((عزيز)) هوّه عريسي.. |
كان وجهه ممتقعا أصفر فعلا، وجسمه كله يرتعش، وأسنانه تصطك بحيث ذكرني بما كان يحدث لأمي حين تعاودها حمى الملاريا... كلّنا ظللنا ننظر إليه، ولاشك أننا نحن أيضا قد انتابنا خوف صاعق...... لم نتحرك من أماكننا... كل الذي استطاعت أن تفعله أمي هو ان تضع على رأسها شرشف الصلاة الذي تناولته بيدها... ولم يكتف الحج عبد الرحيم بهذه الاندفاعة الصاروخية، بل زاد على ذلك ان ظل يلتفت إلى الباب، بحيث جعلنا نتوقع أن هؤلاء الذين قال انهم ـ كلهم ـ في الدهليز، سيدخلون علينا... وكان مشهد (البيبي)، وقد حملقت عينيها تحت حاجبيها الكثين ورفعت كفيها، تملأهما ترتيلا، ثم تقذف بهما إلى الباب قد زاد من احساسنا بالرعب الصاعق، اذ توهّمتُ انا انها ترى القادمين، وتحاول صدّهم عن الدخول علينا بهذا الذي تقرأه وتملأ به الكفين. |
وارتمى الحج عبد الرحيم بطوله على الأرض وهو يقول بالهندية ايضا: |
:ـ. باني... بوني ليو. بهوتبيمار... |
وبطبيعة الحال لم يفهم احد منا شيئا... الدادة منكشة وأنا وأمي... ماذا يريد.. فهمته ابنته (خاتون)... فقالت تخاطب منكشة: بلهجة متعجّلة: |
:ـ. مويه... مويه قوام. |
ولكن منكشة... لم تتحرك، ولم تُعْنَ حتى بالالتفات إليها... وعندما تكرر الطلب.. التفتت منكشة إلى أمي وقالت بالتركية، ما معناه: |
:ـ. كيف اخرج، ما دام المشايخ، متجمّعين هناك...؟؟؟ |
واشارت إلى الباب... الذي كان الحج عبد الرحيم يلتفت اليه.. و (البيبي) تصدّهم عن الدخول بما تقذفه من كفّيها بعد أن تملأهما تلاوة أو كلاما أو شيئا لا يعرفه أحد سواها. |
وما كادت خاتون ترفع صوتها مستعجلة الماء لأبيها وقد بدا كأنه وأنفاسه تتحشرج حتى التفتت اليها أمي وقالت: |
:ـ. مين يا خاتون يقدر يخرج من باب المجلس، مادام هادول اللي بيقول عليهم العم عبد الرحيم موجودين في الدهليز؟؟؟ وباين عليه شايفهم عند باب المجلس كمان؟؟؟؟ |
وكان أغرب ما سمعناه من خاتون، قولها وفي وجهها ضحكة تغالب حبسها: |
:ـ. يا فاطمة... عمك عبد الرحيم يتهيأ له انّه شايف هادول اللي بيقول عليهم... هوَّه طبيعته كدة... ما يقدر أبدا يجلس في الضلام... طول عمره، ما ينام إلا والفانوس والع جنبه. |
:ـ. طيّب يا خاتون واللي بتقولي إنك انتي شفتيهم في بيتكم...؟؟؟ وهوة سمعهم بيقروا دلائل الخيرات. |
:ـ. اللي شفتهم انا... شفتهم من جِدْ يا فاطمة... واللي بيجروا ورا بعض في الديوان كانوا بيجرو ورا بعض... وعشان كده انا طحت على الأرض ما أدري عن نفسي. وهنا تدخّلت الدادة منكشة بلغتها العربية المكسرّة تقول: |
:ـ. مادام هادا مشايخ فيه... حج عبد الرحيم شفتو... انتي... خاتون هانم... كمان شفتي... خلاص... انا لازم اجلس هنا... مويه مافي... ما في... ابدا مافي.. |
ورأيت أمي تحبس ضحكة تكاد تنفلت، وهي ترى التعبير الذي بدا على وجه منكشة وهي تؤكد بطريقتها انها لن تجيء بالماء المطلوب... ولكن الحج عبد الرحيم حسم الموقف فجأة، حين نهض من استلقائه وجلس حيث هو في وسط المجلس وقال: |
