كيف أكون: عريسها..؟ |
حتى اللحظة التي سمعت فيها هذه الكلمة من أمّي، وهي ترد على ما سمعته من منكشة عن وجود (عريس)، لم يكن قد تبلور في ذهني معنى تلك الجملة التي قالتها الخالة فاطمة منذ أيام ثم رددتها بعد ذلك بدريّة أيضا وهي: (انت رجّال البيت)... ولكن لا شك أنها بعثت في نفسي احساسا غامضا بأن (البيت) ـ وهو في مفهومي يومئذ، هذا البيت الذي نسكنه في (زقاق القفل) ـ واخرج (الزاكور) من الحنية اللعينة فيه ذلك (الساكن) وقد فهمت انه ثعبان اسود كبير ثم ما جعل يتلاحق من الكلام، عن الاشباح، أو هم (الصُّلاح) الذين قالت منكشة انهاراتهم فيه... ان هذا البيت يحتاج إلى (رجّال)... وانى قد أصبحت هذا (الرجّال).. وان كنت لا أدري في الواقع ماذا ينبغي ان يقوم به (الرجّال) في بيت كهذا تملأه الثعابين والاشباخ اولئك الصُّلاح الذين قال أخيرا الحج عبد الرحيم انه رآهم في الدهليز، فهرب إلينا في المجلس وفرض علينا مع ابنته (خاتون)، وابنتها (ماشا الله)... وتلك (البيبي) الرهيبة، ان نترك لهم المجلس، لننام في السطح تحت ضوء القمر والنجوم.. بل كانت المعضلة الحادة المعقدة في ذهني، هي هؤلاء الاشباح أو (الصُّلاح) كما يسميهم الحج عبد الرحيم... كيف امكن ان تراهم (منكشة).. والحج عبد الرحيم... بل و (خاتون)، وان تكون أمي... وأنا.. الاثنين اللذين لم نر منهم احداً... ثم اي نوع من المخلوقات هم؟؟؟ واضح من الكلام الذي دار ويدور أنهم أدميون مثلنا.. ومثل جميع الرجال الذين نراهم في كل وقت... فما الذي يجعلهم مخيفين إلى هذا الحد؟؟؟ وما الذي يجعلهم يتخفُّون، ولا يظهرون الا في الظلام... وفي ثياب بيضاء وبلحى طويلة؟؟؟ ويتطلبون ان نحرق لهم البخور... وان توالى منكشة، والبيبي، وغيرها قراءة هذه الادعية التي ارى شفاههن تهتز بها، وهن مرعوبات، والحج عبد الرحيم يبلغ به الرعب ان تسري في وجهه صفرة الموت؟؟؟ |
على أية حال، يمكن القول اني فهمت من (رجّال البيت) هذه التي ارسلتها الخالة فاطمة ثم بعدها بدرية، أني مطالب بأن اتصرف كما يتصرف الرجال... ولكني ـ وانا اطيل التفكير في هذا الأمر ـ لم أملك الا ان اتساءل: كيف يتصرف الرجال يا ترى؟؟؟ الحج عبد الرحيم رجّال بالطبع ولكني رأيت وعايشت تصرفاته منذ اللحظة التي وصل فيها في الليل، وبيده ذلك المشعل الذي دخل به بيته، ثم قال ان مجهولا كان يطفئه عليه مرة بعد أخرى، فاضطر إلى أن يلجأ إلى (بيت الشيخ افندي) وان يجيء بابنته وحفيدته والبيبي الرهيبة، ليناموا عندنا ثم يهرب من الدهليز، الذي راى فيه (الصُّلاح) وحتى الشيخ أحمد صفا نفسه (جدي) ليلقي بطوله وعرضه على أرض المجلس بيننا.. هذا (رجّال) وهذا تصرفه... فما الذي يطلب مني أنا من التصرفات... وتذكرت في غمرة تفكيري الساذج، اني انا الذي فتح الباب، وانا الذي يتناول الجنيهات الذهب من العم عثمان الذي استاجر الدكانين، بينما تحتجب أمي عنه وعن كل رجل... واسترحت في النهاية إلى مفهوم بسيط وهو ان أمّي، ما دامت تحتجب بالملاية عندما تخرج، أو عندما تضطر لمقابلة اي رجل، فإنها