الأولاد على الحصوة.. |
وفي ذلك المجلس، الذي شهد تلك الليلة التي لا تنسى... وما زلت أسميها (ليلة خاتون الهندية)، تلاحقت ليالٍ كثيرة، واخذ يتكاثر عدد النساء اللاتي يزرننا أو هن يسهرْن عندنا بعد الغروب. كما أخذت تتعدد الأمسيات التي نذهب ـ أمي وأنا ـ لقضائها عند صديقاتها، ومعارفها الكثيرات... وبطبيعة الحال، كان مجلس الخالة فاطمة... أعني بيتها ـ هو أحب المجالس والبيوت عندي، لأني اجد فيه (بدرية) بكل ما كنت أشعر أنها تخصني به من الرعاية والعطف والمزاح بكلمات مثل (قصمة افرنج) و (العفريت)... و (رجّال البيت)... الخ... ولم يكن يحز في نفسي شيء، كما كان يحزّ فيها الليلة التي لا تجي أولا تكون موجودة فيها عندنا ولا عند أمها... كنت أفهم من الخالة فاطمة أن زوجها، (عنده ضيوف)... ولذلك فهي لا تستطيع أن تجيء وكان يتعذر عليّ، أن أفهم العلاقة بين الضيوف الذين يجيئون عند زوجها وبين تخلفها عن المجئ... واقتضى الأمر وقتاً اصبحت أدرك معه، أن عليها أن تجهز لضيوف زوجها الشاي، وربمّا التعتيمية، أو حتى العشاء.. |
ولم تنقطع، في كل اجتماع أو سهرة، سواء عندنا، أو عند الأخريات من صديقات أمّي الاحاديث عن أبي... بحيث أصبح من المألوف عندي أن أسمع، احداهن وهي لا تكاد تواجه أمّي مسلِّمه، أو معانقة، كما هي عادة النساء، حتى تهمس أو تقول دون حذر: |
:ـ. لسه يا فاطمة؟؟؟ |
وافهم أنا من هذه الجملة على قصرها انها تسأل عنه... عن أبي... هل ماتزال الأخبار عنه منقطعة... ألم تسمع عنه شيئا؟؟؟ ألم يره احد في اسطمبول؟؟؟ فلان مّمن سافروا قبل الحرب.. يقال أنه الآن في الشام... لماذا لا تكتبون اليه تسألونه عنه؟؟؟ يجوز أنه يعرف عنه شيئا. |
ولم تكن أمّي تحير جوابا... ما أكثر ما كنت أراها ترتبك، ويبدو عليها الضيق، ولكنها ـ رغم ذلك ـ تردد نفس الأجابة التي تعبّر عن الكثير من الرجاء في لطف الله وكرمه أن لم تكن تحمل الكثير من اليأس، بل والرغبة الصامتة في أن لا تسمع هذه الاسئلة من أي مخلوق. وهي: الله كريم. |
وفي ذات ليلة، عدنا معا إلى البيت، بعد صلاة العشاء في الحرم... كانت يدي في يدها كما هي العادة منذ كنا في الشام... لمحنا العم صادق، في دكانه على رأس الزقاق... فاستوقفنا وهو يقول: |
:ـ. كيف حالك يا بنتي يا فاطمة؟؟؟ البنات عندي، بيقولوا لي كلام فرَّحني يا بنتي. |
:ـ. خير يا عم صادق... ايش قالوا؟؟؟ |
:ـ. بيقولوا... يعني... يعني... انتي ما تدري؟؟؟ |
:ـ. أدري؟؟؟ عن ايه يا عم صادق؟؟؟ |
:ـ. طيب... طيب... مووقْته... بعدين... بعدين تجيكي سعدية، وتقول لك... هيّا تصبحي على خير. |
ونمشي، حيث نتسلل في ذلك الزقاق المظلم، لنرى الأنوار الخافتة في المجالس، على جانبي الزقاق، ومنها نور المجلس في بيتنا فنفهم، ان ((منكشة)) هناك، وانها تنتظرنا وقد جهزت لنا العشاء. |
