خشب ((الكينا)) وحبوب ((منكشة))
|
مع بداية أيام الصيف، لم نعد نستطيع النوم في المجالس، وكان السطح ـ ويسمونه في المدينه ((السطوح)) ـ هو الملاذ... أما السهرة اوهو الوقت إلى مابعد صلاة العشاء فقد كان الديوان هو المكان الذي نقلنا اثاث المجلس اليه... ولا أنسى ابدا ان تلك (الحنية) اللعينة، التي اخرج الزاكور ذلك الثعبان الهائل منها، تقع على يمين الداخل إلى هذا الديوان. وقد ظللنا بعد نقل الأثاث اليه أياما وليالي طويلة نتوقع ان تطلع علينا منكشة بخبر جديد عن (ساكن) من أبناء أو احفاد الساكن الذي اخرجه الزاكور. ولذلك لم يكن لنا مفر من ان نتحمل المخاوف، وان تستعين أمى كل ليلة جمعة، وليلة اثنين بقراءة أدعية، وسور من القرآن الكريم، وهذا مع البخور، الذي قالت الخالة فاطمة جادة، انها هي التي جمعت مواده من العطار بنفسها، كما تعلمت اسماء هذه المواد من أمها، التي تلقتها بدورها عن الجدة (ألف رحمة عليها...) |
وفى ذات ليلة، بعد ان فرغنا من وجبة العشاء في الديوان، وصعدنا إلى السطح، وقد بسطت (منكشة) فيه فراشنا، و (برادية) الماء، وما كدنا نستلقى لنستسلم للنوم، حتى سمعت انفاس أمى تتلاحق، وجسمها بجانبى يرتعش أو ينتفض، وهى تقول لمنكشة: |
:ـ. الحقيني باللحاف... قوام... |
واسرعت منكشه تهبط الدرج الطويلةَ إلى الديوان أو إلى اى مكان وضع فيه اللحاف من البيت وعادت به، والقته على جسم أمى، ومع ذلك، فقد ظلت تنتفض واسنانها تصطك وسرعان ما تذكرت انا، انها تلك الحمى التي لازمتها أياما أو شهورا منذ كنا في حلب، ولم تشف منها، أو معاودتها في وقتها المحدد (بعد العصر)، الا بعد وقت طويل من عودتنا عن طريق ينبع (على الجمل النطاطي) إلى المدينه. بل تذكرت (خشب الكينا)، الذي ظلت أمى تحرص على شرب منقوعه أو مطبوخه فترة طويله من اوائل ايامنا في المدينة. |
اقتربت منها، بل دخلت معها تحت اللحاف... وكانت المرة اللأولى التي وجدت نفسي فيها اضمها إلى جسمي بحرارة، وفى نفسي من القلق والخوف، مالم يسبق ان احسست بمثله قط... وتنبهت هي الي حركتى، فاحاطتني بذراعها، وهي ماتزال تنتفض، واسنانها تصطك، وهي تقول: |
:ـ. لاتخاف... انا طيبة... هادى الحمى اللي انت عارفها... دحين أدفا وتروح. |
:ـ. طيب ليه ما تجيب لك دادة منكشة قاروة خشب الكينا من تحت ؟؟؟ |
أجابت وهي تنتفض والكلمات تتبعثر: |
:ـ. خشب الكينا... ماعاد جبناه... بكرة تروح منكشة تشترى لنا... هيّا نام... ولكن كان مستحيلا ان أنام، وهي تنتفض، واسنانها تصطك وجسمها كلهّ يتأرجح على الفراش... وساد بيننا صمت استمر ربّما دقائق، وذراعي تحيط بها، ثم سمعتها تتكلّم كلاما طويلا، يتقطع، ويتناثر، بحيث ادركت انه مايسمّونه (الهدرشة)، التي يهذى بها المحموم... ولكن كانت هناك كلمات ذكَرتنى بحكاية زواجها... وحكاية غياب ابي، وعدم وصول اى خبر عنه منذ سافر وحتى اليوم... وكانت اوضح جملة قالتها:ـ. |
:ـ. يعني كان لازم ؟؟؟ لازم يروح يجمع لهادي الجامعه الاسّلامية فلوس ؟؟؟ والسلطان اللى قالوا أنّو هوّه اللى أمر.... |