:ـ. منكشة... هاتي القمرية... نمشي سوا سوا... نجيب مويه... كمان نولّع نار.. عشان نحرق بخور، نقرا الفاتحة... هيّا منكشة. |
وكانت القمرية هناك على الرف الخشبي الصغير... ألقى الحج عبد الرحيم عليها نظرة، ثم نهض، ومد يده إلى منكشة يستنهضها معه... لم تخيّب ظنّه فقد نهضت، وحملت القمرية وخرجا معا من باب المجلس، وعلى ضوء القمرية، لم نر خارج باب المجلس شيئا... ولكن (البيبي) عاودت رفع كفيها منحنية برأسها، ووجهها الأسمر، وعينيها الجاحظتين تحت حاجبيها الكثيفين، وخصل شعرها الأشيب، تحيط بخديها إلى عنقها... عادت تملأ كفيها دعاء وترتيلا ثم تقذف ما امتلأ فيهما في اتجاه الباب.. |
* * * |
ربمّا كانت تلك الليلة من اطول واعجب الليالي التي عشتها في طفولتي... كانت حكاية أو هي حكايات (الصُّلاّح) هذه تتلاحق واحدة بعد الأخرى، والذي يرويها هو الحج عبد الرحيم... والعجيب، انهم (هؤلاء الصلاّح) موجودون، ليس فقط في بيتنا أو في بيتهم، وإنما حتى في الهند... وما أكثر، وأغرب حكايات (صُلاّح) الهند... إذ لا يكتفون بالظهور في الظلام، مثلا... بل يظهرون للناس في وضح النهار... فما أكثر مارآهم على الصخور بالقرب من اشجار جوز الهند في البلدان التي يذكر اسماءها باللغة الهندية، في بومبي... وفي دلهي، وحتى في القطار وهو مسافر إلى حيدر آباد... بل وفي الباخرة التي جاء بها مع خاتون و (ما شاء الله) والبيبي... |
واستطاع الحج عبد الرحيم أن يحيي الليلية، فيحرمنا النوم الذي لم نذق له طعما مع جو الرعب والقلق، والحكايات التي تتناسل واحدة اثر الاخرى بلا انقطاع... ورأتني أمي انعس، ورأسي يسقط على صدري فانتهزتْها فرصة فنهضت اليّ وهي تقول: |
:ـ. ياخاتون... الولد تعب... لازم ننام... وانت يا عم عبد الرحيم... قلت تبغا تنام في الدهليز... منكشة تولع لك المسرجة... |
ولكن ما كادت أمي تلفظ كلمة (المسرجة) حتى انتفض الحج عبد الرحيم كمن لسعته عقرب وهو يقول: |
:ـ. مسرجة؟؟؟ ودهليز كمان؟؟؟ لا... لا يابنت شيخ افندي... في الدهليز صُلاح... وكمان شيخ افندي يمكن يخرج من الديوان... |
:ـ. طيب ما هو خلاص، بعدما بخرنا الدهليز والبيت كله... وانت قريت الفاتحة.. لازم الصُّلاح راحو... |
:ـ. لكن يا بنت شيخ افندي.. اذا كان ممكن القمرية!!! |
وضحكت أمي ضحكة خفيفة، وقالت |
:ـ القمرية تحت أمرك يا عم عبد الرحيم... خدها |
ومع ذلك تلجلج صوته وبدا كانه يتحشرج وهو يقول: |
:ـ. دهليز؟؟؟ في الدهليز لا... لا |
:ـ. طيب يا عم عبد الرحيم فين تنام...؟؟؟ نحن هنا في المجلس... وانت لازم في مكان تاني وهنا تدخّلت منكشة وقالت: |
:ـ. حج عبد الرحيم... ممكن... مكن في السطوح... سطوح بارد... كمان قمر فيه. ولكن قبل أن تتم جملتها بلهجتها الغربية، التفت اليها الحج عبد الرحيم يقول: |
:ـ. منكشة؟؟؟ انتي لازم ما في عقل... ما في مخ... انتي ما تعرفي هادا الصُّلاح... مشايخ كلهم يحبّوا السطوح.. يحبو نور القمر... نور النجوم طول الليل إلى صلاة الصبح دلائل الخيرات... وفاض الحال بأمي، فانفجرت في وجهه تقول بحدة بالغة وصوت مرتفع: |
