ما في بشوات يا عزيز.. فيه أمرا... |
منذ اليوم الذي سكنَّا فيه هذا المنزل الذي وصفته أمي بأنه (ملوكي) في أحد أزقة ومنعطفات منطقة (مقعد بني حسين)، بدأت أفتح عيني ـ اضافة إلى تلك (الكريولة) في الغرفة التي تقرر أن تخصص لي ـ افتح عيني، وكذلك أذني، على مجموعة طائلة من آداب السلوك... يتعاون على تلقينها اياي، إلى جانب أمي بالطبع هؤلاء الذين يقومون بشؤون المنزل، وهم بدورهم مجموعة، في مقدمتهم (أمي باجي) هذه السوداء التركية المسؤولة عن المطبخ أولاً، ثم عن رقابة الأعمال التي ينجزها الآخرون، والتنبيه إلى الخطأ، واستدراكه بالتصحيح والاصلاح... وقد أحببتها منذ الليالي الأولى التي دخلت فيها تلك الغرفة في زقاق الطوال بعد زواج أمي... فقد كانت صادقة العطف عليّ، والحرص على راحتي وتسْرِية ما أظنها كانت تشعر به من همومي بزواج أمي... لم أكن أعرف كلمات التدليل التركية، ولكن جاءت الأيام التي عرفت فيها، كم كانت كل كلمة من كلماتها تلك رنة رقيقة نابعة من قلب كريم... ولقد عرفت ـ بمرور الأيام ـ انها ولدت في اسطمبول، في سَرَايْ أحد الأمراء العثمانيين... ونشأت في هذه السَّرايْ (دادة) خاصة لاحدى بنات هذا الأمير، في طفولتها... فلما كبرت الأميرة الصغيرة، جاءت وصيفة بيضاء، وهي أيضا (مملوكة) للسَّرايْ أو لأمير السرايْ... وألحقت باجي بالمطبخ، حيث تعلمت هناك جميع أنواع المطبخ وعلى المستوى الذي يقل مثيله، أو لا يوجد إلا في بيوت أو (سرايات) الأمراء والعظماء. أما كيف جاءت إلى المدينة فقصة طويلة عنصرها أن الأمير غضب على الوصيفة البيضاء فأرسلها أو هو نفاها إلى المدينة وفي خدمتها (الباجي)... |
وكان (الباديشاه) ـ وهو السلطان ـ إذا غضب على من لهم بعض المكانة من جواري القصر السلطاني، أو من (الاغوات) يأمر بترحيلهم إلى المدينة المنورة. حيث أمن لهم منازل جميلة رائعة التكامل، في منطقة (باب الشامي) تسمى (السلطانية) وجميع المنازل تطل على حديقة واسعة بالغة الجمال بأشجارها وأزهارها النادرة، والمقاعد المنثورة حول هذه الأزهار تحت الأشجار... وهذه للجوارى اللائي سماهن أهل المدينة (سرايْليَّات) نسبة إلى سراى (الباديشاه)... أما الاغوات، فلهم منازلهم أيضا، ولكن بالقرب من الحرم النبوي الشريف... وهي المنطقة التي عرفت باسم (حارة الاغوات)... وبالمناسبة، أذكر أن في (الشبيكة) بمكة المكرمة منطقة عرفت بأنها (أوقاف الاغوات) وجميع الاغوات يرسلون من السَّراىْ الشاهانى، وأحيانا من بغداد. من بيوت ذوي الثراء والجاه، وعندما يبلغ الاغا سناً معينة يقترب عندها من العجز عن نوع الخدمات التي يقوم بها في القصور. |
قد يضيق القارىء بهذا الاستطراد، الذي استدرجني اليه الكلام عن (أمي باجي) ولكن يبدو لي أن أبناءنا وأحفادنا، لا يستغنون عن أن يلموا بلمحات من واقع الحياة في أيام ما قبل الحرب العالمية الأولى وما بعدها في المدينة المنورة بالذات، ويكاد يكون هذا ضروريا، وأنا أسمع أن مشاريع الاعمار الواسعة والشاملة، قد غيرت الكثير من المعالم ومنها على سبيل المثال (حارة الاغوات) التي أزيلت، في مشروع توسعة الحرم النبوي الشريف. |
