رجّال البيت |
ولم يطل انتظارنا للضيوف... فقد اسرعت منكشة تفتح الباب، حين سمعتُه معها يطرق... كنت أسابقها في السلالم القليلة إلى الدهليز... كاد الثوب الطويل يتسبب في تدحرجي وسقوطي على حجر السلالم، ولكن أستطعت أن اسيطر على خطوتي... بل لقد سبقت الدادة إلى رفع رتاج الباب. وحين أُشرع مفتوحا، كانت (بدريّة) هناك... وقد لفتّ نفسها في (شرشف) مرقط الألوان، بحيث ينسدل من قمة الرأس إلى أخمص القدمين. ولكن احدى يديها كانت تمسك بالشرشف بحيث يحجب الفم وجزءاً من الوجنتين، لتظهر العينان والحاجبان... ولعل القارىء يستكثر أن أقف عند تفاصيل من هذا النوع، وقد كنت الطفل الذي لا ينتظر أن يقف عندها... ولكن ليعجب القارىء وليستكثر كما يطيب له، فإن الصورة التي أجدها الآن تسطع في ذاكرتي تستحق في تقديري، ان ترسم، لو كنت أجيد الرسم، أو لو كنت أستطيع أن أصف المشهد، كما رأيته يومها، وكما أراه الآن لفنّان يتسع صدره ـ وخياله ـ لاستيعابه... انه الانّبهار العفوي بالجمال يحفر في الذاكرة حتى أدق التفاصيل... حتى تلك الحبّات الصغيرة من الأزّهار تصنع من ألوان الحرير، وتُسيّجُ منديلَ الرأس، لتضيف إلى الجبهة أو الجبين (طعما) حلوا... بلى... حتى تلك الحبات من الأزهار، لا أنساها حين رأيتها تتلهّف على الجبين، وتكاد تتوخى موقعها من الحاجبين. |
كان الدخول عبر الباب إلى الدهليز يستلزم الانحدار درجتين أو أكثر... ولم تكن بدرية تجهل ذلك، إذ لم تكن هي المرة الأولى التي تدخل فيها البيت... ولذلك، كان لابد ان تستعين بمن يمد يده لها، أو أن ترتكز على الجدار... فاذا بها تضع يدها على رأسي... ترتكز عليها، ثم تهبط، وتدخل الدهيلز الذي كانت (اللمبة المعلقة) على الجدار تنشر في جوانبه ضوءاً كافيا ـ ربما لأول مرة ـ منذ عدنا من الشام. |
كانت ضحكتها تملأ ذلك الدهليز وهي تداعبني قائلة: |
:ـ. اظنك رايح تِفْضَلْ (قصُمة افرنج).. |
ولم أفهم، في تلك اللحظة أي معنى لـ (القُصمة) أو لـ (الافرنج)... وفي غمرة فرحتي البالغة برؤيتها تجيئ إلى بيتنا، نسيت أن أسأل أمّي عن (قُصمة الافرنج) هذه... ولكن فيما بعد ـ مع الأيام ـ عرفت أن من يكون بالغ القصر قامة، يطلقون عليه أو يمازحونه في المدينة بلقب (قصمة افرنج)... ولا أدري فلعلّ لها أصلا مهجورا في الفصحى. كأن بدرية حين ارتكزت على رأسي وجدتني أكثر قصرا مما كانت تتوقع فقالت أنها تخشى أن أظل قصيرا أو (قُصمة افرنج). |
حين وقفت بدريّة على عتبة باب المجلس، وكانت تضيئه القَمَرية واللمبة (أُم فتيلتين) قالت وهي تدبر بصرها فيما تراه: |
:ـ. اظن يا ستيته، هادا هوه المجلس، اللي كان يجلس فيه سيدي أحمد صفا، رحمة الله عليه... |
وقبل أن تجيبها أمّي بشيء أردفت تقول، وهي تضحك ضحكة خفيفة: |
