه اليوم زي ابوك..ويمكن بيحبك اكتر من ابوك لو كان موجود... كيف يبغاني أخفي عنّه الحقيقة.. انا يا ولدي ما أعرف الكدب...ولا ابغا اكدب عليه أبدا. |
* * * |
استيقظت في صبيحة اليوم التالي مبكرا كما هي العادة قبل عملية الختان... وظللت اتوقع ما سوف ينزله بي عمْي من العقاب... فقد كنت ارى كيف يقف امامه الجنديان وهو يخاطبهما... كان يخيل اليّ انهما يرتعدان من الرهبة والخوف.. وهذا وهما جنديان... رجلان اعرف انهما دخلا الحرب... بدليل البندقيتين... وبعض القصص والحكايات التي سمعتها منهما بالعربية المكسرة. فكيف يكون الأمر معي انا... ابن زوجته؟؟ |
ولم يطل انتظاري، على السرير، فقد دخلت منكشة... وهي تقول: |
:ـ. تعال.. كلّم.. بيه افندي يبغاك. |
واسرعت اهبط من السرير... ومشيت خلفها إلى الدور الثاني... حيث المجلس وغرفة نومهما ـ هو وأمي ـ. ورأيته في بزته العسكرية... واقفا.. ولكنه مكفهر... في عينيه ونظراته كل ما يؤ كد لي ان العقوبة التي قررها سوف تكون رهيبة قاسية إلى اقصى حد. |
لم يتكلم... وعندما تقدمت آخذ يده لأقبلها كما هي العادة في تلك الأيام... سحب يده بغلظة وشدة... وامسك بكتفي... وادارني وقال امش. |
ومشيت امامه، وهو خلفي إلى الدهليز... حيث كان اسماعيل ومحمد على واقفين كتمثالين وبالتركية طلب من اسماعيل العصا... واعنى (الخيزرانة).. وما كاد يجيئه بها حتى طلب مني الجلوس على الأرض... وامر محمد على ان يرفع قدمي الاثنتين... وامر اسماعيل ان يضرب... |
ونفذ اسماعيل ما أُمر به... ضربة لاسعة حارقة أولى... وثانية... وثالثة... إلى الخامسة... حيث أمره عندها بالتوقف عن الضرب... بطبيعة الحال كنت ابكي ولكن دون ان أصرخ... ومن المضحك هنا... اني لم اصرخ لسبب سخيف جدا... وهو ان لاتسمعني تلك التي تطل على الحديقة من (المِنْور)... لا اريد أن تشمت بي... أو ان تسخر مني حين تراني... |
بعد الضربة الخامسة ودموعي تنهمر على وجهي.. امرني ان اقف... وقفت.. ثم امر اسماعيل ان يفتح بابا في طرف الدهليز... لم يسبق ان فتحه احد... ولا ادري إلى ماذا يفضي؟؟ |
كان مرحاضا... ادخلني اليه اسماعيل، واغلق الباب.. وتركني خلفه في ذلك المرحاض الذي كان اول عهدي بالسجن أو السجون. |
بعد ان أُغلق البابُ عليّ... سمعت وقع اقدامه خارجا... وسمعته يأمر بان لا يفتح الباب إلى ان يعود. |
* * * |
ظللت واقفا في فسحة المرحاض الصغير... وطال وقوفي... وكرهت ان اجلس على ارضه التي لابد ان تكون قذرة، وكان الظلام حالكا يصعب ان ارى معه شيئا... انتظرت ان اسمع خطوات أمي تهبط لتطمئن عليّ مثلا... بل انتظرت (أمي باجي)... أو حتى (منكشة)... لا... لا احد ابدا كلهم لا أثر لهم على الاطلاق... وارهقني الوقوف على قدّمي، فاضطررت إلى الجلوس حيثما اتفق من ارض المرحاض... كانت الارض جافة... باردة... وهذا جعلني اطمئن إلى ان الارض ليست قذرة كما تبادر إلى ذهني في اول الأمر. |
وقد لا يصدق القارى... انهم عندما فتحو الباب بعد صلاة الظهر وهو الموعد الذي عاد فيه عمّي، وجدوني مستغرقا في نومٍ عميق... واني لا ذكر اليوم.. اني بكيت في ذلك المرحاض... بكيت كثيرا... وعادت إلى ذهني ذكريات كثيرة بعيدة... واحسست لأول مرة منذ تزوجت أمي بالذل والهوان.. اذ ماذا بعد ان اسجن في (مرحاض) ؟؟؟ وماذا بعد ان تجفوني أمي نفسها فلا يهون عليها أن تهبط فتراني.. أو حتى تسمع صوتي... أو تقول لي أي كلمة تطيب خاطري؟؟؟ |
وحتى هذان الجنديان... في دكة الدهليز القريبة من المرحاض... لم يخطر لأحدهما ان يسألني ان كنت احتاج إلى شيء ثم (مَنَكْشة) التي اعرف رقة قلبها حتى هي لم تقترب من المرحاض... ومثلها (أمي باجي)...اين كلمات التدليل التركية التي كانت تدللني بها؟؟؟ كل هذا حُرمت منه تماما في هذا المرحاض المظلم، والدموع تملأ وجهي استغرقت في ذلك النوم العميق... الذي استيقظت منه عندما فُتح الباب... وكان الذي فتحه هو عمّي نفسه... مدّ اليّ يده... فنهضت... ومشى ويدي في يده... واخذنا نصعد إلى الدور العلوي دون ان يقول هو أي كلمة... وانتهى بنا المشوار إلى السرير الوثير.. سرير عملية الختان.. وفي هذه اللحظة دخلت أمي... لم تكن محتدمة أو غاضبة... ولكن كان واضحا انها كانت حزينة... ولعلي كنت لا اعرف ما تعانيه الا من هذا الحزن الذي يطل من عينيها... |
لم يقل هو... ولم تقل هي شيئا... كل ما حدث هو انها ازاحت غطاء السرير... وقالت: |
:ـ. هيا.. انسدح الين يجي وقت الغدا |
وانسدحت... واغمضت عيني... لتعود إلى ذهني ذكرى الحمارين اللذين |
ارتفقناهما ـ انا ويحيى ـ. وتذكرت على الفور، تلك العُلبة التي اخبأت فيها النقود... واللفافة التي كنت احملها واخرجت منها (المجيدي العتيد)... وكلمة يحيى (ان كان عندك خمسة مجايدة... نحن نكون شبندر تجار). |
:ـ. نبيع ونشتري.. |
هي الكلمة التي ماتزال تتردد على ذهني... والعلبة المخبوءة، في مكانها السرى الخفي... ممتلئة بالنقود... فلماذا لا نبيع ونشتري؟؟؟ |
|