لا مكان لنا إلا بيت الأحزان |
استيقظت بعد ذلك السهر الطويل الذي نعمت به، مصغياً لأحاديث بدرية الهامسة عن أبيها وأمها، لأرى نفسي مطروحاً على طوّالة في أحد طرفي دكة الديوان... لم أر أحداً حولي، ولكني لم أشعر بقلق أو خوف ولكني أخذت أسمع صوت الخالة فاطمة جادة آتياً من نوافذ المجلس المطلة علْى الديوان... كانت محتدمة ومنفعلة دون شك... وفي تلك الساعة المبكرة من الصباح، لا بد انها كانت تتكلم، أما مع بنتها (بدرية)، وأما مع أمي... وكان اسم (نجم الدين أفندي) هو الذي يتردد في حديثها... فأدركت بطبيعة الحالة ان المشكلة التي انتهت البارحة إلى طرد العم محمد سعيد من البيت... لأنه كما قالت، ليس له فيه الا ملابسه وكتبه. |
ولم أكن أعرف الطريق إلى المجالس حين خطر لى أن الحق بأمي التي رجحت انها هناك، فظللت مضطجعا، مفتوح العينين... مرهف السمع، منتظرا ان أرى أي مخلوق يدخل الديوان... وسرعان ما أحسست أني اتمنى لو أن بدرية هي التي تجئ... ومع الأمنية العابرة تذكرت اني كنت إلى جانبها وعلى الوسادة، ذلك الشعر، الذي كانت تفرح منه رائحة العطر الجميلة... وما كادت الصورة تتكامل في ذهني، حتى استرعى انتباهي ان ذلك الأريج، مايزال يعبق في الديوان... فإذا بي أسرح في عالم غريب وبعيد... في ذلك الطريق إلى الربوة التي عدت منها في حلب، وقد حملت حزمة من (الخبيزة)... وأسعدتنى ذكرى فرحة خالتي بها، وعلى الأخص حين تحلقنا لأكلها بعد أن قامت أمي بطهوها... سرحت، في ذكرى تلك الربوة بأزهارها والعشب الأخضر يغمر أرضها، ولكن هذه المرة وعلى أجنحة الخيال، ليس مع الصبية من أبناء الزقاق الذي كنا نسكنه، وانما مع (بدرية) التي ظللت اتساءل أين هي يا ترى... لم أسمع لها صوتاً، يحاور أمها (الخالة فاطمة)... عصر قلبي ضيقاً احتمال أن تكون قد ذهبت إلى بيتها مع زوجها عبد المنان... ولا أدري كيف، أو لماذا خالجني احساس، بالضيق من عبد المنان هذا الذي يغلب عليه الصمت، فلم اسمعه ينطق كلمة واحدة، خلال جلسة البارحة بكل ما تفجر فيها من غضب الخالة فاطمة على العم محمد سعيد. |
وفجأة، سمعت خطوات ثقيلة بطيئة، تقترب من مدخل الديوان... التفت، لأرى الدادة منكشة تدخل، وفي يدها اليسرى زنبيلٍ أدركت انها قد ملأته بما تسوقته، في عودتها من المكان الذي باتت فيه... رأتني مضطجعاً، فتقدمت نحوى وهي تردد كلمات التدليل التي اعتادت ان تخاطبني بها... كلمات بلغتها التركية، ولكني أعرف معناها، ولا أخفى اني أصبحتُ أرتاح اليها، خصوصاً وأني افتقدت أمثال هذه الكلمات، ولم أعد أسمعها، منذ توفيت خالتي... كانت أمي صارمة يغلب على طريقتها في التعامل معي، الجد، أو هو توخي البعد عن الميوعة، ولا أدري حتى اليوم، من الذي رسخ ذلك في مزاجها أو طبيعتها، لأنها تختلف، ليس عن خالتي فقط وانما حتى عن جدي نفسه الذي كان يغمرني بالكثير الذي لن أنساه من العطف. |