ولْأعَد إلى (آداب السلوك) التي قلت ان الذين يتعاونون على تلقينها إياي، إلى جانب أمي، مجموعة في مقدمتهم تلك العجوز السوداء: (أمي باجي) ومنهم (مَنَكْشة) وهي تلك العجوز التي تركها جدي في بيتنا في زقاق القفل، أمينة على موجوداته كلها يوم هجرتنا إلى الشام في ذلك ((البابور)) الذي شحن فيه ((فخري باشا)) أهل المدينة وهو يستعد لمواجهة الحرب، بينه من جانب، وبين الشريف والانجليز من جانب آخر، وقد عدنا ـ أمي وأنا ـ فقط لا غير ـ لنجد (مَنكْشة) هذه في البيت، وليس فيه من جميع ما كان فيه، الا (مِسْنَداً) واحداً من الدومسك، من أثاث أمي في زواجها من أبي. |
فمن (آداب السلوك) هذه... ان الأولاد الصغار في سن ما قبل العاشرة، ممنوعون تماماً من الجلوس مع الرجال، والمقصود بالرجال، هم الضيوف الذين يدعون للعشاء أو الغداء... وكان ضيوف عمي (زوج أمي)، رحمه الله، رجال من طبقة متميزة.. منهم زملاؤه من أطباء المستشفى الذي يعمل فيه وكانوا يسمونه (المستشفى العسكري) لأنه كان مخصصا لعلاج العسكر، أو رجال الجيش من ضباط وجنود بمختلف الرتب. ومنهم أعيان من أهل المدينة الذين توثقت بينه وبينهم علاقات صداقة، من عناصرها معرفته للغة العربية (دون لكنة) بحيث لا يصدق من يسمعه يتكلم انه تركي عريق، ومنها مروءته واستعداده الدائم لنجدة من يصاب بعلة، ويحتاج إلى العلاج على أيدي أطباء المستشفى العسكري، وهم زملاؤه طبعاً ولا يترددون في الاستجابة لوساطته أو طلبه، ثم هم الأكثر براعة وخبرة بالأمراض التي كانت شبه مستوطنة في المدينة، ومنها (الملاريا) و (الديزانْترِي) ويسمونها في المدينة (العُصْرة) ومختلف أمراض العيون ومن أهمها (التراخوما)... بل يصح أن يقال انه لم يكن في المدينة، في تلك الأيام، (الا العطارين) ومختلف أدويتهم الشعبية، و (البدوي) الذي يجيد (الكَيْ) في حالات مرض كانوا يسمونه (الجنْبة) وهو على الأرجح (التهاب الرئة) يضاف اليهم (المزين) الذي يداوي جميع الجروح بطرقه الخاصة ومنها قطعا (البن والملح) و (الصُّرافة) و (الشَّبة) وعند المتميزين من المزينين (صبغة اليود). وهناك مستشفى آخر يسمى (مستشفى الغرباء) ولا أدري سبب التسمية... جرت العادة أن يكون فيه طبيب واحد أو اثنان... من سوريا... وعدد من (المُضمّدين) و (الممرضين) الذين يدربون على عملهم على أيدي الطبيبين... والعلاج مجاناً وكذلك الأدوية تصرف بدون مقابل من صيدلية يديرها (مساعد صيدلي) في المستشفى. |
ولكن من آداب السلوك أيضا الحرص على عدم ارتفاع الصوت عند الكلام، ومما يعاقب عليه الطفل، أو الصبي الصغير، أن يضَع إصبعه في أنفه، أو أن ينكش أسنانه.. فإذا جلس على الأرض، فلابد أن تكون جلسته (رُكْبه ونُصْ)... وهي جلسة ما زلت اتقنها حتى الآن ـ أما ما يجب الاهتمام به، فهو قص أظافر اليدين، فعيب كبير جداً، أن تُرى أظافر الأصابع طويلة ومسودَّة بما أختزنته من التراب... فإذا ادخلتَ مجلس الرجال مطلوباً لأداء مهمة أو لتقديم معلومة عن الكتّاب مثلاً، فلابد أن تقبِل أيدي الجالسين جميعاً... والعجيب أن الرجال في تلك الأيام، كانوا لا يسحبون أيديهم.. بل يتركون الطفل يقبلها وأحيانا (وجه وقفا) وأحيانا أخرى تُرفع إلى الجبهة. |
ونحن الآن في الأسبوع الذي تقرر أن يتم فيه (الختان).. ولكن دون أن أعلم في أي يوم... كان الحديث يدور بين الجميع، عن تفاصيل كثيرة، منها: من الذين يدعون من الرجال... ومن اللائي لابد أن يدعين من النساء، منذ وقت الضحى أما الليل فللرجال... |
|
الشريف ناصر بن علي القائد الذي وقّع اتفاق جلاء قوات تركيا بقيادة مصطفى كمال عن مدينة حلب وبذلك انتهت الحرب بين العرب والاتراك الذين انسحبوا الى أطنه.