لا تستطيع أبدا، ان تستغني عن رجل... وقلت لنفسي: (مازلت صغيرا... وبدرية قالت عني أني ((قصمة افرنج))... ولكن هاهي أمي تعتمد عليّ... ولا تخرج الا وانا في يدها... وحتى أيام كنا في حلب، ثم في الطريق منها... في القطار... وفي تلك الخيمة التي كانت تنام فيها وحدها تطحنها حمى الملاريا في القنطرة، واشترت لي من المجيدي الواحد الذي تملكه (البرشومي)... ثم في مكاننا على سطح الباخرة، التي انتقلنا بها إلى ينبع... ومنها على الجمل إلى المدينة... في جميع هذه الأحوال، كان لابد أن أكون في يدها... إلى جانبها في اليقظة وفي النوم على السواء... ولا يعني هذا شيئا الا أني، وان كنت صغيرا... فأنى (رجّال)... رجّالها... أو كما قالت الخالة فاطمة: (رجّال البيت). |
أمّا هذه الكلمة الجديدة، التي قالتها أمي نفسها هذه المرة وهي (عزيز هوَّه عريسي). فأني لم أفهم لها معنى،... لقد سمعت الكلمة قبل ذلك عن آخرين، تدور على السنة النساء، ليس في المدينة فقط، بل حتى في حلب، وحتى في كل حوار بين من يحدث ان تجتمع بهن أمي... بل تذكرت اني سمعتها قبل ذلك. وإحداهن تتحدث إلى خالتي خديجة، فتسألها عن (عريسها) متى يجيئ؟؟؟ وانها هي (عروسة) جميلة... الخ... فما معنى (عريس) هذه؟؟؟ وكيف اكون انا عريس أمّي؟؟؟ ودار بذهني أن (العريس) يجب أن يكون رجلاً... كبيرا، ان لم يكن كالعم محمد سعيد زوج الخالة فاطمة... أو كالحج عبد الرحيم أبو خاتون، فليس أقل من أن يكون كعبد المنان زوج بدريّة.... وانا؟؟؟... انا ما زلت طفلا، فكيف اكون عريسا؟؟؟ بل كيف يمكن ان اكون (عريس أمّي) ؟؟؟؟ |
ولكن، وفجأة!!! وانا اسمع صوت المؤذن لصلاة الفجر، وقد استيقظتُ من نومي وظللت مضطجعا إلى جانب أمي، واللحاف الجديد نلتحف به معا... فجأة طرأ على ذهني سؤال، كدت اوقظ أمّي لا وجهه اليها بالذات!!! وهو: لماذا أكون انا عريسها؟؟؟ وكيف ظلت هي حتى اليوم بدون عريس؟؟؟؟ في ذهني مفهوم غائم غامض، عن ان ابي هو (زاهد)... وانها هي (ففَّم) أمي... فلا بد أن يكون (زاهد) هذا الذي هو أبي... هو أيضا عريسها... فكيف اكون انا عريسها اذن؟؟؟ |
ولست ادري حتى اليوم، كيف احسست بما يشبه ارتجاجا عنيفا في صدري، أو هو يد صلبة قوية عصرت قلبي عصراً رهيبا ثم تركته... وذلك في اللحظة التي تذكرت فيها كلمة منكشة وهي تقول في حوارها مع الخالة فاطمة: (فاطمة هانم... عريس؟؟؟ عريس فيه...؟؟) وتذكرت في نفس الوقت ان منكشة قالت هذه الكلمة، بعد ان سمعت من الخالة فاطمة اعجابها بأمي في فستانها القطيفة وهي تردد (الف ما شاء لله.. الف ما شاء لله) ثم تقول: (ما يسير.. ما يسير يابنتي تستنيه وهوّه.. لاحِسْ ولا خبر...)... |
