في المحكمة |
لم أكن وحدي الذي لا يعرف شيئا عن (المحكمة) التي سوف تذهب اليها أمي معي... كانت أمي أيضا تجهل كل شيء عنها. ولذلك فقد ظل الحديث يدور في تلك الليلة بين الخالة فاطمة وبين أمّي عن هذه المحكمة، ثم عن الكماخي... دار في وهمي عن كلمة (كماخي) هذه أنها تعني شيئا معينا يكون في المحكمة. ولكن لا أدري كنهه وحقيقته. ولكن ما دار من الحوار، جعلني أدرك أنه انسان اسمه (الشيخ الكماخي) وهو (قاض) والقاضي كلمة لا معنى لها عندي في تلك الليلة، وقد ظلّت غامضة حتى بعد أن ذهبنا إلى المحكمة في يوم السبت. |
ولا أحتاج أن أتحدث، أو أطيل الحديث، عن المحكمة... بابها الواسع، وأرض دهليزها من الحجر الأسود، والدّكة الطويلة في هذا الدهليز، يجلس عليها الناس في انتظار موعد الجلسة المقررة لهم. لم يطل انتظارنا.. وأعني أمي، والشيخ محمد سعيد، والعم صادق، والعم إسماعيل (صاحب المغازة في جوّه المدينة)... إذ ما كدنا نقف دقائق في هذا الدهليز الواسع، حتى خرج رجل كهل يقول: |
:ـ. فاطمة أحمد صفا وولدها |
وكانت يدي في يد أمي كما هي العادة دائما فمشينا، ومشى حولنا العم محمد سعيد، والعم صادق والعم إسماعيل... ومن باب واسع دخلنا، ديواناً واسعا، في الصدر من دكته مقعد رحب كبير جلس عليه رجل أدركت أنه الشيخ (الكماخي) أنه هو (القاضي)، وأمامه منضدة صغيرة، يجلس إليها رجل كهل، عرفنا فيما بعد أنه الكاتب الذي يدوّن في دفتر كبير بين يديه ما عرفنا فيما بعد أنه يسمّى (السجل). |
وقفنا جميعنا أمام القاضي.. حيث بدأ يوجه الحديث إلى أمي: |
:ـ. أنت يا بنتي أسمك فاطمة؟؟ |
:ـ. أيوه أنا أسمي فاطمة |
:ـ. أسم أبوكي؟؟؟ |
:ـ. أحمد صفا |
:ـ. رحمة الله عليه.. وهادا ولدك؟؟؟ |
:ـ. أبوها هادا ولدي |
:ـ. واسم ولدك يا فاطمة؟؟ |
:ـ. اسمه عزيز |
:ـ. عبد العزيز يا فاطمة |
:ـ. أيوه.. عبد العزيز.. بس أنا، أناديه وأقول اسمه (عزيز) |
:ـ. وكم عمره اليوم يا بنتي |
:ـ. عمره ستة سنين وتسعة أشهر |
:ـ. ما تعرفي متى ولد؟؟ |
:ـ. ولد في صُبْحِية عيد مولد النبي قبل ستة سنين وتسعة أشهر |
:ـ. ومين أبوه يا فاطمة يا بنتي؟؟ |
:ـ. أبوه اسمه زاهد بن سلطان بن مراد |
:ـ. وفين زاهد هادا دحّين؟؟؟ |
:ـ. ما أدري فين... ما جانا منّه حس ولا خبر. |
:ـ. يعني سافر من المدينة يا فاطمة مع الليِّ سفَّرهم فخري؟؟ |
:ـ. لأ.. سافر قبل اللي سفّرهم فخري.. سافر لمّا كان عمر عزيز تسعة أشهر. |
:ـ. سافر راح فين؟؟؟ |
:ـ. سافر بلاد القازاقْ... أورونبورغ... عشان يجمع الفلوس اللي يبغوا يبنوا بها الجامعة الاسّلامية.. اللِّي أمر بها السلطان |
:ـ. ومن يوم ما سافر ما كتب لكم... ولا أخبركم متى رايح يرجع؟؟ |
:ـ. يمكن كتب لأبويه.. لكن أنا ما أدري عن شي |
:ـ. وطول هادي السنين ما جاكم منّه خبر.. |
:ـ. ما جانا منّه خبر أبداً. |
:ـ. وطول هادي السنين ما أرسل لكم فلوس.. يعني نفقة لكي وللولد؟؟؟ |
:ـ. طول هادي السنين ما سمعنا عنّه شي.. وما أستلمنا منّه لا فلوس،، ولا شي. |