تقدمت الدادة نحوى، فنهضت، وأخذتْ يدي في يدها، ومشينا معا نحو (بيت الماء)... حيث انتظرتنى عند الباب المغلق إلى ان قضيت حاجتي... ثم عكفت تغسل وجهي وتدلكه أو تدهنه بالصابون... أحسست بالانتعاش والارتياح... ولعلى أخذت أتأمل وجهها بنظرات فهمتْ هي منها نوعاً من الرضا والامتنان... فإذا بها تحضنني، وتقبلني... وتدمع عيناها... وسمعتها تهمس بكلام يتعثر في فمها أو يختنق، بالتركية التي لا أفهم منها الكثير، ولكن كان منها كلمات (الأب... أو ((أبوك))) أو شئ من هذا القبيل... لم أُعنَ أن أسألها ماذا تقول، ولكن لم استطع أن أصرف نظري عن الدموع في عينيها... لا شك أن هناك علاقة بين (الأب.. و ((أبوك))) وبين الدموع التي أخذت تذرفها، ولم أسألها ايضاحاً.. إذ فضلت أن أخبر أمي عندما تجى: |
ورأيت أمي تدخل ولكنها متهيّئة للخروج... إذ لا ينقص حجابها المألوف الا (البيشة)... داخلني قلق غامض حين جال بذهني ان (بدرية) ليست في البيت... فلا يتاح لي أن أراها،،، فإذا خرجنا الآن... فمتى يا ترى يمكن أن أراها مرة أخرى... ثم إلى أين ستذهب والوقت مايزال مبكرا؟؟؟ كانت أشعة شمس الصباح، تترامى على فوهة الجِلا ضعيفة باهتة... ولم أُلق بالا إلى الحديث الذي أخذ يدور بين أمي والدادة (منكشة)، إذ كنت مشغول الذهن ببدرية وذكرى تلك الربوة بأزهارها والعشب الأخضر الذي يغمرها في حلب... ولكن... وفجأة أحسست كأن أمي تنتزعنى من حلم لذيذ... إذ قالت: |
:ـ. هيا نروح البيت. |
:ـ. بيتنا؟؟؟ |
:ـ. ايوه بيتنا... عشان نفطر، وبعدين نروح الحراج. |
وأخذت الدادة، من جانبها تجمع، من دكة الديوان، بعض متعلقاتنا بينما اتجهت أمي وهي تثبت (البيشة) على وجهها نحو الباب. |
كان بيتنا يواجه باب بيت الخالة فاطمة، والمسافة بين عتبتي البابين ربما لا تزيد عن متر وبضع سنتيمترات.. وتقدمتنا الدادة تفتح الباب وما كادت حتى وجدت يد أمي كأنها تدفعني أمامها بحركة لم تخل من شدة... فهمت بهذه الحركة، انها منفعلة متوترة ووجدتنى أربط، بين صوت الخالة فاطمة وهي تتحدث في المجلس، بتلك النبرة الحادة الغاضبة وبين توتر أمي وخروجنا المبكر جدا إلى البيت. |
انصرفت الدادة إلى تجهيز الشاي والفطور وأمي ملتزمة الصمت ولكن كان واضحاً جداً انها مشغولة الذهن، وغاضبة، وتقترب من لحظة انفجار عاصف عند أي بادرة... ولذلك فقد حرصت على التزام الصمت من جانبي دون أن أجرؤ حتى على اكتشاف ما في الزنبيل الذي يحمل ما تسوقته الدادة... وكنت أشعر بالجوع في الواقع فتشاغلت بانتظار الشاي الذي يستغرق وقتاً طويلاً بين اشعال النار، وغَلْي الماء وما إلى ذلك من مراحل التجهيز. |
لفت نظري أن أمي لم تخلع ملاءتها، مما أكد انها تستعجل الخروج إلى الحراج كما قالت منذ قليل... وفي نفس الوقت لم تكن تلتفت اليّ، أو إلى الدادة، وانما تشاغلت بفتح صرة الأحذية والبدلة (البحارى) التي اشتريناها من (مغازة) اسماعيل افندى. |
عالجت أحد الحذاءين الجديدين، واختارت الأسود، ونادتنى أن أقترب منها، وحين مددت قدمى، رفعت وجهها، وحدقت في وجهي... وهي تقول: |
:ـ. يبغا لك دورة وصباحية، الين رجلك ترجع تسير رجل بني آدم. |