وانجلى في ذهني هنا، وفي هذه اللحظة، كل الغموض.. ولكن كان من المتعذر أو غير المعقول ان أربط، وارتب سلسلة المفاهيم التي تتابع، كل منها الاخرى... تبلورت الصورة في ذهني لتبعث في نفسي احساسا عميقا بالانكسار والحزن، لعلي لم احسه قبل هذه اللحظة طوال الأيام وعلى مر الأحداث، التي عشتها، منذ ذلك اليوم الذي غادرنا فيه هذا البيت بالذات، لنركب ذلك البابور إلى الشام... وظلت جملة الخالة فاطمة (ما يسير يا بنتي تستنيه، وهوّه لاحس ولاخبر..) تفرض نفسها ـ وبصوت الخالة ـ على ذهني عدة مرات... أنّه.. انه أبي... الذي (ما يسير تسنيّه)... ماذا يعني هذا يا ترى؟؟؟؟ بل ما الذي جعل منكشة، تعلق قائلة) (عريس فيه) ؟؟ فتقاطعها أمي غاضبة وتقول لها بحدة وعنف ان تسكت.. ثم تأخذني في حضنها لتقول: (عزيز هوّه عريسي...)... |
ولاشك أنهم قد تحدثوا في هذا الموضوع، أمّامي وعلى مسمع منى، وهم أو هنّ على الاّصح يعتقدون اني لا أفهم شيئا... والواقع اني دخلتُ دوّامة الغموض وعدم الفهم، وتعلقت بمحاولة الفهم، في نفس اللحظة التي كان رأسي على صدر أمي وهي تضمني بحرارة. وتقول: (عزيز هوّه عريسي...).. وها أنا الان افهم، ان منكشة تعرف (عريسا)... وانه (موجود) ايضا فالسؤال الذي لابد أن أجد اجابته عندها... عند هذه العجوز (منكشة) هو: |
من هو هذا العريس الموجود؟؟؟
|
كنت أنا الوحيد الذي استيقظ، وصوت الموذن يرتفع لصلاة الفجر... وكنت انا ايضا الوحيد الذي يستعيد في ذهنه، وفي اعماق نفسه، كلَّ ما سمعه، بعد ان ظهرت أمي بفستانها الجميل من القطيفة الحمراء... استعيد كل ما سمعت، واناقش أو أحاور، وادور حول الكثير الذي أصبح يحتاج عندي إلى مزيد من الفهم... أو إلى شيء من الاطمئنان إلى أن القليل الذي فهمته هو الواقع.. وهذا القليل هو؟؟؟؟ |
أحسست كان الدم يقف في عروقي، عند كلمة (هو...) هذه... اذ ما هو؟؟؟ لم اجرؤ أن اتمم الجملة ومضمونها... أحسست بالغثيان... وبالعرق البارد، كأنه يتدفق من جسمي كله... ومع اني كنت إلى جانبها... وتحت اللحاف، فقد احسست ببرد شديد... وأخيرا تقايأت فعلا... |
وانتفضت أمي من نومها وجلستْ، واسرعتْ تأخذني في حضنها وهي تردد: |
:ـ. ايش بك؟؟؟ ايش بك يا عزيز؟؟؟ |
ولم أكن في حالة تسمح بأن أقول شيئا... اذ بدا كأني قد أُغمي عليّ بعد الاستفراغ... وسمعتْ الحركة وصوتَ أمي المرتعب، الدادة منكشة.. فنهضت هي الأخرى واسرعت تستمع الواقع... فلما رأت وجهي... والفراش وقد انتشرت عليه السوائل التي افرغها جوفي، اسرعت تجيء، بما تمسح به الفراش، وبفوطة اخذتها أمي وشرعت تجفف بها وجهي... وهي تردد |
:ـ. عزيز... ايش بك يا عزيز؟؟؟ |
وسمعت منكشة تتكلم بالتركية، كلا ما معناه: انه البرد... وحلوى (المشبَّك) التي كانت بين اصناف التعتيمة التي أكلناها في الليل. ثم اسرعت مرة أخرى، رغم ثقل خطواتها، وجاءت بكاس من الماء، نَصحَتْ، ان ترش أمي به وجهي... |
ولم يطل الأمر... فقد استعدت قواي المتخاذلة... ووجدتُني، احيط عنق أمي وهي عاكفة عليَّ، بذراعي، واستدني وجهها إلى وجهي... وأنا انظر إلى عينيها... وزحمني البكاء، ولكني تماسكت، وبلعت ريقي بصعوبة، بينما انذرفت من عيني دموع لم أستطع امساكها... راتها أمي... ولم يخنها ذكاؤها، اذ لا شك عندي حتى اليوم، أنها قد حرزت ما اعانيه من انفعال وان السبب هو ذلك الحوار الذي دار بينها وبين الاخريات في الليل. |