:ـ. طيّب يا بنتي.. ومين اللي يشهدوا أنو الكلام اللي قلتيه هوّه الحقيقة؟؟ |
:ـ. الشهود همّ.. العم محمد سعيد.. والعم صادق.. والعم إسماعيل.. |
:ـ. الشهود موجودين في المجلس؟؟ |
وهنا تقدم الشهود. وكل منهم رفع صوته يقول: |
:ـ. أشهد أن جميع ما قالته فاطمة بنت أحمد صفا عن زوجها، الغائب زاهد ابن سلطان ابن مراد، أبو ولدها الحاضر عبد العزيز.. جميع اللي قالته صحيح.. وبعد أن أدّى كل منهم شهادته نصا رافعا صوته، والكاتب خلف المنضدة الصغيرة، وأمامه الدفتر الكبير يكتب أو يدوّن كل ما دار من حوار بين أمي وبين القاضي، ثم كل كلمة قالها الشهود، طلب القاضي منه هذا السجل، وعكف يقرأ ما دوّنه الكاتب، ثم التفت إلينا وهو يقول: |
:ـ. خلاص... فاطمة... بعد ثلاثة أشهر، إذا ما رجع زاهد، وما جاكي منّه حس ولا خبر، تيجي تأخذي الحكم. |
وهنا تقدم العم محمد سعيد يسأل القاضي: |
:ـ. الحكم بطلاقها يا مولانا؟؟؟ |
:ـ. ما أقدر أقول لك الآن.. خلّي الأشهر الثلاثة تنتهي، وبعدين الحكم.. |
:ـ. يعني يا مولانا دحين هيّه ما هي في العدّة؟؟؟ |
:ـ. لأ.. ما هي في العدّة.. الا بعد الحكم.. بعد ثلاثة أشهر. |
وكانت يدي ماتزال في يد أمي.. وقد لفت نظري أني أحسست بها باردة كالثلج، وحين رفعت رأسي أنظر إلى وجهها خلف (البيشة)، رأيت البيشة مبللّة.. أدركت أنها كانت تبكي في صمت... واستدارت في طريقنا للخروج، وقد تقدمنا الشهود الثلاثة.. ولم تكن المحكمة بعيدةً عن زقاق القفل.. ماهي الا خطوات قصيرة قليلة، حتى وجدت نفسي أمام دكان العم صادق، ومجموعة الأطفال الذين ألعب معهم، يملأون المنطقة ضجيجا، فقد كانوا يلعبون ما يسّمى (الكَبَتْ)... كانت لعبة يمارسها أولئك الذين يكبرونني سنا. ولكني كنت أتمنّى أن يسمحو لي بالمشاركة فيها.. ولا أدري لم كانوا يصرّون على أن أبتعد عنهم واكتفى بـ (الفُرْجَة) ومع الفرجة صيحات الأعجاب، والعجيب، أن رجالا من أعمار مختلفة كانوا يقفون يتفرّجون، ويرفعون أصواتهم بهذه الصيحات: |
حاولت أن أخلّص يدي من يد أمّي.. وكأنها أدركت غرضي من حركة يدي، فإذا بها تشدد قبضتها، وتقول لي:ـ. |
:ـ. أمش.. أمش يا عزيز.. ما هو وقته.. |
ومشيت ودخلنا زقاق القفل.. وحين وصلنا باب البيت، رأينا منكشة جالسة على العتبة، والباب مفتوح... وأمامها في بيت الخالة فاطمة، الدادة حسينة وخلفها بدريّة. ولا شك أن الحديث كان يدور بين الطرفين.. كُلُ في مكانه أو بيته.. ولاشك أنه كان عنا.. أمي وأنا والشهود... وحين التفتُ نحو باب بيت الخالة فاطمة ورأيت بدرية أحسست كأني أخرج من ظلام كان يلف مشاعري، فإذا بي أترك يد أمّي وأسرع إليها... وكأنهّا من جانبها قد أحسَّت بلهفتي عليها فأسرعت تفتح ذراعيها وتضمني إلى صدرها، ثم تقبّلني... ولكن.. ما الذي جعل عينيها تدمعان؟؟؟ بل تذرفان أكثر من دمعة؟؟؟ لم تقل شيئا، ولكن كان في وجهها وفي الدموع من عينيها تعبير عن الأشفاق والأسى.. لم أفهم ساعتها شيئا بالطبع سوى هذه السعادة التي غمرت نفسي، وهي تضمني، وأشم في ذلك الصدر رائحتها.. كلا ليست رائحة البنفسج، وإنما هي رائحتها هي التي لا أجد لها وصفا ولا أسما.. ظللت هكذا بين ذراعيها وعلى صدرها لحظات تمنيت أن لا تنقضي.. ولكنّها رفعت صوتها تنادي أمي.. |