ويبدو انها بعد ذلك اخذت تدفأ وترتفع درجة حرارتها، وتتصيّب عرقا، فرفعت صوتها، وطلبت من منكشة بالتركيه ان تأتيها بغيار ملابسها، وبمنشفة تجفف بها العرق... |
* * * |
ومنذ تلك الليلة، التي عادت فيها الملاريا، اخذت الأمّور تسير في اتجاه جديد اذ عندما عادت منكشة في اليوم التالى، بزنبيلها، وفيه ماتسوَقتْه من اللحم والخضار اخرجت من الزنبيل زجاجة سوداء كبيرة ومختومة الفوّهة بلون أحمر... ووضعت يدها في صدرها لتخرج علبه صغيرة، فتحتها، لتخرج منها حبّه بيضاء وهي تقول بالتركية كلاما فهمت فيما بعد ـ وبالتدريج ـ ان في الزجاجة الكبيرة دواء للحمى اسمه (كينا لا روش) وان هذه الحبوب هي حبوب الكينا... وان على أمّى ان تتناول حبَتين في اوقات محددة، وان تشرب من هذه الزجاجة، بالكاس التي تصاحبها، وهي كأس صغيرة مرقمة. ثلاث مرات في اليوم. |
وظل الحديث يدور بين أمى وبين منكشة باللغة التركية وقد حزرت، انها جاءت بهذه الأدوية من (دكتور) تعرفه، وكانت تقوم بخدمته قبل خروج الاتراك من المدينة وأنَه لم يخرج مع الباشا، لانَه كان مريضا طريح الفراش، وهو مايزال منهكا، وهي تقوم بزيارته وخدمته، كلَما خرجت للتسوق... ثم اخذت تكرر اسفها واعتذارها عن تصرفها بدون اذن أمى ودون ان تقول لها شيئا عن (الدكتور) إلى ذلك اليوم. |
وقد ظلَت الملاريا تعاود أمّى بضعة أيام أو اسابيع، بحيث فرغت الزجاجة الكبيرة والحبوب فاذا بالدادة تجي بزجاجة اخرى، وكمية من هذه الحبوب البيضاء... وتوقفت نوبة الحمّى في النهاية فعلا... ولكن اخبار (الكينا لا روش)، والحبوب البيضاء، التي اراد الله ان تشفى بها أمّى، اخذت تنتشر، بين النسوة اللائي نزورهن او يزرْننا، لان حمَى الملاريا كانت منتشرة في اكثر البيوت، بل بلغ من انتشارها انها كانت مرضا مألوفا أو مستوطنا. وكان اعتماد الناس على ادوية العطارين من جهة، وعلى خشب الكينا، الذي عرفه بعضهم من الشام من جهة اخرى... ومع انتشار هذه الاخبار، بدأت حملة اللأسئلة والاستفسار عن هذا (الدكتور)... اين يجدْنه ؟؟؟ ومادام تركيا فلماذا لم يسافر مع الأتراك ؟؟؟ هل هو من الأسرى الذين يرحَلهم الشريف إلى ينبع ومنها إلى الهند ؟؟؟؟ وبعض الأسرى مسجونون في (القشلة) فهل هو معهم ؟؟؟ واذا كان معهم فكيف تصل اليه منكشة ؟؟؟ |
كنت اسمع هذه الأسئلة، وفى نفس الوقت، اسمع من تقول لمنكشة..: ـ. |
: ـ. طيب... ماتشوفي لنا نحن كمان شويّة حبوب.. وهادا الشراب اللى بتجيبيه لبنتك. |
وتلتزم منكشة الصمت المطبق وبعد ان تنتهي الجلسة، تأخذ في الحديث مع أمّى ومحوره دائما هو (الدكتور) الذي افهم من بعض ماتقوله انّه قد استرد شيئا من صحته الآن... وقد وجد خادمة عجوزا، هي زوجة من قالت ان اسمه الحاج اسماعيل أو (اسماعيل بابا) كان يعمل خادما لامام (الطابور)... وهو، أوْهُم ينادون الخادمة العجوز بكلمة (باجي) التي تجيد طهو وتجهيز أنواعا من المآكل التركية... وزادت في ذات يوم على اخبارها انهم ـ ولا ادرى من تقصد ـ قد أعادوا اليه العساكر الذين كانو في خدمته قبل خروج الباشا من المدينة... وهما اثنان من العساكر الأتراك، اسم احدهما (محمد على) واسم الآخر (اسماعيل أويغور)... |