:ـ. لا تقولي لأمّي... انا كنت أشوفه، من عندنا... في الظلام، وهوة قاعد هناك... في يده الكتاب الكبير... وعلى عينه (المِنْضَرة)... والرجال قاعدين حواليه... كان يقرَّبها من الكتاب. |
:ـ. ايوه يا بدريّة... هادا هوّه مجلسهم... اتفضلي... ادخلي.. اهلا وسهلا يا مرحبا. |
:ـ. المرحّب يسلم... يا ستيته، انتي تعرفي نجم الدين افندي؟؟؟ |
القت سؤالها وهي تخطو، بضع خطوات لتجلس هناك فيما يلي النافذة التي تطل على مدخل الزقاق. فتقدّمت منها أمّي تأخذ الشرشف الذي تتلفع به لتثنيه... ثم قالت: |
:ـ. من اسطمبول؟؟؟ |
:ـ. ايوه.. كده سمعت. |
:ـ. ما دام جا من اسطمبول لازم يا ستيته يكون مرسول من السلطان وضحكت أمي وهي تقول: |
:ـ. ليه هوّه كل واحد يجي من اسطمبول، لازم يكون مرسول من السلطان؟؟؟ الناس كلّهم يروحو اسطمبول ويجو منّها... حتى عم محمد سعيد... يا ما راح اسطمبول ورجع منها. |
:ـ. ايوه صحيح.. انا باسمع من أمّي أنّو أبويا، كان يسافر... يروح بلد اسمها ((مشقلب)) شويّه.... من بلدان الكفار... المسكوف... وكان لازم يقعد في اسطمبول، لمّا يروح من هنا.. وكمان لمّا يرجع من هناك.. |
:ـ. كلّهم... كلّهم كانوا لازم يروحوا بلدان الآباء والأجّداد... بلدان المسلمين اللي في التركمان... والقازاق... وبخاري... لكن ما في طريق الا من اسطمبول.. وبلدان المسكوف. |
:ـ. المسكوف من بلدان الكفار يا ستيته؟؟؟ |
:ـ. ايوه.... المسكوف، همّ الكفّار... همّ اللي قاعدين للمسلمين في الطريق بين اسطمبول.. وبين بلدان التركمان والقازاق وبخاري. |
وفي اللحظات التي كان يدور فيها هذا الحوار بين أمّي وبدريّة، كنت أنا اتساءل بيني وبين نفسي: أين يا ترى ينبغي أن أجلس؟؟؟ في نفسي طبعا أن أجلس بجانبها.. ولكن ماذا يمكن أن تقول أمي؟؟؟ لم أكن اعرف (الاصّول!) التي تعلمتها مع الأيام... وهي ان أجلس بعيدا عمّا يصطلحون على انه (الصدر)... وهو دائما لـ (الكبار)... وللضيوف... اما الأطفال فلا مكان لهم الاّ هناك... بالقرب من الباب.. وقد رأيتُ أمّي تجلس بالقرب من بدريّة فاخترت أن اجلس بينهما... تقدّمت بخطوات مترددة... وأِذْ لم يمنعني أحد جلست حيث أريد... ليس بجانبها.. ولكن بالقرب منها... ولم يكن في الحوار، ما يَفهمُ منه مثلى شيئا ولذلك، وكالعادة تقريبا... التزمت الصمت، ولكن ما أكثر ما كنت أنظر اليها... لو أنها لاحظتني، لرأت كيف كانت نظراتي تتلاحق، ولكن... الدادة قطعت قوافل هذه النظرات، حين لمحتها من بعيد، تشير بيدها، ان اذهب اليها... نهضت مسرعا ولكن قبل أن أوافيها حيث كانت تقف، سمعت أمّي تقول وهي تضحك: |
:ـ. ايوه يا عزيز... روح معاها... من بَدْري قالت لي انها ما تقدر تقعد في المطبخ وحدها. وضحكت بدريّة من جانبها وتساءلت: |
:ـ. يعني بتخاف يا ستيته؟؟ |
:ـ. كده بتقول... من بعد ما جا الزاكور.. وخرّج الساكن من الحنيّة اللي في الديوان وهيّه دايما خايفة.. |