|
* * *
|
|
وأدركت حكاية (آداب السلوك) في ليلةٍ من ليالي هذا الأسبوع، إذ قالت أمي بلهجة شبه هامسة: |
:ـ. اسمع يا عزيز... الليلة عمك عنده ضيوف... رجال (كُبارِيَّة).. غير اللي تعرفهم. |
وامتلأ قلبي رعبا... إذ توهمت أنهم يجتمعون احتفالاً لعملية (الختان) التي رجّحت انها سوف تتم بحضورهم.. وأمامهم.. فقلت: |
:ـ. يعني الليلة خلاص يا ففم؟؟ |
:ـ. ايه هوة اللي خلاص؟؟ |
:ـ. الطَّهور |
ضحكت... بل استغرقتْ في الضحك.. ثم قالت: |
:ـ. لا... الليلة ضيوف، منهم واحد (أمير)... هو اللي ساكن في القصر اللي ورا بيت عثمانية هانم... |
:ـ. لكن أنا ايش لي؟؟؟ ويعني ايه أمير؟؟ |
:ـ. عمك يقول، لازم تلبس أحسن لبس... وتدخل تسلم على الضيوف كلهم... ولكن أول واحد لما تدخل المجلس، تسلم عليه هو الأمير. |
:ـ. بس ما قلتيلي يعني أيه أمير؟؟.. يعني زي الباشا؟؟ |
:ـ. ما في باشوات يا عزيز... فيه أمَرا... وهادا الأمير هو اللي إسمه (الشريف ناصر) ويقولوا هوه اللي استلم (حلب) من الأتراك... أنتَ نسيت حَلب.. وهاديك الليلة اللي كان فيها ضرب الرصاص زيَّ المطر.. والمدافع تُهدَّ البيوت. |
:ـ. لا ياففم... ما نسيت... كيف أنسى؟؟. كنا رايحين نموت. |
:ـ. خلاص.. هادا الشريف ناصر هو اللي كان بيحارب الأتراك في حلب... وهو اللي استلمها من الباشا التركي... |
:ـ. طيب... وايش اللي جابوا المدينة بعدما استلم حلب؟؟ ليه ما جلس في حلب؟؟ |
:ـ. لا تكِترّ اسئلة... قوم خليني ألبِّسَك، وامشِط لك شعرَك.. عشان يمكن هوه يجي بعد صلاة العشا |
:ـ. وهو رايح يكون جالس ساعة ما يطهرني المزين؟؟ |
ضحكت أمي هذه المرة أيضا.. وقالت: |
:ـ. مزين ايه؟... هوه انت فاهم أن المزين هو اللي رايح يطهرك؟؟ |
:ـ. ايوه يا ففم... البزورة كلهم في الكتاب بيقولوا اللي طهرهم هو المزين بالموس وبعدما يقطع... يكبس بالبن والملح. |
ضحكت مرة أخرى بل استغرقتْ في الضحك... وقالت: |
:ـ. لا يا حبيبي.. ما هو المزين اللي رايح يطهرك... اللي رايح يطهرك هوه يحيي بك. |
:ـ. مين يحيى بك ياففم؟؟ |
:ـ. أوه... قد إيه تحب تُحْك الصَّدا... دحين قوم ألبسك، وامشطلك شعرك.. عشان لما يجي الأمير.. الشريف ناصر.. تدخل تسلم عليه وعلى الضيوف كمان. |
:ـ. لكن ياففَّم... ما قلتيلي.. متى؟؟ متى يطهرني هادا اللي اسمه يحي بك؟؟ |
:ـ. نهار ما تشوف (المُزيكة) عند الباب.. والهوانم.. والستات، يصفقوا في الدهليز |