وكانت تعني، انها قذرة، وكاد الحذاء القديم الذي كنت ارتفقه بدون جورب، يستهلك الأصبع الكبير الذي يبصبِص من الموقع الممزق المهترئ... قالت هذه الكلمات، ثم طلبت من الدادة أن تزودها بقطعة قماش مبللة بالماء والصابون... ما كادت تتناولها، حتى أخذت تدلك الأصبع الذي رأيت أنه قد تشقق... واسودَّ... فأدركت مدى (الدورة والصباحية) التي تحتاجها رجلي فعلا لتعود رجل آدمي معقولة. وبعد أن جعلتني ارتفق الجورب، والحذاء الأسود الجديد، اقترحت ان أمشي به، ففعلت سعيدا مزهوا... وابتسمتْ، وهي تسمع وقع المشية على الحجر في أرض الديوان، لأن ذلك الحذاء المهترئ، كان قد انعدم له مثل هذا الوقع منذ زمن طويل. |
ما كدنا نفرغ من تناول الفطور، والشاي، حتى نهضت أمي، وهي تقول للدادة: |
:ـ. نحن رايحين الحراج... يمكن ما نجي الا بعد صلاة الضهر... ثم أكملت، باللغة التركية ما فهمت منه انها تنتظر ان تجد الغذاء جاهزاً.... خرجنا، إلى الزقاق، ومنه إلى الشارع، حيث لم تنس أمي ان تقف عند دكان العم صادق، وان تسأله عن بنتيه... ثم عندما سألها عما إذا كانت لا تنوي أن تنتقل من البيت، سمعتها تفاجئني بأنها لا تنوي أن تنتقل منه، وانها ذاهبة الآن إلى الحراج لتشتري ما تحتاجه من أثاث. ثم قالت: |
:ـ. هوة البيت اللى ما لنا غيره... بيتنا يا عم صادق... فتحنا عيوننا فيه... وفين نروح أنا والولد... فين نِتْهَجْول؟؟ |
قالت هذه الكلمات.... ثم انطلقنا معا نحو الحراج، والعم صادق يقول: |
:ـ. خير ما تسوى... والحراج مليان... وكل شيء فيه رخيص... ربنا يكون في عونك.. |
* * * |
لم تكن عندي أي فكرة عن الاثاث الذي نحتاجه في البيت... كانت فيما يبدو قد وصلت إلى قرارها في البقاء في البيت منذ ذلك الشجار الذي وقع بينها وبين الدادة مساء أمس، وماازال معجباً، ببراعتها في المساومة. وحرصها على ان لا تشتري القطعة من الأثاث الذي اشترته الا بعد ان تجيد فحصها والتأكد من جودتها، وقد اشترت (حنبلا) كبيرا من الذي كانوا يسمونه (هندى)... بديع الوان التخطيط، كما اشترت طوالات من (الطرف)... وعددا من المساند، وما يسمى (الدفاعات) مكسوة كلها بالدومسكو الأزرق المشجر... ومعها مجموعة من (الشراشف) التي تبسط على الطوالات والمساند ... ثم وقفت عند أكوام من المراتب القطن و المخدات... اشترت حاجتها، وكان هناك من قال انه (منجد) ومستعد أن يجئ إلى البيت لتنجيد القطن، واعادة حشو المراتب والوسائد، وحتى اللحافين... في قماش قالت هي انه لا بد ان يكون جديدا، وأكد هو أن تاجراً عند باب (المصري) عنده أفضل أنواع القماش الذي يصلح لهذا الغرض. |
باختصار، أصبح ما استطاعت ان تشتريه أمي من الحراج مجموعة ضخمة من قطع الأثاث ومع انها كانت عندما تطمئن إلى ان ما معها يحتمل أو يكفي لشراء قطع أخرى، تقدم على شراء لوازم أخرى، منها (سماور) متوسط الحجم... وابريقين للشاي من الصيني المذهب الفاخر ومعهما ستة أكواب، وملاعق... ولكن القطعة التي ظلت تترد وتحجم في المجازفة بشرائها كانت (مفرشة) كما يسمونها وهي (السجاد) العجمي... ولكنها في النهاية غامرت، ودفعت قيمتها جنيها عسمنلياً كاملاً. |
عندما مررنا في طريق عودتنا إلى البيت، ومعنا أو حولنا عدد من (الحمّال) الذين حملوا المشتريات، رآنا العم صادق، فهتف: |
:ـ. مبارك.. مبارك يا فاطمة... |