:ـ. طيب وبعدين؟؟؟ نحن حريم وما يسير أبدا انك تنام معانا في المجلس... ما تهرجي انتي خاتون؟؟! وانتي يا بيبي.. ما تقولوله، اننا نبغا نننام شوفي الولد تعبان... والصبح قرّب ونحن ما عندنا الا هاد البَرابنْد... يعني لِمَتى؟؟؟ يا عم عبد الرحيم خد القمرية... وخد معاك بيبي... ولا إنتي يا خاتون قومي معاه خدوا المرتبه.. خدو الطُّوالة... الحاصل نبغا ننام. |
ولاشك ابدا في ان الحج عبد الرحيم كان رجلاً ماكرا، اذ قبل ان تنتهي أمي من كلامها رأيناه يعود إلى الاستلقاء بطوله على الأرض... وقد اغمض عينيه... وبادرت خاتون اليه، وهي تقول: مستعجلة مرتبكة، أو متظاهرة بكل ذلك: |
:ـ. مويه... مويه يا منكشة. |
ثم أضافت تقول لأمي: |
:ـ. هوه كده لمّا يزعل ويخاف... |
وكانت هناك كأس الماء. تناولتها خاتون من البيبي... ودلقت منها على وجه أبيها الذي بدا كأنه يصحو من إغماء... ولكن دون ان يتحرّك.. |
واخيرا حسمت امّي الموضوع كله... استنهضت منكشة.. وجعلتها تحمل المرتبة واللحاف والوسائد، وأخذت يدي في يدها، وفي اليد الأخرى حملت (القمرية).. وخرجنا معا من المجلس... ولكن قبل أن نخطو إلى حيث تريد، اغلقت باب المجلس على من فيه... صفقَتْه بعنف شديد، وقد احتقن وجهها... واتجهت بي ومنكشة خلفنا إلى حيث أخذنا نطلع السلالم إلى السطح. |
وهناك... على ارض السطح... وضوء القمر ساطع، وان كان في نصف حجمه، والنجوم تملأ السماء بقدر ما يسعها البصر.... افترشنا المرتبة... واضطجعنا... وكانت كأنها تصفعني... وضعت ذراعها تحت رأسي... وجعلتني استدير فالتصق بها تقريبا... ثم قالت للدادة منكشة ما فهمتْ منه هذه أن عليها ان تضطجع هي أيضا إلى جانبي... كان مضجعي بينهما... كان من تأدّب منكشة ما جعلها تتمنع، مستكثرة ان تنام على نفس الفراش الذي ننام عليه... ولكن سرعان ما شدّتها أمي من ذراعها... لتحسم الموقف... ولنأخذ في الأستسلام للنوم بعد كل الذي عانيناه من خاتون، وفريق حاشيتها طول الليل... وكان أعجب ماطر أعلى ذهني وانا بين أمي والدادة ذكرى تلك الليلة التي سهرتها إلى جانب بدرية، ورائحة عطر البنفسج في شعرها على الوسادة، التي اتسعت لرأسي وأنا أصغي إلى حكاياتها عن بنت نجم الدين افندي ذات الشعر الاشقر ولونها الابيض الجميل. |
* * * |
وتوالت الأيام والليالي، في بيتنا، في زقاق القفل... وكان المبلغ الذي استلمته أمّي لقاء تأجير الدكاكين في زقاق الزرندي، قد اتاح لها ان تستكمل الكثير مما يحتاجه البيت، من أواني المطبخ ولوازم صنع الشاهي، والفناجين، والاطباق وا (التباسي) الخ. |