ولا ينبغي ان اخفي، انى اخذت الاحظ اهتمام أمّى باخبار منكشة عن (الدكتور). بل لاحظت انها لم تكن تؤنبّها أو تؤاخذها على غيابها في التسوق، لانّه قد اصبح من المفهوم أو المسلّم به انها تكون في خدمة الدكتور، وان كان هذا الدكتور، لم يعد محتاجا لخدمتها بعد ان وجد (الباجي) التي تجيد طهو انواع المآكل التركية، وبعدان اعادواالى خدمته (الجنديين)... بل لقد لاحظت، ان الحديث، بينها وبين الخالة فاطمة بالذات كان يدور عمّا سمعته من منكشة عن (الدكتور)... إلى ان حدث ان جاءت بدرية ذات يوم تجبر امّها ان زوجها (عبد المنان) يلازم الفراش منذ ثلاثة أيام، لأنّه يشكو مّما يسمّونها (العُصرْة) وانها قد جرَبت له ما وصفته لها الخالة فاطمة، وهو (الخولَنْجان) ومنقوع (العفْص)، ولكن بدون فائدة... اصبح الآن يذهب إلى (بيت الماء) اكثر من عشرين مرة في النهار ومثلها في الليل... |
كانت أمّى تصغي إلى حديث بدريّة، وفى نفس الوقت تلتفت بنظراتها إلى منكشة ولكن دون ان تقول شيئا... إلى ان قالت الخالة فاطمة: |
:ـ. مادام الخولنجان وموية العفص ماوقفت التردد على (بيت الماء)... ياريت يابنتي يافاطمة، تخلّى منكشة تجيب له دوا من الدكتور اللى تعرفه. |
والتزمت منكشة من جانبها صمت القبور... رغم ان الخالة فاطمة كانت تلتفت اليها وهي تتحدث إلى أمّى... وتساءلت بدرية من جانبها عن هذا (الدكتور)، فاخذت امّها تزوّدها باخباره التي سمعتها من أمّى... واضافت: |
:ـ. باين عليه دكتور على أصلُه... احسن من (أمين افندى) إلى في (خستخانة) الغربا واللى ماراح له احد عشان يكشف عليه، يقول له: (اشرب الموية بعدما تفوَرها... ولا تنام بدون ناموسية)... وما يعطيله الدوا الا على قد ما يكفي يوم واحد أو يومين... اصلهم بيقولوا.. (خستخانة) الغربا هادى، ما عاد فيها ادوية. |
* * * |
واخذتْ المعلومات عن (الدكتور) تتطوَر، فقد وافقت منكشة اخيرا ان تذهب اليه وترجوه، ان يقوم بزيارة زوج بدرية... لان حالته تزداد خطورة يوما بعد يوم... وهو لا يستطيع ان يغادرالفراش ابدا ليجى إلى الدكتور في منزله. |
وحتى ذلك اليوم، لم تقل منكشة شيئا عن منزل، أو محل عمل الدكتور... وقد فهمنا فيما بعد، انه هو الذي كان يحذرها من ان تخبر احدا عن موقع منزله... ولكنهما لم ترما يمنع ان ترجوه ان يقوم بزيارة عبد المنّان... |
وكانت المفاجأة، التي ظلَت تختزنها وتخفيها منكشة، عن الجميع، هي ان (الدكتور) يسكن في منزل لايبعد كثيرا عن زقاق القفل الذي نسكن فيه... وعلى التحديد في (زقاق الطوال). وهو احد الأزقة المتفرعة من الشارع الرئيسي في حي الساحة. ولذلك، فأنها حين ذهبت لاصطحابه إلى بيت (عبد المنّان) الذي يقع هو ايضا في هذا الزقاق، ولكن في آخره، وكانت معها الخالة فاطمة بنفسها، ترشدها إلى بيت عبد المنّان، ازيح الستار اخيرا عن بيت (الدكتور: |