أما عندما دخلنا البيت، ورأتنا الدادة، ومعنا هذه المشتريات، فقد أدهشني انها بدت فرحة، ضاحكة السن، وكأنها كانت تعرف أين ينبغي ان توضع هذه القطع من الأثاث، فقد تقدمت جميع الحمال إلى الدور العلوي من البيت... وفهمت، فيما بعد، ان فصل الصيف والسموم قد قارب النهاية، ولذلك فلا بد ان يكون الاثاث في المجالس العلوية. وما كاد (الحمّال) ينصرفون، حتى شرعت أمي تتجول في المجالس في هذا الدور،... لاحظتْ انه يحتاج قبل ان يفرش أو يؤثث، إلى عملية تنظيف... ولا أدري ما الذي قالته للدادة، التي فهمت انها بعد ان نتناول طعام الغذاء، ستجئ بمن يساعد، أو يقوم بعملية التنظيف... |
لا شك ان الخالة فاطمة جادة، قد أحسّت أو هي قد رأت، الحمّال يدخلون بتلك المجموعة الضخمة نسبياً من الأثاث... فإذا بنا نسمع في الدهليز، (تصفيقاً) متوالياً... ما كادت أمي تتساءل: (مين ؟؟؟).. حتى سمعنا صوت الخالة فاطمة نفسها تقول: |
:ـ. أنا يا فاطمة.. انتي فين؟؟ |
وحين صعدت الخالة فاطمة، والقت نظرة شاملة على قطع الأثاث، وعلى الأخص على تلك (المفرشة) العجمي... بدا عليها الارتياح والاعجاب، وقالت بنبرة تشجيع ورضا: |
:ـ. ايوه يا بنتي.. هادا هوه البيت اللي اتولدتِ فيه... وولدك كمان اتولد فيه... افرشيه... وبعدما تفرشيه... بكرة ولا بعده ان شاء الله... نيجي كلَّنا نقبل ونعيد هاديك الأيام الحلوة. اللي ربنا كريم يعيدها عليكي... بس لما تفرحي بوصول (زاهد)... لابد أنه في الطريق... بيقولوا.. الطريق انفتح خلاص وكل الناس اللي هَجْوَلهْم فخري، بيرجعوا... |
كان التعبير الذي سطع على ملامح أمي يؤكد بداية احساسها بالاطمئنان فقد ظلت تردد عبارات الشكر والامتنان. و (ان شاء الله...) و (ربنا كريم) الخ.. وفيما كان الحديث يدور بينهما جاءت الدادة منكشة وهي تلهث وتقول ما معناه ان (الغذاء جاهز)... وهنا أصرت أمي بحماس شديد، ان تتناول الخالة فاطمة غذاءها معنا.. وكان.. وتحلقنا حول المائدة المبسوطة على أرض الديوان، وقد بسطت عليؤها الدادة ما عندها من الحنبل القديم المهترىء... |
وعادت الخالة فاطمة إلى الحديث عن العم محمد سعيد، وعلاقته ببنت (نجم الدين افندي) واحتمال انه سيتزوجها لأنه يريد (ولدا)... وعندما سألتها أمي عما إذا كان قد خرج من البيت.. صفَقَتْ الخالة صدرها بيدها وهي تقول: |
:ـ. وهوه هادا عمره يسير؟؟؟ يعني بهون عليه أنا انو يخرج من البيت.. ثم بعد لحظة صمت. قالت: |
:ـ. بس بيني وبينك يا فاطمة... انا زعلت من (بدرية)... دى بدل ما تهدى بيننا، قامت من الصبح بدري.. وزي ما قال لها في الليل.. لمت له ملابسه، وحطتها في شنطة السفر الكبيرة.. وجمعت له الكتب اللي في الرفوف... وراحت مع جوزها.. وتركتني لوحدي... وحسينة شوفيها ما جات من اللي راحت عندهم... وجا عمك محمد سعيد، وجايب معاه حمّال يشيلوله الشنطة والكتب.. |
وهنا قاطعتها أمي بنبرة قلقة قائلة: |
:ـ. وبعدين؟؟؟ |
:ـ. وهوه ده يبغا له سؤال؟؟؟ أنا طردت الحمّال اللي جايبهم، وقعدت أبكي... ما هان عليه يشوفني قاعدة أبكي... واتصالحنا... لكن... |
:ـ. لكن ايه يا خالة؟؟؟ |
:ـ. لكن أنا شايفتهُ ما صفي... وان جاكي ظني.. هادي البنت بشعرها الأشقر، وبياضها آخذة عقله... يمكن يا فاطمة.. يمكن يتجوزها.. |