فعادت توسعني ضمّا إلى صدرها وترفع وجهي بين يديها وتقلبني، ليس مرة واحدة.. وانما مرات وعدداً من القبلات النهمة المتلهفة... وحين فتحت عيني، رأيت الدموع تملأ وجهها... ولم تقل شيئا... كأنّها اكتفت بهذه الدموع، عن كل ما يمكن، أو ما ينبغي أن تقوله. ومن جانبي.. مع أني قد التزمت الصمت، وأحسست بالارتياح والرضى، حضنتها وذراعي ملتفة حول عنقها... فقد استطعت أن أكمل في ذهني أن القليل الذي أصبح الان مفهوما عندي هو أن منكشة عندها (عريس) لأمي... وان الخالة فاطمة جادة، تستنكر أن تظل أمي تنتظر هذا الذي طال انتظاره، بدون (حس ولا خبر)... ان تظل تنتظر (أبي) !! |
ومنذ ذلك الصباح، الذي عشت فيه، ما لم يسبق أن عشت مثله قط، من الانكسار والحزن والقلق والهواجس العاصفة، ساد بيني وبين أمّي نوع من التفاهم الصامت، الذي استغنى عن الكلام، بل حتى عن التلميح، حول موضوع أبي الذي ماتزال تنتظر عودته، رغم أن المدينة المنورة، كانت تشهد الآن، يوما بعد يوم قوافل الذين كتب الله لهم السلامة، وأصبحوا يعودون إلى منازلهم وأهلهم... بحيث أصبح يقول الناس انه لم يبق أحد، الا الذين ماتوا من الجوع والمرض (الشوطة) التي كانت تخترم أوراحهم بالعشرات والمئات، في كل يوم. |
ولكن الصمت، والحرص على تجنب الموضوع، لم يكن في الواقع يعني أنه تلاشى أو حتى توارى في نفسي أنا على الاقل... كلا... فقد وجدت نفسي، أعيش ظاهرة لا عهد لي بها من قبل، وهي حالة توقع أن يجي أبي في أي لحظة من ليل أو نهار... فلا أكاد أسمع الباب يطرق أو حركة مشي في الزقاق، أو صوت رجل يتحدث في البيوت القليلة المجاورة ومنها بيت الخالة فاطمة، وبيت خاتون... وبيت (النوار) الخ... حتى يقفز في نفسي وهم أنه (هو)... أبي قد وصل أخيرا بعد طول انتظار... ويتبدد الوهم بطبيعة الحال، ولكن التوقع فيما يشبه اليقين، يظل يلازمني دون انقطاع... ومع هذه الظاهرة، التي حرصت على أن أخفيها عن أمي، افترستْني حالة أخرى... ليست وهما، وانما هي انفعال صاخب عاصف، ينتابني، واحرص مع ذلك على أن لا يشعر به أحد، حتى أمي... وهو الغيظ، أو ربما الحقد، على الأطفال من سني الذين كنت أراهم، يمسكون بأيدي آبائهم، حين نذهب للصلاة، في الحرم بينما أنا امسك بيد أمي...لم أكن اجرؤ على أن أقول شيئا... إذ الواقع ماذا يمكن أن أقول؟ غير أن هؤلاء الأطفال كلهم... يمسكون بأيدي آبائهم.. أو يمشون إلى جانبهم.. وأنا... أنا فقط الذي امسك بيد أمّي وهي تمشي بي إلى (قفص الحريم)... بينما الأولاد كلهم على الحصوة مع الرجال... مع آبائهم. |
واعتقد أن أمّي من جانبها لم تكن اقل قلقا مني توقعا لعودة أبي... إذْ ما اكثر ما كانت، تسرع إلى من تسمع أنهم وصلوا من الشام أو من غيرها، من معارف أسرتنا، لتسأل عنه... هل سمعوا هم عنه؟؟؟ هل رأوه؟؟؟ هل عاد أحد من الذين سافروا معه لجمع التبرعات لبناء الجامعة الاسلامية من مسلمي الروسيا؟؟؟ وبطبيعة الحال لم يكن أحد يعلم شيئا... وخصوصا، وان كل الذين سافروا إلى تركيا أو الروسيا... لم يعد منهم أحد، لأن الطرق ماتزال مغلقة بسبب الحرب،... |
* * * |
|