:ـ. لكن يا ستيته، أمّي تقول انها ما سافرت معاكم... قعدت في المدينة طول أيام سفر برلك... وفي هادا البيت... كيف تخاف بعد ما كانت قاعدة لوحدها. |
:ـ. هيّه بتقول كلام ماله أول وماله آخر... كلام يخوّف اللي ما يخاف... ولو أخذت على كلامها كان لازم ما أقعد في البيت... لكن فين نروح.؟؟؟ بيتنا.. مالنا غيره... ومشيت مع الدادة، إلى المطبخ، وهي تضيء الطريق، بتلك ((المسرجة))، التي اعتادت أن تستعين بضوئها منذ كنا في الديوان... لم تقف شفتاها عن الهمهمة، بكلام أو أدعية أو لعلها قراءة آيات من القرآن... كانت تمسك بيدي في يدها، حين دخلنا المطبخ فعلا... كانت له نافذة صغيرة جدا، في أعلى الجدار.. لعلّها مسرب للدخان، أو للقليل جدا من الهواء... كان الظلام حالكا، رابضا في كل شبر من هذا المكان، الذي أدخله لأول مرة... أحست بيدها في يدي ترتجف قليلا... ثم فجأة رأيتُها تستدير وتتجه نحو الباب... فقد قررت أن تخرج دون أن تفعل شيئا على الاطلاق.. كانت خطواتُها خفيفة أو مسرعة... ادركني احساس بالخوف بحيث كدت اصرخ... ولكن كنا قد خرجنا من باب المطبخ، حين سمعنا عن بعد صوت أمّي في حوارها مع بدريّة... ثم، حركة اقدام مسرعة اكتشفت حين وصلنا المجلس، انها حركة أمّي وبدريّة معا، وهما تتجهان إلى النافذة التي تطل على مدخل الزقاق... وقبل أن استوعب شيئا مما ارى سمعت صوت رجل ينادي:ـ |
:ـ. شيخ افندي.. شيخ افندي.. |
ولم أكن أجهل أن (الشيخ افندي) هو جدّي رحمه الله..وما هي الا لحظة حتى رأيت أمّي تقترب من فتحة النافذة وهي ترفع صوتها قائلة: |
:ـ مين... مين؟؟؟ |
ولم يكن في وسعي أن أفهم شيئا... كان أول ما أبرق بذهني أنه صوت (أبي) قد عاد من سفره البعيد... وهو الذي ينادي جدّي..... ولكن |
:ـ. مين... مين؟؟؟ |
ليس معقولا ان تقول أمّي (مين؟؟؟) هذه، إذا كان الذي ينادي جدّي هو (أبي)... كان هذا منطقي... انها تعرف صوته طبعا فكيف تقول (مين؟؟؟).. اقتربت من النافذة.. ووقفت ببينهما.. أمّي وبدريّة، وحاولت أن أرى شيئا. ورأيت فعلا على ضوء شعلة يرفعها أحدهم أكثر من ثلاثة أو أربعة أشخاص، بينهم امرأتان، إحداهما في (الملاية) التي تشبه تلك التي ترتفقها أمّي.. والأخرى فيما عرفت مع الأيام ان اسمه (جامة) وهي حجاب المرأة المسلمة في الهند... حجاب له ما تدخل في أعلاه رأسها بالكامل، ثم ينسدل الباقي على جسمها بالكامل أيضا فلا سبيل إلى أن يرى أي مخلوق منها شعرة أو ظفرا... أما كيف ترى هي طريقها والناس حولها، فعبر ثقبين أو خرمين بقدر فتحة لكل من العينين.. وكل فتحة لها ما يشبه الشبكة تسمح للعين أن ترى، ولكن دون أن يراها من يحاول أن ينظر اليها. |
وعاد الصوت الذي ينادي (شيخ افندي) يقول: |
:ـ. فين شيخ افندي؟؟؟ انا عبد الرحيم... افتحو الباب. |
والتفتت أمّي إلى بدريّة، بنظرة فيها دهشة واستغراب، ولكنّها تمالكت نفسها لتقول |
:ـ. عبد الرحيم... هادا ابو خاتون.. بس.. |