:ـ. يا ستيتة تعالي استريحي عندنا.. أمّي في (المِركّب) عمّال تطبخ لنا رز وعدس وحوت ناشف، جابوا عبد المنّان. |
:ـ. أجي يا بدريّة بعدما أدخل وأفسِّخ (قُنْعَتي)... |
:ـ. طيب خلي عزيز معايا |
:ـ. أيوه خليهّ معاكي.. بس لا تخليّه يروح يلعب مع الأولاد في رأس الزقاق. |
ووجدت نفسي أبادر إلى الرد فأقول لها وهي تدخل البيت |
:ـ. يا ففَّم.. أنا أقعد مع خالة بدريّة |
وهنا تدخلت (منكشة) التي ظلّت تلتزم الصمت حتى الآن لتقول: |
:ـ. أنا كمان فيه (يالانجي ضولمة) |
تقصد أنها جهزّت أكلة يسمّيها الأتراك (يالانجي ضولمة) ومعناها (المحشي الكاذب أو الكذاب) وهو الباذنجان يحفر، ويحُشى أزرا، ويطهى بالزيت، ويوكل باردا.. |
وأجابتها بدرية بنبرة مرحة ضاحكة: |
:ـ. خلاص.. أنتي تجيبي (اليالانجي) حقّتك.. ونحن عندنا الحوت الناشف والرز والعدس ونتغدّى كلنا مع بعض.. |
وكان هذا الذي أسمع سارَّا مُفرحا، وكأنّه يرفع عن قلبي، أو هي نفسي ما ظللت اعانيه منذ اللحظات التي مشينا فيها إلى المحكمة، وما دار فيها، وإلى أن رجعنا إلى البيت. وأخذت مجلسي إلى جانب بدرية، على (شِلْتَة) افترشَتْها... فأحاطتني بذراعها وقالت: |
:ـ. خلاص يا عزيز.. أنت دحّين عمرك سبعة سنين.. موكده؟؟ |
:ـ. لأ... ستة سنين وتسعة أشهر. |
وضحكت ضحكة مرحة حلوة وهي تقول: |
:ـ. ما شاء الله عليك... سِرْت تعرف الستة سنين والتسعة أشهر كمان؟؟ |
:ـ. كده أمّي قالت في المحكمة. |
:ـ. طيب قل لي... فين بَدْلتك البحّاري... ليه ما لبستها لمّا رحت المحكمة؟؟ |
:ـ. عند أمّي.. وهيّه تقول ألبسها لمّا يجي العيد. |
:ـ. طيب ومتى يجي العيد يا عزيز.. |
:ـ. العيد الكبير..؟؟؟ ما أدري. |
:ـ. لا.. خلاص، بعد كم يوم الناس يحجّوا... ولمّا ينزلوا من عرفات يجي العيد الكبير. |
:ـ. أمّي قالت، في العيد الكبير، ندبح طَلي كبير.. |
:ـ. ونحن كمان.. وكلَّ الناس لازم يدبحوا الطليان.. في العيد الكبير. |
:ـ. بس ليه؟؟؟ ليه يدبحوا الطليان.. الطليان طيبين ما يئذوا أحد.. لو يدبحوا الكلاب اللي بِتْهَوْهِوْ، طول الليل، وتخوفنا مو أحسن؟ |
وقهقهت قهقهة عالية... وعادت تضمني إلى صدرها، وهي تقول: |
:ـ. والله صادق يا عزيز.. يا ريت يدبحوا الكلاب.. يدبحوهم كلّهم.. |
:ـ. أيوه.. بس هادول ما أحد يقدر يمسكهم زي الطليان.. هادول يعضّوا.. ويأكلوا اللي يمسكهم. |
* * * |
كان الحوار، ونحن نتناول غذاءنا في بيت الخالة فاطمة وعلى مائدتها، يدور بين أمي وبين الخالة فاطمة، وحتى منكشة، عن تفاصيل ماتم في المحكمة... كانت أمّي رغم عبارات الترفيه والتسرية التي ظلّت تفضى بها الخالة فاطمة، كانت لا تخفي استياءها أو هو مشاعر الحزن التي تملأ نفسها.. وسمعتها تقول: |