* * * |
كان الحديث عن الدكتور وعن براعته ويده (المبروكة) لاينتهى، كلّما اجتمع النسوة عندنا، فقد كشف على عبد المنّان... واعطاه الدواء الذي اوقف (العصرة) وآلامها في اقل من ثلاثة أيام... وكانت بدرية تشكو من سعلة و (لَبْطَة) شديدة، فاعطاها الدواء الذي شفيت به من السلعة ولم تعد تشكو من شيء... وكان موضوع الدهشة والاستغراب عندهن جميعا، انَه يرفض ان ياخذ (القدمية) أو قيمة الأدوية... بالعكس، كان هو الذي يدفع (المجيدى) للمرضى الذين يراجعونه في منزله، لشراء ما ينصحهم بتناوله من الأغذية الدسمة، وهذا ماكان يرويه عبد المنّان الذي اعتاد ان يراجعه في منزله ويرى بعض المرضى الفقراء الذين يشكون من الدكتور (امين افندى) في (خستخانة) الغرباء |
كل هذا كان يدور وكنت الا حظ ما يبدو على أمّى من الأرتياح وهي تسمع الثناء عليه، إلى ان فاجأتنا منكشة ذات يوم، وقد عادت بزنبيلها من السوق، وهي تحمل (صينية) متوسّطة الحجم، تفوح منها نكهة لذيذة مشهّية...وقالت باختصار انها هدية (الباجى) التي تخدم الدكتور إلى أمّى. وكانت الأكلة التي يسمّونها (صوبرُيك).. |
لم تستطع أمّى ان ترفض الهدية... ولكنّها انتهرت منكشة، وحذرتها ان تحمل مرة اخرى أي هدية من (الباجي)، أو غيره.... واضافت: |
:ـ. انا اعرف (الصوبرُيك) وأعرف اسوّيه كمان... وما ابغا ازعّلك. لكن هادى آخر مرة.. |
* * * |
وعلى غير عادتها، اقترحت منكشة ذات يوم، قبيل المغرب ان تأذن لها أمى بزيارة الخالة فاطمة جادة... وزعمت انها تريد ان تتحدث اليها في امر يخص (بدريّة)... ورغم الحاح أمّى عليها ان تخبرها عن هذا الأمّر فقد اصرت العجوز على ان لاتفضي بشيء.. |
وقبيل صلاة العشاء في نفس اليوم... زارتنا الخالة فاطمة ـ على غير انتظار... وحين رأتنى جالسا، في ركن الديوان قالت |
:ـ. ياعزيز ياولدى... روح شوف بدريّة في البيت تبغاك.. |
وادركت، انها تريد ان تتحدث إلى أمى، حديثا تحاول ان تخفيه عنّى... ولا حاجة بي إلى القول، انى فرحت بأن بدريّة هي التي تريد ان تراني... فنهضت، واسرعت بالذهاب.. وارتفع صوت المؤذن لصلاة العشاء... بل وانقضت فترة طويلة، قبل ان تعود الخالة فاطمة إلى منزلها وتقول لى ان أمي تنتظرنى.. وان منكشة عند الباب... وكانت هذه هي الطريقة التي تلتزمها أمّي في حراستى، أو تشجيعي على العودة إلى المنزل في الليل. |
* * * |
لم استطع ان افهم اى شيء عن الحديث الذي داربين الخالة فاطمة، وبين أمّي بعد ان ذهبت اليها منكشة... ولكنى لم استبعد ان الموضوع له علاقة بحكاية زواجها أو بحكاية ابى الذي لم تصلنا عنه اخبار... ولكن ماهي علاقة الخالة فاطمة بكل هذا ؟؟؟ ثم ما هو دور منكشة اذا كان هناك كلام عن الزواج.. |
ولم يطل بي انتظارالأجابة على هذه الأسئلة... اذ فوجئت في احد أيام الأسبوع التالي، بالدادة منكشة، ومعها الخالة فاطمة، ينتظران ان تذهب أمّى معهما إلى بيت الدكتور.. |
* * * |
|