* * * |
لأول مرة، منذ عدنا إلى المدينة ودخلنا بيتنا، استطعت أن أتجول في غرفة من الدهليز إلى السطح... وحين كانت الدادة منكشة، وزميلة لها تقومان بتنظيف الغرفة الكبيرة... أرضها، ونوافذها، وأبوابها.. والحمام.. كنت أنا أتساءل بيني وبين نفسي: ترى أين كان ينام جدي... وخالتي... ثم فجأة وعلى غير انتظار وجدت نفسي أتساءل... وأمي مع أبي (زاهد) أين كانا ينامان؟؟؟ أصبحت لا أجهل أن الزوجين ينامان معا... وخطر لي أن أسألها وهي منصرفة إلى تنسيق وضع الأثاث... فاقتربت منها وكدت أوجه إليها سؤالي الحرج... ولكني أحجمت... كأني قد أحسست بشيء من الكسوف... التزمت الصمت ولكن ظل في نفسي تطلع إلى أن انتهز فرصةً ما فأسألها. كان من ما اشترته أمي من الحراج... ما يسمى (قمرية) وهي مصباح من النيكل، يملأ كيروسين، وفي جوفه تحت وعاء الكيروسين وعلى رأسه (الفتيلة) العريضة. جهاز يُدار له زنبرك كما تدار أو تملأ الساعات... فتدور مروحة صغيرة من النحاس أو الصفر..... وكانت فرحتها غامرة بالقمَرية ومعها لمبة ذات (فتيلتين)، ولمبة أخرى من النوع الذي يعلق في الجدار. |
أذكر تلك الليلة الأولى التي أضيء فيها المجلس، الذي بسط على أرضه الحنبل الهندي الكبير، وتلك السجادة العجمي... وصفت في الصدر والجانبين الطوالات، والمساند والدفاعات، اذكر كيف تغير احساسي بالضيق والرهبة من الظلام الذي كان يكمن في الدهليز على الأخص.. |
أخذت لنفسي مكانا مما يلي النافذة المطلة على الزقاق، بينما جلست أمي على الأرض وأمامها بين يديها، الحقيبة الصغيرة السوداء التي أصبحت تضع فيها النقود منذ قدمها لها العم اسماعيل... كانت تصنف قطع النقد الفضية، والنيكل... والجنيهات العسمنلي التي كان ما بقي منها أربعة جنيهات... وبعد أن فرغت، من الحساب والتصنيف، أصدرت زفرة طويلة وهي تقول: |
:ـ. الحمد لله... اللي اشتريناه كله بتراب الفلوس.. |
* * * |
كان علينا في تلك الليلة أن ننام أنا وهي، على طوالتين، وان نرتفق نفس اللحاف المهترىء القديم.. لأن المنجِّد سيجيء غدا... ولن انسى قط، أنها، في غمرة ارتياحها لما تم لها من شراء الأثاث، والقمَرية والاضاءة، التفتت إليّ، وأخذتني في حضنها.. وضمتني إلى صدرها بحرارة.. وحين رفعت عني ذراعيها.. ورفعت وجهي إلى وجهها رأيت الدموع تنهمر من عينيها... لم أفهم سبباً للبكاء... ولكن كان في نفسي ذلك السؤال الحائر، عن (ابي)... ليس من هو، فإني سمعت منها ومن جدي رحمه الله، وحتى من خالتي أيام مرضها في حلب أنه (زاهد)، وأنه (عالم)... وأنه (ختم القرآن كله) في صلاة التراويح ليلة 27 رمضان... كان السؤال الذي يلح عليّ هو: أين كانت أمي، ومعها ذلك الأب.. أين كانا ينامان في هذا البيت؟؟؟ ثم أين هو الآن لقد سمعت من الخالة فاطمة، ان الذين (هَجْولَهم) فخري يعودون إلى المدينة.. فلماذا لم يعد أبي؟؟؟ |
ولكن.. مع كل هذا الالحاح والقلق لم أجرؤان اسألها... وعلى الأخص حين رأيتها ماتزال تبكي... وما كادت تدخل الدادة منكشة، وتجلس، حتى أخذت أمي تتحدث اليها، وكان الحديث، عن الذين كانوا يملأون هذا البيت... وها هي الليلة.. وحدها، لم يبق منهم أحد. |
* * * |
|