وهذا إلى جانب عدد من قطع الأقمشة الحريرية والقطنية... ومن الحريرية ما كان يسمى (الجَنْفَص) وهو من أغلى الأقمشة، ومثله المخمل... وماازال اذكر لون قطعة (الجَنْفَصْ) تلك... كانت خضراء خضرةً تميل إلى السواد، أعنى اللون الأخضر الغامق، فإذا تحركت، تظهر عليها تموُّجّات متباينة التفتح، والعمق... أما قطعة المخمل (القطيفة) فهي أيضا سمعت منها أنها غالية ايضا وقد اختارت لونا احمر غامقا ايضا، اظن أننا نسميه في هذه الأيام (نبيتي)... وإضافة إلى الثياب التي اشترتها لي والأحذية، فقد اشترت ثيابا أخرى، وملابس داخلية، لنفسها ولي... ومن الحراج التقطت صندوقاً من نوع (السيسم) الثمين.... قالت انه يشبه الصندوق الذي نهبه اللصوص بعد خروج فخري من المدينة.... وماازال أذكر انها كانت بعد أن نعود معا من التسوق، في (جُوَّه المدينة)...، تجلس، وتخرج النقود الفضية والنيكل، وتعدها أو تحسبها وتحسب ما انفقت وما بقي... ولم أعد أرى الجنيهات الذهبية، اذا أصبحت تَصُرُّ ما بقي منها في منديل تشبكه في صدرها. ولا اشك في أنها كانت لا تأتمن منكشة... ولا اعرف سببا لذلك، اذ كانت تحرص على ان تحسب نقودها، اعني ما يبقى منها بعد التسوق، في غياب منكشة دائما... والأقمشة التي اشترتها، كلها ومعها النقود، كانت تضعها في الصندوق السيسم الذي يُقْفل بمفتاحٍ مزخرف تحرص دائما على ان يكون مع صُرَّة الجنيهات الذهبية في صدرها. |
وفي ذات ليلة بعد ان اشترت الأقمشة أخذت تتحدث، مع منكشة عما اذا كانت تعرف (خيّاطة)... وكانت منكشة لا تخيب الظن في معرفة الكثير... ومنه خياطة قالت انها ساكنة في منطقة أسمها (دار الضيافة) بالقرب من كهرباء الحرم... واضافت ان مدير هذه الكهرباء (خليل افندي) يسأل عن جدي، وعنها، فهو من (قازان) ويريد ان يراها وأن يراني انا ايضا فهو يعرف أبي... |
وماازال أذكر تلك الليلة، التي زارتنا فيها الخالة فاطمة وابنتها بدريّة واخريات من الجارات، ومنهن تلك الخيّاطة التي في دار الضيافة... عرضت أمي الفساتين الجديدة من (الجنفص) و (القطيفة)... ولكن الخالة فاطمة، لم تكتف بأن تراها هكذا... توسلت هي وبدرية، والخياطة أيضا، ان يروا أمي في الفستان القطيفة الاحمر... |
غابت أمي، عن المجلس... لحظات، وعادت وهي في هذا الفستان القطيفة الاحمر... ما كاد النسوة يرونها فيه، حتى شهقت الخياطة اعجابا... وحتى بدرية اخذت تتأمَّل أمي بنظرة فيها اعجاب بالغ، أما الخالة فاطمة جادة، فقد أخذت تكرر (الف ماشاء الله... الف ماشاء الله..)... يا فاطمة... أقولك الحق... وتلعثمت قليلا، وهي تلتفت اليّ... ثم قالت: |
:ـ. انتي ما يسير... ما يسير يابنتي، تستنيه وهوه لاحس ولا خبر... ولست أدري كيف أدركت انا انها تعني (أبي) الذي كثيرا ما دار الحوار بين أمي وبين الأخريات عن انه سافر، ولم يرسل حتى (مكتوب) يقول: اين هو؟؟؟ |
وأضافت الخالة فاطمة، وهي ماتزال تتلعثم: |
:ـ يعني يا فاطمة يا بنتي ناوية تقعدي كده؟؟؟ تنكفى على الولد؟؟ طيب لِمَتى؟؟؟ وهنا تدخلت الدادة منكشة بلغتها العربية المكسرَة تقول: |
:ـ فاطمة هانم... عريس... عريس فيه... بس؟!! |
وما أسرع ما قاطعتْها أمي بحدة وعنف تأمرها بالسكوت... والتفتت اليّ، وقد كنت اقف إلى جانبها... واخذتْني في حضنها... ضمتني بحرارة... وهي تقول: |
: هادا عريسي... ايوه يا خالة فاطمة عزيز هوة عريسي. |
|