ولاحقتها بدريّة تقول: |
:ـ. يبغاكي تفتحي الباب... باين عليهم يبغوا ينزلوا عندك.. |
:ـ. يا مرحبا بهم.. بس كيف؟؟ يعني... واستدركت، وهي ترفع صوتها تجيب عبد الرحيم: |
:ـ. طول بالك شويّة يا عم عبد الرحيم... نحنا فوق.. |
:ـ. لكن... لكن الشيخ افندي... الشيخ افندي فين؟؟ |
كان واضحا أن أمّي مرتبكة جدا... لا تدري كيف تتصرف ولا ماذا تقول... لم يكن في وسعها أن تقول للرجل أن (الشيخ افندي) غير موجود... مات... راح مع (اللي راحو!)... وليس في البيت رجل غير هذا الطفل... عزيز ولد زاهد. وعاد الرجل يرفع عقيرته قائلا:ـ. |
:ـ. الشيخ افندي غير موجود؟؟؟ طيب فين عبد الغني... مراد... زاهد؟؟؟ |
وكانت المفاجأة الصاعقة أن تسقط أمّي على الأرض... وان اسمعها تجهش بالبكاء ويختنق صوتها فتقول: |
:ـ. كلهّم... كلهّم يا عم عبد الرحيم.. كلهّم راحوا.. |
* * * |
الخالة فاطمة جادة، هي التي استطاعت ان تستوعب الموقف كلّه... فقد كانت في طريقها من بيتها، الينا.. لتلحق بيدريّة كما وعدت.. ولقد رأيتها تدخل وراء الدادة، ثم تتقدم مسرعة حيث كنا بدريّة وانا عاكفين على أمّي وقد وضعت رأسها في حضن بدريّة وما زالت تبكي بحرقة.. قالت: |
:ـ. هادا عبد الرحيم، أبو خاتون... دوبهم وصلوا من ينبع... الجمّال ما قدر يدخل بالجملين كان يبغا احد يفزع له... ما يدري أنهم كلهم رحمة الله عليهم... |
ولم تقل أمّي شيئا فقد كانت ماتزال تكابد نوبة البكاء والانفعال التي طرأت عليها حين سمعت الأسماء التي سأل عنها عبد الرحيم.... ولكن بدريّة قالت: |
:ـ. طيّب يا أمّي.. لكن هادا كان يبغا ينزل عند ستيته.. كان يقول افتحوا.. |
:ـ. هادا يابنتي ما يدري عن شيء.. يظن الدنيا زي ما يعرفها سافر مع خاتون قبل فخري ما يسفَّر الناس... |
:ـ. طيب وكيف يسوّي الليلة... فين ينام هوة والجماعة؟؟؟ |
:ـ. بيتهم موجود... انا فهمّته كل شيء... وما دام عندهم (المشعل) يقدر يدخل البيت... والحوايج اللي على الجمال... يخليها عند دخلة الزقاق... ينام عندها واحد من اللي جايين معاه... اظنهم من جماعته الهنود. |
* * * |
وأخذت الخالة فاطمة مجلسها في الصدر... وهي تقول: |
:ـ. هيا يا فاطمة.. بلاش بكا... البكا عمره ما يرجّع اللي راحو... اذا كنتي متوضية قومي صلّي ركعتين... وتعالى نقعد نقرأ على روحهم الفاتحة... ونقول الحمد لله. |
وما هي الاّ دقائق حتى ارتفع صوت المؤذن لصلاة العشاء... لتقول الخالة فاطمة انها متوضئة، ونهضت بدريّة وأمي، إلى بيت الماء للوضوء والصلاة... وقراءة الفاتحة على ارواحهم. |
والتفتت الخالة فاطمة اليّ بعد الصلاة وقالت:ـ |
:ـ. انت يا ولدي... انت رجّال البيت... ليه ما ردِّيت على عبد الرحيم وهوَّه رافع جاعورته بينادي الشيخ افندي؟؟ |
لم أحر جوابا... ولكن استقر في نفسي منذ تلك اللحظة إحساس بأنني (رجّال البيت). |
|