:ـ. يصفقوا في الدهليز؟؟ |
:ـ. إيوه.. لما الست تدخل من الباب تصفِق عشان ننزل نِرحِّب بها. |
:ـ. طيب ياففَّم... ويحيي بك هادا رايح يطهرني قدَّام الرجال... ولا قُدَّام الستات؟؟ |
وهنا ضاقت بأسئلتي ذرعاً فانتشلتني من يدي، وأخذتني إلى غرفتها.. حيث ظلت تبذل كل جَهدها لاظهاري بمظهر بَهِيِّ متميز... وأوقفتني أمام المرآة... وأخذت تنبّه إلى مجموعة آداب السلوك... وأهمها تقبيل أيدي الضيوف... وعدم وضع أصبعي في أنفي... وإذا طُلب مني الجلوس فلا أجلس على المرتبة إلى جانب أحد من الرجال... بل على الأرض (رُكْبة ونص). |
* * * |
ودخلت (الباجي) مسرعة لتقول بالتركية كلاماً معناه إن الضيوف قد بدأوا يتوافدون وانها تظُن أن (الرجل الكبير) وتقصد الأمير، معهم... هكذا قال لها اسماعيل. |
وكنت قد تهيأت تماماً لاستقبال هذا المهرجان... مطمئناً لشيئين: أولهما أن الذي سوف يطهرني ليس ((المزين))... وان يوم الطهور.. هو اليوم الذي أرى فيها (المزيّكة) عند الباب.. ولكن دون أن تحدد أمي أي يوم من أيام الأسبوع. |
وأسرعت إلى الروشان في الغرفة لأرى الزقاق.. فإذا به تضيئه من أوله إلى آخره الاتاريك، المعلقة على أعمَدة حفروا لها، في أرض الزقاق... أسرعت إلى أمي أقول لها |
:ـ. انتي شفتي الزقاق؟؟؟ هادا مْنوِّر... زيَّ النهار.. |
:ـ. والقَابلة رايح يكون مْنوِّر... زي النهار... وتضرب فيه (المزيكة) |
وأدركت على الفور... ان يوم الطهور قد تقرر... غداً.. |
لم أقل شيئاً... ابتلعت كل رعبي... وانطلقت من الغرفة... إلى السلالم.. ومنها إلى الديوان حيث رأيته ممتلئاً بالضيوف.. وفي الصدر من المجلس... ذلك الرجل الذي بدأني هو بالترحيب... وهو يردد (ما شاء الله.. ما شاء الله) فتقدمت إليه... وحين أخذت أقبل يده.. سحبها.. وأخذ وجهي بين كفيه وهو يردد مرة أخرى (ما شاء الله.. ما شاء الله). |
|
هو، ضياء الدين بك أحمد من أسرة اريستوقراطية في إسطمبول. واسم أسرته هو كلشافه زاده لركلونه دامارلرى وقد توفي في مكة في منصب متميز، هو رئيس عموم الصيادلة. وأنا مدين له بأنه الذي رباني منذ كنت في السابعة من العمر إلى أن بلغت مرحلة الشباب.
|
* * *
|
|
وبدأت عملية تقبيل أيدي الآخرين... إلى أن انتهيت إلى عمي (زوج أمي) فإذا بعينيه محمرتين... وفيهما دمعة تكاد تنذرف... أخذ هو أيضا وجهي بين يديه وقبلني... وأجلسني إلى جانبه.. |
* * * |