وفي ذلك الدهليز المعتم الرهيب، نرى (المسرجة)، تضيء لنا الطريق إلى المجلس، فاذا أحسّت منكشة بوقع خطواتنا، تسرع رغم ثقل خطواتها وفي يدها (اللمبة)، وأحيانا (القمرية)، تضي لنا السلالم... وترحب بنا بكلمات الترحيب التركية التي أصبحت اتقنها أنا ايضا وأتقن كلمات الشكر على الترحيب... ولا نكاد نستقر في المجلس، حتى تأخذ في تزويدنا بآخر أخبار الزقاق... ومنها أخبار الحج عبد الرحيم، الذي سمعت أنه تخاصم مع (البيبي)... وان خاتون غاضبة، لأن البيبي، تصر على السفر إلى مكة، لأنها لم تجيء من الهند الا للحج... وها هو وقت الحج قد اقترب، والحج عبد الرحيم يؤجل، ويقول انه هو قد حج عدة مرات... ولابد أن يجد لها من يرافقها.. وهو لا يجد هذا الذي يرافقها في هذه الأيام. ومن الأخبار التي تحرص منكشة على أن لا تفوتنا، ولا ادري من أين تجيئها، أخبار (فخري باشا)، (والباديشاه) وهو (السلطان)... وقد سمعت، ان الباشا لابد أن يعود إلى المدينة... لأن السلطان، غضب عليه وأمره بالعودة مهما كلفه الأمر.. فاذا ضحكت أمّي ساخرة من هذا النوع من الأخبار، وقالت لها إن (الباشا) لن يعود... وأن (الباديشاه) نفسه، أصبح لا يستطيع الخروج من (يلديز)، لأن النصارى قد دخلوا اسطمْبول فإن منكشة، تبدو وكأن أحدا قد ضربها على أم راسها... اذ سرعان ما تضع يديها على رأسها، وتأخذ في ترديد كلمة اعتقد الآن انها نوع من الاستغاثة بالله: |
:ـ. أمان... أمان باربي... |
وافهم انا، ان منكشة، مؤمنة بأن الباشا، لابد أن يعود... وان (الباديشاه) مخلوق لا يمكن أن يموت أو يمس بسوء من أي نوع... وارى منكشة بعد ذلك، تمسح دمعة اندرفت من عينيها، ثم تخرج من المجلس، لتجهز لنا العشاء. |
وعلى المائدة... على الارض، ونحن نتناول عشاءنا... تأخذ منكشة، في الكلام بلغتها التركية التي أصبحت أفهم الكثير منها... تأخذ في الكلام عن (أبي)... وأنه لابد أن يعود، وأن يصل في اليوم الذي يصل فيه فخري باشا... فاذا انتهزتْها أمي بلطف وحذرتها من الكلام عن أبي، فإنها تشرع في ملء اكواب الشاي، وهي تقول بما معناه: |
:ـ. حسنا... واذا لم يعدْ هو... ولا الباشا... فهل تظلين تنتظرينه؟؟؟ |
ويبدو الضيق الشديد على أمي.. فتضطر إلى رفع صوتها، منهية الكلام... وهي تقول... |
:ـ. يادادة منكشة... الف مرة بأقول لك... ما ابغاكي تجيبي هادي السيرة... تقول أمي هذه الكلمات بالعربية.. وكأنها تريد أن أفهم أنا أيضا أنها لا تحب أن تسمع هذه (السيرة)... |
من جانبي، كنت التزم الصمت بالطبع، ولكن أي صمت؟؟؟ انه صمت يجد طريقه إلى اعماق نفسي، ليقول الكثير، الكثير الذي يدور حول هذه السيرة بالذات؟؟؟ وكانت بداية الدوامة، عند هذا المخلوق الذي هو أبي... كيف؟؟؟ كيف يعود الناس جميعا من البلدان التي سافروا اليها، ـ كما سافرنا نحن ـ وهو وحده الذي لا يعود. اتراه قد مات؟؟؟ كثيرون... كثيرون جدا، قد ماتوا في الشام... وفي حلب... رايتهم بعيني ينقلون في تلك العربات الطويلة التي تجرها البغال... ليدفنوا... مع بعض... في الحفر الكبيرة، في تلك المقبرة... وربما في غيرها من المقابر التي أصبحت أعي الآن أنها لابد أن تكون موجودة ليس في الشام وحلب فقط، وانما في كل بلد من بلدان الدنيا.. فإذا كان قد مات... فكيف لم يعلم بموته أحد.؟؟؟ كيف لم تعلم بموته أمي، وهي التي مات على يدها، عبد الغفور ـ أخي ـ وعبد المعين... وخالتي... وجدي... وقبلهم جميعا جدتي حميدة التي قالوا لي أنها في الجنّة وانا اتصورها دائما، وفي يدها ليّ الشيشة مثل الخالة فاطمة، في هذه الجنة التي يذهب اليها جميع الذين يموتون... وأجد نفسي، كأني اتعزّى عن موت أبي... إذْ قول: إذْ كان قد مات فعلا.. فهو أيضا في تلك الجنة... ولكن هنا يستوقفني سؤال عن سبب موته... هل هي هذه التي يسمونها (الشوطة) ؟؟؟ وقد اخترمت أرواح الألوف من الناس؟؟؟ اتراه قد سقط ميتا في الشارع... على أحد أرصفة الشوارع، التي كان يتساقط عليها الذين يموتون، وتجيء عربة نقل الموتى تلتقطهم، وتذهب بهم إلى هناك؟؟.. ثم هل كان جنديا؟؟؟ لقد سمعت أكثر من مرة أن الجنود يموتون بالرصاص... وبالمدافع... وانهم يتركون حيث يسقطون، ولا يدفنون الا بعد وقت طويل.. لاشك أبدا انه قد مات هكذا بشكل من هذه الأشكال... ولذلك فإن الذين ماتوا على يد أمي كانوا أحسن حظا وحالا... وما زلت اذكر كيف أراقت أمي على جثمان جدي قبل أن يحملوه ويذهبوا به، عطْر الورد الذي قالت أنه من عطر (الحجرة)... |
والعجيب بعد ذلك، أني لم أكن اشعر بالحزن والأسى رغم كل الصور التي أتصورها لموته... مع أني ماأزال أشعر بحرقة الحزن، والأسى، لموت خالتي خديجة، وبعدها جدي... حتى هذه اللحظات التي اكتب فيها هذه السطور، لا أشعر بالحزن عليه ميتا، غائبا... كان الشعور الذي يمزق نفسي عندما أرى الأولاد في أيدي آبائهم في الحرم أو في الاسواق هو أني دائما في يد أمي... ربما نوع من الغيرة، ولكنه ليس الحزن أو الأسى أو التفجع على موته أو غيابه.. وأذكر اليوم... بعد أن أخذت مراحل العمر تنطوي واحدة بعد الأخرى لأصل إلى مرحلة الشباب، أني تشاجرت معى أمي شجارا عنيفا، لأنها وهي تتحدث عنه، وعن الليلة التي صلى فيها التروايح في الحرم، وختم (الختمة) كلها في تلك الليلة من ليالي رمضان، رأيت في عينيها دموعاً... مما اشعرني أنها تبكي عليه أو على ذكراه... وسمعتها تتنهد وتترحم عليه... اذكر أني انفجرت فيها اقول: |
:ـ. تبكي عليه؟؟؟ وتدعي له بالرحمة؟؟؟ ليه؟؟؟ |
:ـ. هادا أبوك يا عزيز. |
:ـ. طيب انا عارف انو أبويا... لكن كيف سافر؟... وفضل مسافر؟.. وما عرف يرسل لك كلمة... كلمة وحدة يقول لك فيها هوه فين؟؟؟ |
:ـ. يا عزيز... قلت لك الف مرة أنو سافر عشان يجمع تبرعات لهادي اللي بيسموها الجامعة الاسلامية... سافر... مع اللي سافروا قبل (سفر برلك)... وفضل مسافر عشان الحرب... الحرب، اللي قفلت الطريق بيننا وبين روسيا... |
:ـ. طيب... لكن الحرب انتهت من زمان... انتهت يا أمي... والطرق كلها انفتحت. |
:ـ. انت عارف انها انفتحت... ولكنها رجعت انقفلت... عشان هادول الروس اللي بيسموهم البلشفيك... |
ولا أذكر كيف، وجدت نفسي، ارفع صوتي محنقا، وأقول لها كلاما فيه ما لا ينبغي ان يقوله ابن عن ابيه... وكانت لا تتساهل ابدا، في ان يرتفع صوتي امامها، ليس فقط من اجل موضوع ابي، وانما لاي سبب من الأسباب... فاخذت تعنفني تعنيفا شديدا... ومما قالته رحمها الله: |
:ـ. انه سبب وجودك في الدنيا... ولا أحد يدري ما الذي منعه أن يعود... وواجبك أن تترحم عليه... |
* * * |
وظلت الأيام تتلاحق، ونحن في منزلنا ذلك في زقاق القفل... وظلت اسئلة النسوه لا تنقطع عن اخبار أبي... وحدث ذات مرة، أن زارتنا احداهن لأول مرة... وسألت عني (من أكون؟؟؟)... وعندما قالت لها أمي اني ابنها... وضعت يدها على كتفي وهي تقول: |
:ـ. مسكين... يتيم موكده؟؟؟ لابد من اللي ماتوا في الشام. |
فإذا بأمي، تنتفض، ويبدو عليها الحنق والغيظ... وهي تقول: |
:ـ. برَّه وبعيد... لا يا أختي... عزيز ما هو يتيم... |
ولم أكن اعرف معنى الكلمة... ولكني ادركت، بطبيعة الحال اني لست يتيما وان أبي ليس من الذين ماتوا في الشام. |
|