:ـ. الحقيقة يا خالة... أنا ما عاشرت زاهد الا ثلاثة سنين... وسافر لمّا كان عمر عزيز تسعة أشهر.. وعبد الغفور في بطني.. لكن زاهد كان بيتمنّى أنو يسير صاحب حلقة في الحرم.. يسير من العلما.. أنتي عارفة أنو صلىّ التراويح ليلة 27 بالختمة كلهّا من ((الفاتحة))، إلى ((قل أعوذ برب الناس...)) وعشان كده أنا ما أصدق أنو يكون حي، وما يرسل خبر.. أو نفقة زي ما قال القاضي.. لازم.. وأختنق صوتها بالعبرات... قبل أن تكمل جملتها لتقول: |
:ـ. لازم مات. بس مات فين؟؟؟ في بلده ـ أورونبورغ ـ ولا في الطريق؟؟؟ ولا في اسطمبول وهّوه راجع أيام الحرب؟؟؟ هادا اللي ما أحد يدري عنّه |
وهنا قالت الخالة فاطمة:ـ. |
:ـ. قوليلي يا فاطمة.. لو رجع أو جاكي عنّه خبر إنُّو جَيْ.. بعدما يحكم القاضي بطلاقك منّه.. ِترْضي ترجعليه.؟؟؟ ولا.. |
ولم تكمل جملتها.. بل رددّت (ولا) هذه مرتين.. وأدركت أو حزرت أنها تريد أن تقول:ـ. ترجعيله ولا تتزوجي غيره؟؟؟ |
ولم يطل انتظار جواب أمّي فقد أسرعت تقول: |
:ـ. أرجعله يا خالة.. هادا أبو عزيز.. يا ترى مين رايح يربّي عزيز غير أبوه؟؟ |
أيش يدرّيني يا خالة، كيف رايح عزيز يعيش مع جوز الأم.؟؟؟ |
ومرة أخرى أختنقت بالعبرات وهي تقول: |
:ـ. أنتي عارفة... عزيز دايما ينام جنبي... عمره ما نام لوحده.. ولا حتى مع منكشة وهنا أحسست أنا، بما يشبه لطمة قاسية تنهال على قلبي... إذ أدركت لأول مرة أني لن أنام إلى جانبها إذا ما تزوجت، ووجدت نفسي أتساءل: |
:ـ. ترى كيف؟؟؟ كيف تنام هي مع رجل؟؟؟ وأين أنام أنا؟؟؟ وحدي؟؟؟ ومع منكشة؟؟ ورغم حرارة هذه الأسئلة فقد فوجئت بأني أتمنّى.. لو أنام إلى جانب بدريّة.. وألقيت عليها نظرة... بهرني جمالهُا، ولاحظتُ لأول مرة أن في الجانب الأيسر من جيدها (خالاَ) صغيراً يتألّق، بحيث قررت بيني وبين نفسي.. أن أنتهز أول فرصة تضمني فيها، لأقبل هذا الخال.. |
* * * |
كان لابد لي أن أعود إلى عدِّ أيام الأشهر الثلاثة... (الكينالاروش) في مخبئها ومايزال في الكيس الصغير الكفاية من حبات الفاصوليا... أخذت ألقى بها في الزجاجة يوما بعد يوم في انتظار انقضاء أيام الأشهر الثلاثة، وهي كما علمت من أمي تسعون يوما.. ومع كل يوم كان يكبر في نفسي الأحساس بالفجيعة.. فجيعة أني سأنام وحدي.. وأن أمي.. أجل أمّي ستنام مع رجل هو زوجها.. ومع ذلك فقد كنت أتمسّك بأمل ظل حياً، ولكن دون أن أفصح عنه لأي مخلوق حولي.. وهو أن أبي هذا يمكن أن يدخل علينا في أي لحظة.. صحيح أن أمي قالت أنه لابد أن يكون قد مات.. ولكن لم لا يكون في الطريق.. والطريق يمكن أن يكون طويلا جدا.. أطول من ذلك الذي قطعناه إلى الشام ومنها إلى المدينة.. ومن يدري فقد يكون يقطع هذه المسافات البعيدة جداً مشيا على قدميه... ربمّا لم يَبقَ (بابور).. ولا باخرة.. حتى ولا جَمل... |
أنتهت الأشهر الثلاثة اخيرا.. وجاء العم محمد سعيد يقول: |
:ـ يوم السبت يا بنتي تروحي المحكمة عشان تستلمي الحكم. |
* * * |
|